الأصل في الاشتقاق
جاء أصل هذه الكلمة من الفعل (رَزَقَ)، و(الرزّاق) من صيغ المبالغة على وزن (فعّال)، والرِزْق مصدر بمعنى: عطاء الله جل ثناؤه أو ما ينتفع به، وتُجمع على أرزاق، وارتزق الجند تعني أنهم أخذوا أرزاقهم، وقوله تعالى:{وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} (الواقعة:82)، أي شكر رزقكم بتقدير المضاف ليصح المعنى.
وقد يسمى المطر رزقا، وذلك في قوله عز وجل: {وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها} (الجاثية:5)، وقال تعالى في محكم التنزيل: {وفي السماء رزقكم} (الذاريات:22)، يقول الإمام أبو جعفر الطبري: " وفي السماء: المطر والثلج اللذان بهما تخرج الأرض رزقكم، وقوتكم من الطعام والثمار وغير ذلك"، فجعل الرزق مطراً لأن الرزق يكون منه.
ومن معاني الرزق: إباحة الانتفاع بالشيء على وجه يحسُن، ويستدلّون له بقول الله تعالى: {ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا} (النحل:75).
المعنى الاصطلاحي
الرزاق: هو المتكفل بالرزق والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وسع الخلق كلهم رزقه ورحمته، فلم يخص بذلك مؤمنًا دون كافر، ولا وليًا دون عدو، وما من موجود في العالم العلوي أو السفلي إلا متمتع برزقه مغمور بكرمه، يوصل الرزق إلى محتاجه بسبب وبغير سبب ، وبطلب وبغير طلب.
ومما ذكره الإمام البيهقي تفسيراً لاسم (الرزاق) قوله: " المفيض على عباده ما لم يجعل لأبدانهم قواما إلا به, والمنعم عليهم بإيصال حاجتهم من ذلك إليهم لئلا ينغص عليهم لذة الحياة بتأخره عنهم, ولا يفقدوها أصلا لفقدهم إياه".
أنواع الرزق
رزق الخالق سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين:
القسم الأوّل: الرزق العام، وهو الذي يشمل البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، والكبير والصغير، والعاقل وغير العاقل، بل يشمل جميع ما تدبّ فيه الحياة من مخلوقاته، فيرزق الحيتان في البحار، والسباع في القفار، والأجنّة في بطون الأمهات، والنمل في باطن الأرض، فما من شيءٍ إلا وله قسمه وحظّه من الرزق: قوته وغذاؤه وما به عيشه، قال الله تعالى: { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود:11) فتكفّل بأرزاق خلائقه وضمنها تفضّلاً منه وتكرّماً.
وهذا النوع من الرزق قد يكون من الحرام وقد يكون من الحلال، والمرجع في ذلك إلى الشرع؛ فإن أذن في هذا الرزق أن يتناوله العبد أو يتحصّله فهو المباح، وإن كان غير مأذون للعبد فيه فهو الحرام الذي يأثم صاحبه به، وهو في كلا الحالين رزقٌ، وعمومه جاء من ناحيتين: عمومه كمّاً ليشمل الخلائق على اختلاف أنواعها، وعمومه كيفاً ليشمل ما أحلّه الله وما حرّمه.
القسم الثاني: الرزق الخاص، ويعنون به الرزق النافع للعباد، والذي يستمرّ نفعه في الدنيا والآخرة، ويشمل رزق القلوب وعطاءها بالعلم النافع، والهداية والرشاد، والتوفيق إلى سلوك الخير، والتحلّي بجميل الأخلاق، والتنزّه عن رديئها، وهذا هو الرزق الحقيقي الذي يفيد العبد في معاشه ومعاده، يقول الله تعالى: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا} (الطلاق:11)، وفي موضع آخر: {هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب*جنات عدن مفتحة لهم الأبواب*متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب*وعندهم قاصرات الطرف أتراب*هذا ما توعدون ليوم الحساب*إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} (ص:49-54).
كما يشمل هذا القسم رزق الأبدان بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه يوم القيامة، بأن يغني الله عبده بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، وهذا الرزق مما اختصّ الله به المؤمنين، قال تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} (الأعراف:32).
