التصنيفات
منوعات

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد


الحلقة 7 – قيمة نصرة الضعيف

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلًا بكم.

خروج سيدنا موسى عليه السلام من مصر:

نكمل سويًا ما بدأناه سابقًا، يريد الآن سيدنا موسى عليه السلام الخروج من مصر ليبتعد عن طائلة يد فرعون، ولكن إلى أين وقد ترامت حدود الدولة المصرية في عصرالفرعون رمسيس وغطت مساحة كبيرة من الأراضي؟ ومن ثم سيضطر سيدنا موسى عليه السلام قطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام. ولكى تستطيع استيعاب مدى حرج الموقف، راجع كل الوجهات التي يمكن لسيدنا موسى عليه السلام الفرار إليها، وقد وصلت حدود مصر إلى سوريا وإلى لبنان، فلن تجد إلا "مدين". الطريق إلى مدين يتصف بالوعورة والخطورة وتصعب فيه الحركة إلى أبعد ما يكون، ويقبع على جانبيه جبال، وفى نهايته وادٍ تقع فيه مدينة مدين، والتي تبعد عن مصر إلى ما يصل إلى ألف كيلو متر من الأراضي، والتي قطعها سيدنا موسى عليه السلام في ثمانية أيام، وقد كانت هذه هى أول رحلة لسيدنا موسى عليه السلام خارج مصر. وبالرغم من دراسته لعلم الفلك وإمكانية الاهتداء بالنجوم في الصحراء والاستعانة بها في تحديد المسار الصحيح إلا أنه استعان بالله عز وجل، وظن الخير في إهدائه للمسارالصحيح. ويصف القرآن الكريم خروج سيدنا موسى عليه السلام من مصر بالآية التالية: )وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص:22) وهناك معاني جميلة في "عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ"، وكأن سيدنا موسى عليه السلام يلجأ إلى ربه ويقول له سبحانه وتعالى: "يا رب أنا خرجت من مصر لأنى نصرت مظلومًا، فيارب أنا أعلم أنك لن تتركني وستهديني إلى الطريق الصحيح"، وفي هذا حسن ظن بالله عز وجل، وعليه توكل سيدنا موسى عليه السلام، وظن أن يرد عليه عمله الحسن عندما أحسن من قبل وساند مظلومًا، وهنا يأتى لُب الموضوع، والذى سأظل أردده عليكم، وأطلبه منكم وهو أن تقفوا بجانب الغلابة، وأن تساعدوا الضعفاء، وأن تنصروا المظلومين، فبنصرة المظلوم أصبح سيدنا موسى عليه السلام كليمَ الله.

من أصعب الأشياء على النفس أن يخرج الإنسان من بلده فجأة، ولكن ما معنى خروج الفجأة؟ خروج الفجأة معناه أنه ليس هناك طعام يتزود به المسافر في سفره، ولا ركوبة يمتطيها، ولا صديق أو أخ يُوَدِعهُ كهارون عليه السلام، بل ليس هناك حضن أم، فحتى أمه لم يستطع سيدنا موسى عليه السلام أن يُودعها. خروج الفجأة خروج صعب على النفس، ولكن لا خيار آخر أمام سيدنا موسى عليه السلام لينجو بنفسه من القتل غير هذا الخروج الأليم، ولم يكن خروج سيدنا موسى عليه السلام من مصر مجرد خروج فجأة بل لقد كان أيضًا خروج من كونه موسى الأمير إلى موسى المطارد؛ الذى يخرج فقط لينجو بنفسه من القتل وذلك لأنه ساعد ضعيفًا.

ويبدأ الترحال في حياة سيدنا موسى عليه السلام من ذلك اليوم، فهو لن يكون مستقرًا من الآن فصاعدًا فى حياته. وهكذا كانت رحلته الأولى من مصر إلى مدين، والتي قضى فيها عشر سنوات من عمره، ثم رحلته الثانية من مدين إلى مصر، والتى قضى فيها خمس عشرة سنة، ثم من مصر إلى سيناء وإلى صحراء النقب، ومرة أخرى إلى حدود الأردن وإلى حدود فلسطين، ثم التيه فى صحراء النقب حتى الوفاة. لقد كانت حياته سبعين سنة بدون استقرار من أجل الضعفاء!

هناك الملايين من الضعفاء الغلابة في بلادنا، ماذا فعلت لهم؟ ولماذا أسرد عليك هذه القصة؟ وبماذا تشعر تجاه سيدنا موسى عليه السلام؟ اعلم أن مساعدة ومناصرة سيدنا موسى عليه السلام للضعفاء كانت هى السبب فى استحقاقه لأن يكون كليم الله، لقد أحببت سيدنا موسى عليه السلام جدًا من قراءتي لسيرته، فهو لم يعش مستقرًا أبدًا. أما نحن فنعيش في استقرار، وإذا ما نقلنا من بيت إلى آخر بحاجاتنا من أثاث وديكور وغيره نعتبر هذا أيَّما مشقة.

الوضع في مصر:

