الزهد في الدنيا طريق الصالحين والتقلل منها زاد العابدين كما أن الانغماس في متاعها ملهاة وغفلة وإنشغال بالفاني عن الباقي , ولما انشغل الغالب الكثير من الناس بالدنيا وقل الزاهدون فيها تزينت لطالبيها حتى أهلكتهم وأردت ههنا أن أضع بين يدي القارىء عدة مفاهيم أساسية في الزهد في الدنيا لأبين مسائل مهمة :
مقام الدنيا ومنزلتها عند الله:
إن الله سبحانه قد ذم الدنيا وجامعها ومحبها والمنشغل بها, ولم يجعلهم من أهل التقى والصلاح, كما ذمها رسول الله e وذم جامعها وحذر منها…وإليك دليل ذلك:
قال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
[الأعلى: 16، 17]
وقال سبحانه: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].
وقال عز وجل: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ}
[الأنفال: 67]
وقال سبحانه: {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}
[القيامة: 20, 21]
وقال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}
[العنكبوت: 64]
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
* وقال "صلى الله عليه وسلم" (الدنيا ملعونة , ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا) ([1]).
* وعن سهل الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)([2]).
* وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مر بالسوق والناس كَنَفَتيه, فمر بجدي أسك ميت, فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: (أيكم يحب أن يكون هذا لهم بدرهم؟) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: (أتحبون أنه لكم؟) قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا أنه أسك, فكيف وهو ميت؟! فقال: (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) ([3]).
2ـ الركون إلى الدنيا ليس من أخلاق الصالحين:
إن الله سبحانه جعل الركون إلى الدنيا وطول الأمل فيها والتنعم فيها ليس من أخلاق الصالحين.
قال سبحانه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
قال الحافظ في الفتح: "هذا تنبيه على إن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين" ([4]).
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم": (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) ([5]).
* وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)([6]).
* وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: (لقد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافًا وقنعه الله بما آتاه) ([7]).
* وعن فضالة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع) ([8]).
* وعـن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذكر أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يومًا عنده الدنيا فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان إن البذاذة من الإيمان)([9]).
3ـ لا تضع أملك أمامك, وعش كأنك غريب أو مسافر:
لقد نهى النبي "صلى الله عليه وسلم" أن يؤمل الإنسان في دنياه, بل أمره أن يعيش كأنه غريب أو مسافر, وأمره ألا يضع أمله أمامه لأنه ربما يقطع عليه الموت.
* عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)([10]).
* عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"([11]).
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: "لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا, ولا تُحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها, ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير موطنه, ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله…".
إن الدنيا أمل أبيض وضاء, كلما أضاء وبرق زهت في نظر صاحبه الأموال والحسان والعطور والقصور والمناصب والشهادات, فينسى مع نظره المفتون متطلبات دينه وأمته, ويغمض عينه عن أرض مقدسة يفسد فيها يهود ولا يعود أنفه يشم رائحة شواء دعاة الإسلام في الهند, ولم تعد أحاسيسه تشعر باستباحة الحرمات في شتى بقاع الأرض, لكنه لو نظر ببصيرته لعرف أن أمله الوضاء إنما يلفه محيط أسود حالك من علامات النهاية([12])…
إن الذي يعيش مترقبًا النهاية يعيش معدًا لها, راضيًا بها, حتى إذا جاءت لم يتحسر.
——————————————————————————–
([1]) رواه الترمذي وحسنه الألباني عن أبي هريرة (صحيح الترمذي برقم 1891).
([2]) رواه الترمذي وهو صحيح, صححه الألباني (الصحيحة 943).
([3]) رواه مسلم 4/ زهد/ 2272/ ح2 (وكنفتيه: يعني عن جانبيه, والأسك: الصغير الأذن أو مقطوعها).
([4]) انظر: فتح الباري ج11 ص239/ دار الريان للتراث.
([5]) رواه مسلم 4/ زهد / 2272/ ح1.
([6]) رواه الترمذي (4/ ح2376) وأحمد في مسنده (3/456, 460) صححه الألباني صحيح الترمذي رقم 1935.
([7]) أخرجه مسلم 2/ زكاة/ 730/ ح125.
([8]) رواه الترمذي 4/ ح2349 وقال: حديث حسن صحيح, ورواه أحمد 6/19 وإسناده صحيح (انظر: الصحيحة 1506).
([9]) رواه أبو داود (4/ح4161) وابن ماجه بإسناد صحيح, انظر: الصحيحة (341), (والبذاذة هي: ترك فاخر اللباس وترك الترفه).
([10]) متفق عليه, البخاري رقم 3585, باب دعاء النبي e (أصلح الأنصار والمهاجرة), ومسلم رقم 1804 عن سهل بن سعد, باب غزوة الأحزاب.
([11]) رواه البخاري (11/ ح6416/ فتح).
([12]) الرقائق "باختصار" من ص 101: 103.