ويلخّص الإمام ابن القيم هذين النوعين بقوله في النونية:
وكذلك الرزاق من أسمائه والرزق من أفعاله نوعان
رزق القلوب العلم والايمان والـرزق المعد لهذه الأبدان
وإدراك الفرق بين هذين القسمين والتفريق بين الرزق الخاص والعام يجيب على مسألة مشهورة، وهي مسألة: هل يُسمّى الحرام رزقاً أم لا؟، فإن قُصد به الرزق على الإطلاق العام فهو يدخل فيه، وإن قُصد به الإطلاق الخاص فلا يدخل.
وقد استدلّ الإمام ابن الخطيب في جواز تسمية الحرام رزقاً على الاعتبار العام بقوله: "حجة الأصحاب من وجهين، الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظا ونصيبا، فوجب أن يكون رزقا له،الثاني: أنه تعالى قال: {وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود: 6) ، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً".
أدلة هذا الاسم من النصوص الشرعيّة
من الآيات قوله تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذريات:58)، وقوله تعالى:{وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} (سبأ: 39)، وقول الباري سبحانه: {وارزقنا وأنت خير الرازقين} (المائدة:114)، وفي آية أخرى: {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين} (المؤمنون:72).
ومن الأحاديث ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله قد غلا السعر فسعّر لنا، فقال: (إن الله هو المسعّر، القابض الباسط الرازق) رواه ابن ماجة.
آثار الإيمان بهذا الاسم
أولاً: اليقين بأن مقاليد الرزق بيد الله تعالى وحده، وإدراك ارتباطها بمشيئته سبحانه، فيُعطي هذا ويمنع ذاك، ويُغني هذا ويُفقر ذاك، لحكمة بالغة لا يعلمها إلا هو، وهذه اللطيفة الإيمانية نستقيها من قوله تعالى:{والله يرزق من يشاء بغير حساب} (البقرة:212)، فقيّد الرزق بالمشيئة؛ لأن من العباد من يكون الغنى خيراً له، ومنهم من لا ينفعه الغنى لأنه يُفسده ويُطغيه فيكون الأنسب له أن يُقْدر عليه رزقه، وفي كلا الحالين نؤمن بأن الله تعالى قد اختار الأكمل لعباده والأنفع لهم.
ثانياً: الإيمان باسم الله (الرزاق) يثمر صدق التوكّل على الله عز وجل، وذلك من خلال الإدراك أن العبد مكتوبٌ له رزقه منذ اللحظة التي تُنفخ فيه الروح وهو في بطن أمّه كما صحّ بذلك الحديث: (ثم يبعث الله إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقول: اكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي، أم سعيد) رواه البخاري، وذلك أدعى أن يُعلق المرء قلبه بالله وحده وألا يلتفت إلى أيدي المخلوقين، قال تعالى: {فابتغوا عند الله الرزق} (العنكبوت:17)، فأمر بالتماس الرزق من عند الله وحده.
ثالثاً: العلم بأن من أسباب دوام النعم واستجلاب الأرزاق شكر الله تعالى على نعمه، وحق على الله أن يعطي مَن سأله، ويزيد مَن شكره، والله منعم يحب الشاكرين، وقد وعد الشاكرين بالزيادة: { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم } (الرعد:7).
وشكر الخالق سبحانه يكون بالقول وبالفعل، أما القول فقد علّمنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن نقول في الصباح: (اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر) رواه أبو داود، وأما الشكر بالعمل فيكون بالحرص على الإنفاق وبذل المعروف للناس، وهذا الإنفاق ليس منقصةً للرزق بل هو من أسباب تحصيله، قال تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} (سبأ:39)، وصحّ في الحديث أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) متفق عليه.
ومن أعظم صور الشكر : أن يستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها وهي طاعة الله عزَّ وجل.
رابعاً: الحرص على مراقبة الله سبحانه وتعالى عند طلب الرزق، والابتعاد عمّا حرّمه الله من الخبائث، وترك الأسباب المحرّمة والطرق المنهي عنها في استجلاب الرزق، لعلمه بأن العبد يُسأل يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.