يبحث فرعون عن سيدنا موسى عليه السلام في كل مكان، وقد استشاط غضبًا، وعليه أن يجده، فمن أجله قتل آلاف الأطفال الرضع منذ ثلاثين عامًا، وياللقدر! ينجو هو، وقد كان هو المراد من القتل، بل ولقد رباه فى بيته. ومع اشتداد حذر فرعون من تحقق الرؤيا وسلب ملكه اشتدت أوامره لجنوده بإيجاد سيدنا موسى عليه السلام حيًا أو ميتًا، وإن كان قد نجا من الموت منذ ثلاثين عامًا فيجب أن يذبح الآن ولا يفلت أبدًا هذه المرة، فانتشر جنود فرعون في بيوت بنى إسرائيل ليفتشوها، وعذبوهم لعلهم يجدونه، ولكنهم لم يبحثوا عنه قط في الصحراء؛ وذلك لعلمهم بأن الصحراء جرداء، من دخلها وهو لا يملك ركوبة ولا دليل فهو هالكٌ لا محالة، ولعل سيدنا موسى عليه السلام فى هذه الأثناء كان يناجي نفسه بأنه ما أراد إلا أن يُصلح في بنى إسرائيل ويساعد الضعفاء، ولكن يا للخُسارة ضاعت رسالته. أو لعله كان يتساءل: لماذا كان عاقبة مساعدته مظلومًا خروجًا مفاجئًا من وطنه وأهله، وهو لا يدري أن هذا هو منتهى الحب والإعداد من الله عز وجل له، يا سيدنا موسى، لكى تكون كليم الله عز وجل، ولكى تحمل الرسالة يجب أن تتحمل مشاقًا ومشاقًا تقويك وتؤهلك أن تكون على قدر المسؤلية الآتية، فتربية القصور لا تجدي بمفردها نفعًا مع هذه المهام العظيمة، ومن ثم وجبت مشاق الصحراء وتعبها وجهادها. فكل ما في هذه الرحلة هو من قول الله عز وجل: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 41) واصطنعتك لنفسى، الله الله على هذه الكلمة، فكل ما يحدث لك يا سيدنا موسى هو إعداد لك من الله عز وجل، وهناك قاعدة تقول: "ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك"، والمعنى أن في بعض الأحيان قد يمنع الله عز وجل عنك ما تريده ولكن هذا في حقيقته لا يكون إلا عين العطاء ومنتهى الحب من الله عز وجل، خذوها قاعدة في حياتكم يا شباب، وتعلموها من سيدنا موسى عليه السلام، لو أنك على الحق، ولو أنك على الخير، ولو أنك تساعد الغلابة والمظلومين وفى هذا تعرضت لصعاب ومشاق مثل ما تعرض له سيدنا موسى عليه السلام فى الطريق، فاعلم أن هذا من اصطناعة الله عز وجل لك، فكل من يريد الله ويريد الحق يصنعه الله ويُعده، وإن كنت منهم فافرح ولا تحزن فهذا من صناعة الله عز وجل لك، هذه كانت مشاعر سيدنا موسى عليه السلام مقترنة بحسن ظن فى الله عز وجل.

سيدنا موسى عليه السلام في الطريق إلى مدين:

يسير سيدنا موسى عليه السلام في الطريق الوعر الخطير إلى مدين، وهو مهدد بالقتل، وذلك للمرة الثانية في حياته، والتى سبقتها محاولة قتله وهو لا يزال بعد رضيعًا صغيرًا، وفي هذا رسالة خفية إلى موسى عليه السلام من رب العالمين له، وفيها أنك يا موسى، نجوت فى المرة الأولى وستنجو فى الثانية، وفيها أيضا أنك يجب أن تعلم أن أَجَلُك وأجل العباد في يدي أنا الله، وها أنت تتعرض للقتل مرتين، وممن؟ من فرعون، ولكن الله عز وجل ينجيك فى المرتين، وعلينا نحن أن نعي هذه الرسالة جيدًا، وفي هذا يقول سيد النبيين محمد صلى الله عليه وسلم: "نفث روح القدس في روعي أن نفسًا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها". لا تخشوا على أرزاقكم وأعماركم؛ فهى مضمونة لكم بين يدى الله عز وجل، ولكن افعلوا الخير، واعملوا الحق. تعلموا من سيدنا موسى عليه السلام ومن رحلته إلى مدين.

يسير سيدنا موسى عليه السلام في الطريق إلى مدين، ويمر عليه يوم ويومان وثلاثة، وفي هذا يصف ابن عباس نقلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حال سيدنا موسى عليه السلام في هذه الرحلة، فيقول: "التصقت بطنه بظهره من شدة الجوع، أكل ورق الشجر، تقيحت فاه، بات ليال فى الصحراء عاريًا، ثم سقط نعله، ثم سقط جلد قدميه، وسقطت أظافره، وأدميت قدماه". إن لكم أن تعلموا أن المسافرين في الصحراء يُحَّذًَرُون من العقارب؛ فهى تقبع تحت الصخور، وتخرج على السائر في الصحراء، وتلدغ الجالس فيها. فكيف كان حال سيدنا موسى عليه السلام في هذا المكان وقد مرت عليه ثمانية أيام، وكان لا يجد مأوىً للنوم إلا أرض الصحراء العارية؟ ولم تكن هذه هى المشقة الوحيدة التى تعرض لها سيدنا موسى عليه السلام، بل ومن طول مسيرته تقطع نعله، وسقط جلد قدميه، ونزفت رجلاه. أليس بعد معرفة بعض مشاق هذه الرحلة يجدر علينا أن نتعب لله عز وجل؟ ألسنا نتعب كثيرًا من أجل الدنيا؟ أنبخل ببعض التعب لله عز وجل؟ ألم تُدمى قدما كل من سيدنا موسى وسيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام؟ وألم يسيرا- كلٌ منهما- في الطريق الطويل؟ فيسير سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين، ويسير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الطائف؟ يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "يُبتلى المرء على قدر دينه، فمن كان في دينه صلابة زِيدَ في ابتلائه، قالوا: ومن أكثر الناس ابتلاءً يا رسول الله؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" إذا كنت ممن تعمل الخير وتتعرض للصعاب فأنت تسير على طريق الأنبياء، فأنت على خطى سيدنا موسى عليه السلام، وأنت كأنك تسير في طريق سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين، ثم إلى الدرجات والمقامات العلا في الجنة، يا أهل البلاء، اصبروا، اصبروا كما صبر سيدنا موسى عليه السلام، والحق في القرآن الكريم يقول … إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيرِ حِسَابٍ (الزمر:10(.

الأنس بالله عز وجل:

أنا أتخيل سيدنا موسى عليه السلام وهو سائر على قدميه خائر القوى، يكاد يسقط من شدة التعب، وها هو يقترب من مدين، وها هى مدين تلوح فى الأفق، أريد أن أنبهكم إلى عبادة جميلة عاشها سيدنا موسى عليه السلام فى هذه الأيام الثمانية، ألا وهى الأُنس بالله عز وجل، ولكن ما معنى الأُنس بالله؟ الأنس بالله هو أن تصبح الوحدة ليست بوحدة لأنك مع الله. عليكم بتجربة هذه العبادة، والله إنها لعبادة جميلة، فبدلًا من أن تقول سأشاهد التلفاز ساعتين أو ثلاثة، أو سأتكلم فى الهاتف لأضيع الوقت، جرب أن تأنس بالله عز وجل، هيا، قلد سيدنا موسى عليه السلام، ولكن كيف لك أن تأنس بالله عز وجل؟ ركعتين، نعم عليك بالصلاة، لأنك فى الصلاة وبينما أنت تقول "الحمد لله رب العالمين"، يقول الله عز وجل لك: "حمدني عبدي"، وبينما أنت تقول: "الرحمن الرحيم" فيرد عليك الله عز وجل، ويقول: "أثنى على عبدي"، وبينما أنت تقول: "مالك يوم الدين"، فيقول ربنا عز وجل: "مجدني عبدي"، وبينما أنت تقول: "إياك نعبد وإياك نستعين"، فيقول عز من قال: "هذا بيني وبين عبدي"، الله الله الله على هذا! كان لسيدنا عمر بن عبد العزيز مع الفاتحة عملًا عجيبًا، وهو أن يصمت بعد كل مقطع فيها هنيهة من الوقت، فسألوه: لماذا تصمت؟ قال: لأستمتع برد ربى. هذا هو الأنس بالله، هل أدلكم على عمل جميل للأنس بالله عز وجل؟ اذكروا الله.. فذكر الله هو قمة الأنس) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ …) (البقرة:152) وهناك حديث قدسي يقول: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه"، قل الآن: "لا إله إلا الله"، يذكرك الله تعالى الآن باسمك.

