لشدة أثر لا يخفى في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – , فقد نال في حياته من التعب قدراً عظيماً , وللثقل على نفسه موقع من سيرته – صلى الله عليه وسلم – إذ لاقى في حياته ما لاقى .
وما ألفته تلكم الشدة وذاك النصب إلا بعد مبعثه لا قبل, بعد أن بلغ من العمر أشده وبلغ أربعين سنة , إذ كانت شدة في الله – عز وجل – ودعوته .
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعالج شدة من نزول الوحي ويجد لذلك ثقلاً , تقول أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – : ( ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد , فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً) فكان إذا أنزل عليه الوحي كَرُب لذلك وتربد وجهه , ولما جاءه الملك في غار حراء قال – صلى الله عليه وسلم – : ( فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ..) فرجع – صلى الله عليه وسلم – يرجف فؤاده .
وقبل مبعثه – صلى الله عليه وسلم – كان أعظمهم أمانة في قومه وأرضاهم فيهم وأصدقهم حديثا ما جربوا عليه كذبا قط , فلما بلغ رسالة ربه اتهموه بالكذب , وأنه ساحر أو مجنون .
و امتد به الأذى حتى أُلقي سلا الجذور على ظهره وهو ساجد بين يدي الله في البيت الحرام, ونالت قريش منه ما نالت إذ طلع عليهم يوما فوثبوا وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا – لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم – فيقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : نعم أنا الذي أقول ذلك , ورجل منهم أخذ بمجمع ردائه , فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله!
وحُوصِر – صلى الله عليه وسلم – في شعب أبي طالب مع بني هاشم وبني المطلب حتى سُمع صوت صبيانهم ونسائهم يتضاغون جوعاً وطعامهم الأوراق والجلود, ويعرض نفسه – صلى الله عليه وسلم – على القبائل ويخرج إلى الطائف يطلب النصرة فيقول له من يقول هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك!ويخاطبه آخر : أما وجد الله أحداً غيرك ؟! ثم يجتمع عليه العبيد والصبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه .. سبحان الله يقدر الله – عز وجل – ذلك لخير رسول من أنبيائه .. ليعلم به صدق نبيه في بلاغ رسالته وهو جل وعلا به أعلم , أمن أجل إبلاغنا الهدى يُصاب – صلى الله عليه وسلم – بذلك ؟
فما تردد – صلى الله عليه وسلم – في تبليغ دعوة رب العالمين وما كُتب عليه فيها من الشدة , بل كان الأسوة الحسنة لأمته فكان – صلى الله عليه وسلم – يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, ثم هو يوعك كما يوعك الرجلان من أمته , قالت عائشة – رضي الله عنها – : ( ما رأيت أحدا أشد عليه الوجع من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -) وتصيبه الحمى في آخر حياته فيمسح وجهه بالماء ويقول : ( لا إله إلا الله , إن للموت سكرات) .
ولما دنا منه الرحيل – صلى الله عليه وسلم – , يسائل أمته في حجة الوداع : (وأنتم تسألون عني , فما أنتم قائلون ؟), أبعد كل ذلك يا رسول الله تسألهم؟ أما يكفيك ما لاقيت حتى تسألهم بما هم قائلون عنك؟
أما يكفيك يا رسول الله تكالب الكفار من قريش عليك يوم أُحُد وأنت تنافح عن دعوة ربك؟ وقد شُجَّ وجهُك, وكُسِرت رباعيتك, وكُلِمَت شفتك السفلي , وَقعتَ لشِقك؟ أما يكفيك وقد ضُربتَ على عاتقك بالسيف ضربة عنيفة كنت تشكو لأجلها أكثر من شهر, وقد دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وَجْنَتِك وقد سال الدم من وجهك الشريف؟
أتسألهم يا رسول الله وقد كنت لهم الأسوة الحسنة وقد كنت تتهجد من الليل بآية من القرآن, وقد كان لصدرك أزيز كأزيز المرجل من البكاء من خشية الله؟
أتسألهم وأنت تربط حجرين على بطنك من الجوع, وقد كنت لا تجد من الدقل ما يملأ بطنك, وما شبعتَ وأهلُك من خبزِ شعير يومين متتابعين وتبيت الليالي طاوياً لا تجد عشاءً؟
أتسألهم وأنت تنام على حصير وقد أثر في جنبك وتقول : (ما لي وللدنيا, إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قَالَ في ظلِّ شجرة ثم راح وتركها) تقول ذلك وقد أُعْطِيْتَ مفاتيح خزائن الأرض, وتنام على وسادة من أدم حشوها لِيْف؟
أتسألهم يا رسول الله وقد فُعل بك ما فُعل لا لشيء إلا لتبلغ الرسالة وتؤدي الأمانة ؟
بعد كل ذلك يسألهم – صلى الله عليه وسلم – : (وأنتم تسألون عني , فما أنتم قائلون ؟) قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فقال بأصابعه السبابة يرفعها إلى السماء, وينكتها إلى الناس : (اللهم اشهد) ثلاث مرات .
فما فعلت أمته من بعده؟ وقد رأى في حياته من الشدة ما رأى من أجل هدايتها, كيف به إذا جاء شهيداً عليها وقد جِيء من كل أمة بشهيد (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) كيف بأمة يشهد عليها خير البشر وقد جاهد في إبلاغها رسالة ربه , ثم هي تعرض عنه وتوله ظهرها ؟
أيرى سنته وقد بُدلت, ومنهجه وقد نُحيّ, وشريعته وقد أُقصيت؟
أيرى أقواماً من أمته وقد بدلوا وغيروا من بعده وما برحوا يرجعون على أعقابهم؟
أيرى من أمته من تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدعي له حباً ونسباً, ويزعم له فيه قدوة وأسوة؟
كيف يشهد على أقوام يعصون الله ورسوله ثم لا يعتذرون منها ولكن يعذرون لها.
أيرى من نساء أمته وقد بدا منهن ما بدا واستبدال هدية بهدى من لا خلاف له.
أيرى من أمته من يأكلون الربا, ومن يتسامرون على المعازف, ومن يتفكهون بأعراض الناس ..
عجبا لأمة هذا نبيها, ويكون هذا حالها ..