كان الأنس بالله عز وجل هو حال سيدنا موسى عليه وسلم طيلة الثمانية أيام التى قضاها في رحلته قاطعًا الصحراء بين مصر ومدين، وأخيرًا بدأت ظهور بعض ملامح الحياة في الأفق، وكانت تلك مشارف مدين بالفعل، وهكذا استجاب الله تعالى لدعاء سيدنا موسى عليه السلام وحسن ظنه به عز وجل، والكلمة التى قالها "عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ" قد تحققت.

دخول سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين:

ودخل سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين وتوجه إلى مُجتَمَع الناس، وهو ماء مدين، وهذا هو المكان الذي يسقي الناس فيه، وإن أنتم ذهبتم إلى مدين في زماننا هذا ستجدون نفس عين الماء المذكورة في القرآن الكريم، والتي ذهب إليها سيدنا موسى عليه السلام منذ ثلاث آلاف سنة، ومن المعلوم أنه إن لم يكن تحديد هذا المكان غير ذي أهمية لما تم ذكره في القرآن الكريم، توجد ماء مدين فيما يعرف الآن باسم محافظة الكرك في دولة الأردن، ومن يصل إلى هذه المنطقة سيجد لوحة مُعلقة مكتوبٌ عليها الآية القرآنية التي تقول: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ…) (القصص:23) ولا تزال هذه الماء تسقي حتى وقتنا الحاضر، ولا يزال البشر يَرِدُونها ليسقوا منها.

يالها من رحلة طويلة ومشقة كبيرة، ولكن هكذا تستحق الرسالات العظيمة. ياليتكم تكونون مثل سيدنا موسى عليه السلام تنصرون الضعفاء، وما ماء مدين إلا مكانٌ آخرٌ ينصر فيه سيدنا موسى عليه السلام ضعفاء آخرين، فهنا في هذا المكان ساعد الفتاتين، وهذا هو لب قصة سيدنا موسى عليه السلام، فنصرة الضعيف هى السيرة الذاتية التي أهلته لكى يكون نبيًا، ولكى يكون كليم الله. أتريد أن يكون لك مقام عند الله عز وجل؟ انظر ماذا تفعل مع الضعفاء، وما هو مقام الغلابة عندك؟ وأنت ستعلم ما هو مقامك عند الله، وهكذا سَيُؤَهَل سيدنا موسى عليه السلام من هذا المكان- ماء مدين- ليكون كليم الله عز وجل.

ولنتعرف أكثر على أرض مدين، فأرض مدين هى أرض سيدنا شعيب عليه السلام، وهو نبي من أنبياء الله عز وجل عاصر سيدنا لوطًا عليه السلام، وجاء بعد سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويبعد زمنه عن زمن سيدنا موسى عليه السلام بثلاثمائة سنة. وككل الأنبياء أُُرسل سيدنا شعيب عليه السلام إلى أهل هذه البلدة في زمانه يدعوهم إلى الله العزيز الغفار، ولكنهم كذبوا ورفضوا الدعوة، وهكذا نقرأ في القرآن الكريم وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا …) (الأعراف:85) وكانت هذه الأرض أرض زراعة وحضارة، يعيش أهلها عيشة هنية، ولكنهم كانوا يُطففون في الميزان –وهذا نوع من الظلم وللأسف الشديد ينتشر الآن وبكثرة في بلادنا- فأرسل الله عز وجل إليهم شعيبًا، وأعطاهم الكثير من الفرص كي يُقلِعُوا عن ذنوبهم ويعودوا إلى طريق الرشاد، ولكن مع حلم الله عليهم ازداد ظلمهم وجهلهم، فكان أن أخذهم عذاب يوم الظلة، كما يسرد القرآن الكريم: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمُ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 189( وكان أن حدث زلزال شديد أدى إلى سقوط وتهدم بيوتهم فهلكوا جميعًا بعد حلم الله عز وجل عليهم، ولكن السؤال الآن: لماذا نذكر هذه القصة هنا في هذا المكان- ماء مدين- وفي هذا الزمان، زمن سيدنا موسى عليه السلام؟ لأن الله عز وجل أراد أن يأتى سيدنا موسى عليه السلام إلى أرض كَثُرَ فيها الظلم كما هى أرض مصر الآن في زمن فرعون، وذلك ردًا على تساؤلات سيدنا موسى عليه السلام الداخلية التى لابد وأنه كان يتساءل بها فى نفسه، مثل: أأخرج أنا وأنا من نصر المظلوم بينما يبقى الظالم في مكانه ولا يخرج من أرضه؟! فكان لابد أن يجيب الله عز وجل عليه بطريقة عملية وواقعية وليست نظرية، وكأنه يقول له: لا يا موسى، فإن ربك حليم يمهل العباد، ويُعطي الفرص لعل الناس يرجعون عن ظلمهم، ولكنه إن أخذ_ سبحانه وتعالى_ فإن أخذه أليم شديد. كان لابد لسيدنا موسى عليه السلام أن يدخل أرض مدين ليُحكى له قصة هذه الأرض وقصة أهلها مع نبيهم وتكذيبهم له وأخذ الله لهم، وليرى سيدنا موسى عليه السلام بعينيه آثار هذا الزمان من بقايا البيوت المهدمة والحضارة المندثرة والموجودة حتى الآن؛ ليعلم أنه مهما علا فرعون في الأرض وظلم فإنه لابد له من نهاية مدوية كما في وصف القرآن الكريم لنهايات الظلمة: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) يا ظالمين، احذروا غضب الله العزيز، وإياكم أن تستهينوا، فنعم، الله هو الحليم، ولكن أيضًا أخذه أخذٌ أليمٌ شديدٌ. فكأن الله أراد عز وجل أن يُرِىَ سيدنا موسى عليه السلام بعينيه تجربة عملية، ليعلم أن الله مع الصابرين، ياالله على دروسك العملية التي تعلم بها البشر!

ما السبب الذى جعل سيدنا موسى عليه السلام يتجه إلى بئر مدين بمجرد دخوله إلى هذه الأرض الجديدة؟ كان للقدماء عادة وهى أن الغريب إذا دخل أرضًا جديدة عليه، وأراد أن يُضَيَفَهُ أحد ليأكل ويشرب فعليه أن يذهب إلى مكان السقاء؛ لأنه مكان اجتماع القوم مما يجعله مكانًا مناسبًا لإيجاد شخص يضيف الغريب، هذا بالإضافة إلى أنه أراد أن يشرب بعد رحلة الثمانية أيام في الصحراء. ما هو هدفك الآن يا سيدنا موسى؟ أن يستضيفنى أحد؟

اقرأ القرآن وتعايش معه: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) والأُمة من الناس هى الجماعات الكثيرة من البشر، كلٌ له مأربهُ الخاص إما سقاية ماشيته أو سقاية أهله أو أن يشرب هو نفسه. ولنا أن نتخيل موقف سيدنا موسى عليه السلام الآن، فهو لابد فرح بوصوله إلى هذا المكان الذي يكثر فيه االناس، ولابد أن أحدهم سيلاحظ عليه مشقة السفر وجوعه فسيستضيفه عنده، ولكنه في هذه الأثناء لاحظ شيئًا غريبًا، وهو وقوف فتاتين على جانب هذه الساحة الكبيرة ومعهما أغنامهما، ولكنهما لا يقتربان من الماء. أريدك أن تلاحظ معي شيئًا لطيفًا في الآية الكريمة السابق ذكرها، وهو أن كلمة "وَجَدَ" قد تكررت مرتين، فمرة وجد أمة من الناس، ومرة أخرى وجد فتاتين تمنعان أغنامهما من أن يدخلوا إلى الماء متزاحمين مع أغنام الآخرين، لقد تعلم سيدنا موسى عليه السلام من التجربة، فأول مرة وجد شخصًا يضرب آخر، فوكزه فورًا فقضى عليه، بينما في المرة الثانية (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَّبْطِشَ …) (القصص:19) أي أنه فكر قليلًا قبل أن يهم بأمر ما، أما الآن فهو يرقب المكان ويتفكر في الأمر من حوله ويعقله، فتكررت كلمة "وجد" لتعبر عن هذا التفكر في الأمر قبل إحداث فعل ما. هل لاحظت كم هو جميلٌ هذا التدريب الرباني المستمر؟! تدريب الله عز وجل لموسى عليه السلام اليوم هو: "شاهد وارقب حتى ولو كنت تفعل خيرًا"، هذه هى القاعدة عند عمل الخير، فما بالك لو كان لعمل شر، إياك أن يجرك صاحبك إلى شر، إياك أن تسلم عقلك وقلبك إلى شيطان أو إلى صاحب سوء، بل يجب عليك أن تشاهد وترقب

شهامة ونصرة رغم التعب والجوع والعطش:

وما الذي شاهده وراقبه سيدنا موسى عليه السلام في ساحة ماء مدين؟ وجد الفتاتين تقفان على جانب الساحة، بينما يقف الناس في طابور على الماء الأقوى فالأقوى، أي أن الأقوى يصل إلى الماء أولًا، يسقى نفسه ثم أهله ثم ماشيته وينصرف، ليأتي الذي يليه في القوة، وهكذا من يأتي البئر مبكرًا يأخذ الماء الصافي، ومع الوقت يبدأ الطين والكدر الموجودان في قاع البئر يعكران الماء، فيأتي الضعيف ويأخذ الماء المكدر بالطين، وبالتالى فإن القوى هو من يحصل على الماء الصافي، بينما الضعيف يحصل على الماء الكدر، وأضعف الضعفاء هو من سيسقى في آخر الوقت بعد انصراف جميع السقاة، وبالطبع أضعف الضعفاء هما الفتاتان لأن والدهما رجل عجوز لا يستطيع أن يسقي بنفسه. استطاع سيدنا موسى عليه السلام بعد أن شاهد وراقب ساحة ماء مدين أن يتعرف على ماهية منطق الحكم عند أهل هذه المدينة، وهو منطق القوة وليس منطق الرحمة، كم من مواقف يحكمها منطق القوة في بلادنا! ومع أى منطق أنت؟ منطق القوة أم منطق الرحمة؟ منطق الأقوياء أم منطق موسى نصير الضعفاء؟ لم تُذكر هذه القصة فى القرآن هباءً بل لتتعلم وتعِىَ الأمور من حولك، وأنت عليك أن تحدد وتختار منطقك، أتريد أن تكون مثل الأقوياء الذين سقوا على البئر بالقوة على حساب الضعفاء؟ ولكنهم لم يُذكروا في التاريخ، أم تريد أن تكون مثل موسى عليه السلام كليم الله وحبيبه؟ لنرى ماذا سيفعل نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين علمًا أنه ما ورد ماء مدين إلا ليجد من يستضيفه، وهو الغريب الجائع، ومن المؤكد أن الفتاتين لن يستضيفا رجلا، ولو أنه ساعدهما فهذا يعني أنه سيقدمهما بقوته على كثير من الرجال، وتقل فرص استضافته من أحد هؤلاء الرجال أو حتى تنعدم، فمع أي المنطقين سيكون سيدنا موسى عليه السلام؟ يا سيدنا موسى، ماذا أنت فاعل وأنت من سرت على رمال مصر إلى أن وصلت إلى حجر مدين، سائرًا على قدمين عاريتين بعد مسيرة ثمانية أيام؟ أنت الذي أُلصقت بطنك بظهرك من الجوع، وأنت المهدد بالقتل من قِبل فرعون، وأنت من لا تعرف هل نجوت أم لا، هل تفكر يا سيدنا موسى، في مساعدة الفتاتين وبك كل هذه الأحوال؟!

نعم، إن شهامته ستتغلب على تعبه وجوعه وعطشه، وسيساعد الفتاتين! ألم أقل لكم أن سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم سيقدم سيرته الذاتية الخاصة به ليصبح نبيًا؟ ويا الله، إنها نفس السيرة الذاتية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كليهما نصرة الضعيف هى سابقة الأعمال، ألم يستوقفك كلام السيدة خديجة رضى الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الوحى لِيُعلمه أنه أصبح نبيا؟ ألم تقل له: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتكرم الضيف، وتعين على نوائب الدهر، وتعين الضعيف وتقف مع المكروب"، إذن تلك هى المواصفات التي جعلت الأنبياء أنبياء، وأنت إن أردت أن تكون حبيب للأنبياء وعلى قدم الأنبياء، فعليك بنصرة الضعفاء التي جعلت سيدنا موسى عليه السلام كليم الله وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد خاتم الأنبياء. هل لى أن أسالك ماذا كنت ستفعل لو كنت مكان سيدنا موسى عليه السلام في هذا الموقف؟ دعني أقل لك ماذا كنت ستفعل، كنت ستهرول إلى البئر مزيحًا كل من يقف أمامك بالقوة لترتمي في الماء، وتروي نفسك منها، أليس هذا بصحيح؟ أم كنت ستجلس على الأرض تداوي قدميك التي أدمت دمًا، أم كنت ستنام، وتنام لكي تستطيع أن تفيق، أم كنت ستذهب إلى أحد الأقوياء، وتطلب منه الاستضافة، وعلى كلٍ فإنك من المؤكد كنت ستتجاهل الفتاتين، لأنه ليس هذا الوقت المناسب لتفكر في أمرهما، ناهيك عن مساعدتهما. لم يفعل سيدنا موسى عليه السلام أيًا مما كنت أنت ستفعله؛ لأنه لا يتوقف عن نصرة الضعيف، ولا تتوقف شهامته، فماذا فعل سيدنا موسى عليه السلام؟

ذهب سيدنا موسى عليه السلام إلى الفتاتين يسألهما عن أمرهما، ويسرد القرآن الكريم الخطاب بينهما كالتالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24) ولاحظ أدب الفتاتين، فهما اعتذرا عن وجودهما في وسط هذا الحشد الكبير من الرجال بأن أباهما رجل عجوز، لا يستطيع أن يسقي بنفسه، ولذلك هما هنا من أجل هذه المهمة بدلًا منه، وهنا في هذه اللحظة ينصر سيدنا موسى عليه السلام الفتاتين الضعيفتين، فيسقي عنهما، وإن كان المنطق الذي يعرفه السقاة هو منطق القوة فسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم هو لها، وبالفعل تزاحم مع الرجال، وسقى لهما، ونسى جوعه وعطشه حتى أنه لم يسق نفسه كما قال سيدنا ابن العباس: "لم يُدرِك أن يشرب".

هل عرفت الآن لم استحق سيدنا موسى عليه السلام أن يكون كليم الله عز وجل؟ ماذا عنك أنت؟ ما هو مقامك الذي تريد الله عز وجل أن يضعك فيه؟ أتريد أن تدخل الجنة؟ ولكن بأي عمل تريد أن تدخل الجنة، بأى ضعيف وقفت بجواره، بأى يتيم نصرته، بأى أرملة ساعدتها، بأي أطفال شوارع وقفت بجانبهم، بأي قرية فقيرة ذهبت إليها وساعدت فقراءها؟ قل لي بأي عمل؟

حب النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا موسى:

هناك رواية تقول أن الرعاة لما علموا أن سيدنا موسى عليه السلام ينتوي مساعدة الفتاتين أرادوا منعه، ولكنهم علموا بعدم مقدرتهم على هذا لِما ظهر منه من قوة البدن في زحامهم إياهم على الماء، فقرروا وضع صخرة عظيمة لا يستطيع حملها إلا عشرة رجال مجتمعين في طريقه ليعترضوه، فما كان منه إلا أنه رفعها بمفرده. ومن الجدير بالذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم وصف سيدنا موسى عليه السلام، وكان قد رآه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، وكان يحبه حبًا جمًا، وكان من أقرب الناس لقلبه صلى الله عليه وسلم بعد سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ وذلك لأن ثلث القرآن الكريم أُنزل في سيدنا موسى عليه السلام، وبحب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم كان حبه لسيدنا موسى عليه السلام، كما أنه كان أيضًا أكثر من عانى مثله مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك كان يقول النبى صلى الله عليه وسلم عندما يؤذى أو يؤذى أحد من أتباعه: "رحم الله أخي موسى". إياكم أن تكونوا غير محبين لسيدنا موسى عليه السلام، أحبوه مثل الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمنا القرآن الكريم (… لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) (البقرة:285) يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا موسى عليه السلام، فيقول: "رأيت موسى، فقال مرحبًا بالنبى الصالح والأخ الصالح"، يا الله على الحب بين كلا النبيين، يا ليت بني إسرائيل يتعلمون، يا ليتهم يعلمون مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند نبينا موسى صلى الله عليه وسلم، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا موسى عليه السلام، بقوله: "فرأيته طوالًا أجعد الشعر" وطوالًا هذه تشير إلى شدة الطول مع عضل مفتول، فقد كان سلام الله عليه قوة بدنية هائلة؛ ولذلك استطاع أن يحمل بمفرده صخرة لا يحملها إلا عشرة رجال مجتمعين، ومن أجل ذلك قالت الفتاة لأبيها فيما بعد: (… يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص:26)0 أريد هنا أن أوجه كلامي إلى الشباب الذى يداوم على الرياضة: إياكم أن تكون عضلاتكم هذه للشر أو للبنات أو للإعجاب، إياك أن تضع في جيبك سلاحًا أبيض، وإياك أن تستقوي على أحد بعضلاتك، تَعَلَم أن تكون عضلاتك وقوتك للضعفاء، تعلم من هذا الدين، أ طعام وشراب أم رجولة وشهامة؟ اختار سيدنا موسى عليه السلام الوقوف بجانب الضعفاء فأصبح كليم الله عز وجل

قد تتساءل في نفسك أن ما فعله سيدنا موسى عليه السلام مع الفتاتين هو عمل خير، ولكنه فى النهاية عمل بسيط وصغير، يجب أن تعلم أن نصرة الضعيف ليس بعمل صغير، وأن من يعمل العمل الصغير يُهيؤه الله عز وجل للعمل الكبير، لأن الله عز وجل يُجرب عباده مرة تلو الأخرى، وإذا نجحوا يتفضل عليهم بالمنزلة الكبيرة، وهكذا أصبح سيدنا موسى عليه السلام هو السبب الذي يجعلنا نهتم بمدين وبماء مدين، فهو رمز نصرة الضعفاء، فهو الذي سيخوض أعظم تجربة لمواجهة الظلم في تاريخ البشرية.

وبعد أن سقى سيدنا موسى عليه السلام للفتاتين خسر كل من كان يقف على ماء مدين من الرجال الذين قد يُضيفونه، فرجع سيدنا موسى إلى الخلف وجلس في ظل شجرة ليس معه أحد إلا الله عز وجل

الواجب العملى:

· وإليكم الواجب العملي بعد معرفة هذه القصة العظيمة، وهو أن تبحث عن فقير أو ضعيف وانصره كما نصره سيدنا موسى عليه السلام، فهذا هو الطريق إلى الجنة، وهذا هو طريق الأنبياء، وعليك أن تعلم أنك قد تجد ضالتك في بيتك، كأن يكون هذا الضعيف هو أمك أو زوجتك أو ابنتك وأنت من تستضعفها، وضع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم نصب عينيك، والذي يقول فيه: "لئن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا"، فيامن يعتكف في المسجد النبوي في العشر الأواخر من رمضان، اذهب إلى قريتك، وابحث عن أسرة فقيرة، ومُد لهم يَد العون، كأن تساعدهم على إقامة مشروع صغيرتُحيِيهُم به، ويا من يعاني من المشاكل، بالله عليك، اقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه: "من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". "وكان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، "ومن يسر عن معسر يسر الله عنه في الدنيا والآخرة". ابحث عن أرملة، صديق، أو جار ضعيف، وقف بجانبه، واعلم أن أحد الصحابة كان إذا لم يمر ببابه ضعيف أو فقير يطلب مساعدته يقول: "هذه مصيبة بذنب أذنبته"، وعليه إذا لم تستطع أن تجد فقيرًا أو ضعيفًا تساعده، فاعلم أنك محروم بذنوبك الكثيرة




خليجية



التصنيفات
منتدى اسلامي

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد

قيمة التوازن بين الشجاعة والحكمة

إنصاف القرآن لموسى:

لابد وأن نذكر أن القرآن قد أنصف موسى عليه السلام؛ ذلك أن الكثير من علماء الغرب يقولون إنه لا وجود لشخصية موسى تاريخيا، ومنهم العالم فرويد الذي قال إن موسى أسطورة لا وجود لها، لأننا لم نجد على جدران المعابد في مصر ما يدعم هذه الحقيقة ولا في الأراضي التي هاجر إليها بنو إسرائيل ما يدلل تاريخيا على وجود هذه الأحداث حقيقةً. قد يسعد البعض بهذا القول قائلين "هو نبي بني إسرائيل"، لكن القرآن أمرنا ألا نفرق بين أحد من رسله، كما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منهم) ذلك لعلمه بأنه سيقال – يوما ما- مثل هذا القول كما نجد أن ثلث أو ربع القرآن يروي قصة سيدنا موسى إنصافا له.

أسس حرية الشعوب:

على كل مسلم أن يستشعر الأخوة بين سيدنا موسى وسيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليهما؛ فهم إخوة في الدين، كل نبي من أنبياء الله قد وضع لبنة في صرح عال لإرضاء الله، واللبنة التي وضعها موسى عليه السلام كانت "حرية الشعوب" قبل أن تتحدث عنها دول أوروبا.

بالتأكيد كان التوحيد من أساس رسالته لكن الجزء الكبير الذي أضافه كان خاصا بحرية الشعوب، فهو يمثل أكبر قصة في مواجهة الظلم

تذكِرة بما سبق :

سبق وذكرنا أن حياة سيدنا موسى عبارة عن مرحلتين للإعداد ومرحلتين للتنفيذ، أنهي موسى مرحلة الإعداد الأولى في مصر حتي بلغ من العمر ثلاثين عاما، تعلم فيها الكثير ثم ذهب إلى مدين في مرحلة إعداد أخرى مدتها عشر سنوات.

وفي طريق العودة، كان اللقاء عند جبل الطور لتأهيله للمهمتين؛ الأولى: مواجهة فرعون الظالم ورفع الذل عن بني إسرائيل. والثانية: إخراج بني إسرائيل من مصر.

** نزول مصر :

بلغ موسى من العمر أربعين سنة، وكُلف بالرسالة وأصبح كليم الله، وعاد عليه السلام إلى مصر لكنه لم يتوجه إلى قصر فرعون بدايةً، إنما توجه إلى بيوت بني إسرائيل: بيت أمه حيث ذهب متحدثا لأخيه هارون ليصطحبه إلى أول مواجهة بينهما وبين فرعون.

قد يتساءل البعض: "ألم تزل أم موسى على قيد الحياة؟" الإجابة لا بد وأن تكون "نعم" أو لم يعدها الله وعدين؟ عند مولده كما ذُكر في قوله تعالى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (القصص:7). فقد تحقق الوعد الأول بعد يوم حين رُدَّ إليها، فكان لا بد من أن يتحقق الثاني فتراه من المرسلين. فلنتخيل تلك الأم العظيمة وهي ساجدة لله تحمده على تحقيق وعوده، فالله يعد ويستجيب الدعاء ولكنه يقبض ويبسط، فقد يتحقق الوعد سريعا وقد يطول الانتظار لتحقيقه.

التوجه إلى قصر فرعون:

تحدث موسى إلى أخيه حول أمر مواجهة فرعون حيث المهمة التي كٌلفا بها بأن يتحدثا إلى فرعون بألا إله إلا الله، وأن يطلبا منه أن يمنح بني إسرائل حرية الخروج بدلاً من الحبس والذل الذي يفرضه عليهم.

توجه الأخوان الأعزلان بشجاعة إلى قصر فرعون، بعد أن غاب موسى عن هذا القصر عشر سنوات، هرب فيها من حادثة القتل التي كانت قد وقعت قبل تلك السنوات حيث توجها بأمر من الله: "إذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى" (طه:4?)، فقد تجبر فرعون وتجاوز كل الحدود وادعى الربوبية، وعلى الرغم من ذلك تستكمل الآيات بقوله تعالى: "فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" (طه:44)، فما أعظم رحمة الله تعالى إذ يأمرهما بالقول اللين لجبارٍ عاص، بل وليتيح له باب التوبة والمغفرة إن تذكر وخشي، وفي ذلك قال أحد العلماء: "إن كانت رحمة الله بمن قال أنا ربكم الأعلى واسعة على هذا القدر، فكيف برحمته بمن قال لا إله إلا الله؟!". فالحمد الله الذي يطمئننا بهذه الآية ليس هذا فحسب، بل يبدو في هذه الآية أدب الإسلام حتى مع الأعداء والظالمين حيث علمنا النبي في خطابه إلى هرقل ملك الروم أن نُنزل الناس منازلهم، حين قال: (إلى هرقل، عظيم الروم) للأسف نجد بعض الناس من المتحمسين إلى الحق يسب الآخر وينسى هذه الآية، بل وينسى قول الله تعالى: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ" (آل عمران:15?). لعل قول هارون الرشيد فيه حكمة، حين جاءه رجل قائلا: "جئت لأعظك وأشُد عليك في الموعظة، فرد هارون الرشيد قائلاً: "ولِمَ تشُد عليَ في الموعظة؟ أنت لست بخير من موسى وأنا لست بأسوأ من فرعون".

ولعل التساؤل الذي يدور في الأذهان هو: لماذا أرسل الله موسى إلى فرعون؟ لما لم يرسله قائلاً إذهب لبني إسرائيل؟ في حين إن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس مع رؤساء القوم عاتبه الله عن عبوسه في وجه غيرهم: "عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى" (عبس:1 إلى6)، لكن الأمر هنا مختلف؛ فقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أناس أحرار كل منهم حر في قراره، لذلك بُعث إلى عامة الناس، أما بنو إسرائيل في مصر فقد كانوا تحت ذل فرعون الذي لم يجعل لهم قيمة من فرط ذله فيهم، وبذلك لا جدوى من الحديث إليهم.

كما أنه ينبغي لنا أن نفكر الآن في جد موسى الأكبر، وهو يوسف عليه السلام، الذي قبِل الوزارة على الرغم من أنها كانت لدولة كافرة وعلى الرغم من ظلمهم الشديد له، إلا أنه قبل أن ينقذ بلادهم من المجاعة. فلما لم يقم موسى بالمثل؟ فالأمر يبدو أسهل له ؛ فهو أمير تربى في بيت فرعون ويُعد ابنا له بالتبني، فلن يمانع أحد أن يأخذ الوزارة. لما لم يُقدم موسى عليه السلام على هذا؟ لم يكن أي منهما على خطأ، فكلاهما اختار الأولَى للناس. ففي حالة قصة سيدنا يوسف كان الناس أحرارا وكانت الأزمة الاقتصادية هي المشكلة، فالأولَى كان إطعامهم، أما في وقت سيدنا موسى كانت الناس تعاني من الذل لا من الجوع -. نصيحة لكل مسلم: إياك وأن تربي أبناء أذلاء، إياك وضربهم، عليك أن تربيهم لأن يكونوا رجالا أحرارا. ولكل مدرس: لا تسخر من طالب أو تذله، ربِّه لأن يكون له روح حرة.

يبقى السؤال الثالث: لماذا يرسل الله موسى لفرعون؟ إن الله لقادر على أن يهلك فرعون ولكن كيف نعرف بعد ذلك قيمة الشريعة وقيمة سيدنا موسى؟ بل وكيف تتعلم الفرق بين الشجعان والجبناء؟ بل والأهم كيف تتعلم قيمة قول الحق في وجه ظالم؟ كما أن هلاك فرعون لن يعني أن الناس قد تخلصوا من ذلهم، فرُبّ فرعون ذاهب وآخر آت ليذلهم. أما ثبات موسى وصموده ففيه تحرير لهم، على الرغم من سخرية فرعون حين سأله: "أمعك قوة؟"، فأجاب "لا" فسأله "أمعك جيش؟" فأجاب "لا"، فسأل: "أجئتني وحدك؟"، فأجاب "نعم"، فقال: "إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون".

وصل موسى وأخيه إلى القصر وطلب مقابلة الملك، ربما كانت لحظة شديدة ومحيرة لفرعون، عاد موسى بعد عشر سنوات، وقد تبدلت هيئته، فترى ماذا أراد بهذا اللقاء؟ وماذا يريد؟ وما تلك العصا التي عاد يحملها؟

لعل من أهم أسباب تعدد مواضع تسجيل هذا اللقاء في القرآن، هو تسجيل هذه الشجاعة المتناهية، كما أنه يعلّم قيمة الحوار في حل أي قضية، لذلك نجد القرآن كثيرا ما يحدثنا عن الحوار وأن الحل ليس في العنف.

أجندة خاصة لكل طرف في هذا الحوار:

كان الحوار في ثلاث جولات، ولكل من موسى وفرعون أجندة. بالنسبة لسيدنا موسى كان هناك بندان:

1. أولهما إعلان مطالبه بكل وضوح؛ على الرغم من علمه أنها لن تستجاب، إلا أنه أراد تسجيل وضوح مطالبه.

?. كسر حالة الرهبة.

لكن ما هي تلك المطالب التي أعلنها بوضوح؟ هما مطلبان:

1. قل "لا إله إلا الله" واعرف ربك.

?. أرسل معي بني إسرائيل.

لكن ما هي أجندة فرعون؟ كانت ببساطة تحطيم سيدنا موسى معنويا، فيكون قد هزم نفسه بنفسه وأظهر قوة فرعون، فبذلك ينهزم قبل أن يبدأ.

في عالم الحوار لا بد من بعض المتطلبات للمتحاور:

1.الحكمة والذكاء: أحيانا صوت حكيم لشخص له حجة ورسالة يغلب به ألوفا ممن يفتقرون إلى الحكمة أو ليس لهم رسالة.

?.القوة النفسية: فرغم رهبة القصر و(الهيلمان) إلا أن سيدنا موسى كان شديد الهدوء، والنصرة في الحوار لمن له الثبات النفسي الأطول.

الحوار في ثلاث جولات:

الجولة الأولى:

يبدأ سيدنا موسى الحوار في الجولة الأولى، فهو من طلب ذلك اللقاء، حيث بدأ بعرض مطالبه كلها بشكل واضح، كما علمه الله أهدافه في جبل الطور، فبدأ بإعلان أنه رسول الله رب العالمين، ثم طلب أن يرسل معه بني إسرائيل، وهو درس لكل إنسان؛ ألا تحيا في هذه الدنيا دون أن تعرف هدفك بوضوح.

دار الحوار بقوله: "إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ …" (طه:47)، لم يقل له مرة أنت كاذب، بل اتبع اللين فأعلمه أن له إلها بحسن القول. في هذا الحوار، كان فرعون يركز على هزيمة سيدنا موسى النفسية، لذلك لم يرد على ما قال موسى ولم يعبأ به بل تعمد أن يذكره بماضٍ ولّى منذ أمد بعيد. فقال: " أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ " (الشعراء:18)، متعمدا تذكيره بفضله عليه، ثم قال: " وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِين" (الشعراء:1?).

لو أن مثل هذا الهجوم أُلقي على غير سيدنا موسى ربما كان ارتبك رغم أن الحق معه، أو ربما أنكر ما كان منه ليبرئ نفسه، وربما فكر غيره ألا يذهب من الأصل مادامت له أخطاء في ماضيه لكن شجاعة سيدنا موسى كانت عظيمة ما جعلته قادرا على المواجهة والرد، فابتدأ بالرد على الاتهام الثاني بفعلة القتل التي ارتكبها، فورد في القرآن العظيم الذي يسجل حوارهما للعالمين حيث يتعبدون ويصلون به ليتعلموا الحكمة والشجاعة، قال: "قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ" (الشعراء:??)، وبذلك اعترف بما اقترف كما أقر أنه اقترفه في زمن كان فيه ضالاً عن الحق، ولم يقصد هنا الحق في العبودية، بل الحق في مواجهة المواقف، فقد كان قتلاً خطأً إذ لم يحسن التصرف فمات الرجل. ثم قال: "فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ …" (الشعراء:?1)، فأقر بما حدث بمنتهى البساطة وبلا تكلف، فهو لم يفر من فعلته بل من تآمرهم عليه، فما فعله خطأ غير مقصود، ولم يقل له فررت حين تآمرتم علي، فهو ما زال يتبع قول الله تعالى: "فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا …" (طه: 44)، ولكنه لم يعترف بنقاط ضعفه دون أن يذكر مواضع قوته، فقد استكمل قائلاً: "… فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (الشعراء: ?1)، وبذلك أعاد الحوار مرة أخرى إلى مطالبه.

غير أن فرعون كان قد ابتدره بقوله: "أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ" (الشعراء: 18)، فما كان رده على هذا؟ كان رده في منتهى القوة إذ قال له: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (الشعراء: ??)، قال مستنكرا لتلك النعمة التي يتحدث عنها فرعون إذ في طياتها عبودية بني إسرائيل جميعا، وربما فهم البعض هذا الرد أنه قصد أنه لولا فعل فرعون بتعبيد بني إسرائيل ما كان قد جاءه يوما، فلو لم يقتل أبناء بني إسرائيل ما كانت أمه لتلقيه في اليم فيصل إلى قصره. وبذلك خسر فرعون أسلحة هجومه في الجولة الأولى وكسر سيدنا موسى حاجز الخوف بانتهائه من الرد على هذه الهجمات.

الجولة الثانية:

حين وصل الحوار إلى هذه النقطة، والتي اعتبر بها موسى عليه السلام قد كسب الجولة الأولى، فقد أعلن مطالبه جلية ولم يتأثر نفسيا بمهاجمة فرعون، حينها قلب فرعون الحوار العقلي إلى حوار ديني، فقال: " فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى" (طه: 4?) وقد بدا خبث فرعون في هذا السؤال ، فإن قال موسى ربنا هو كذا وكذا فقد انتهى الحوار إلى تعدد الآلهة؛ فلكم ربكم ولنا ربنا، فرد موسى عليه السلام قائلاً: "… رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ" (الشعراء:?4)، وكان في هذا إلغاء لجميع آلهة الفراعنة من آلهة النجوم والشمس والقمر ما إلى ذلك، فقال فرعون: "قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ" (الشعراء: ?5)، قال ذلك موجها كلامه للحضور الواقفين وكأنما يسخر مما قيل، حيث انتبه أن مثل هذا القول في وجودهم قد يشكل عليه خطرا إذا ما تأثر الحضور بكلمات موسى أو بشجاعته. لم يردّ سيدنا موسى ولم يعبأ لقوله، بل استأنف كلامه قائلاً: "قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ" (الشعراء:?6)، حين وصل الأمر إلى هذا الحد رد فرعون: "قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ" (الشعراء:?7)، وفيما يبدو أنه استشعر بداية تأثر ممن حوله بكلام موسى عليه السلام، فاستأنف موسى قائلاً: "… رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" (الشعراء:?8)، قال هذا في حضرة قوم اعتادوا أن يقولوا إن إيزيس وأوزيريس هما آلهة الشرق والغرب، وبذلك جاء رده هدما لكل آلهة الفراعنة، لم يعتمد موسى عليه السلام في رده على سؤال فرعون على أن الله هو ربه الذي أمره أن يعبده، بل توجه إلى السماوات والأرض.

وقد بدا أن فرعون عند هذه اللحظة بدأ يهتز، وربما لمح نظرة فرح في عيني آسيا، فرحة أم بابن لها، ولو بالتبني، وربما لمح نظرات موافقة في أعين البعض الآخر من الحضور، وربما لمح تغير في وجه ابن عمه ومستشاره الذي أسماه القرآن فيما بعد (مؤمن). عندئذٍ قرر فرعون أن ينهي الجولة الثانية بقوله: "… لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ" (الشعراء: ??). ظن فرعون أن الحوار ينتهي بهزيمة موسى النفسية، إلا أنه تبدل بانتصار حوارى لصالح سيدنا موسى، فقد تحلى بالحكمة والشجاعة الواجبتين لإدارة حوار ناجح ومثمر. أما فرعون فقد انهزم حواريا، لذلك لم يجد بُدًّا من استخدام القوة ليقلب هزيمته الحوارية إلى انتصار، فما من لاجئ إلى القوة إلا منهزم، وفي ذلك حكمة نتعلمها، فلا يقلبن أحدنا حواره مع ولده إلى عقوبة شديدة، ذلك أن ما تعلمه ابنك في تلك اللحظة هو انعدام قيمة الحوار، بل إن القوة هي المتحدث الأول.

الجولة الثالثة:

الجولة الثالثة جولة عملية؛ فقد انتهى الحوار العقلي وسيلجأ موسى عليه السلام إلى الإثبات المرئي، فقال: "… أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ" (الشعراء:??)، قرر موسى عليه السلام أن يعرض المعجزات التي أيده بها الله على فرعون والحاضرين. لم يبدأ بها موسى لحكمته، إنما قرر عرضها حين هدد فرعون بالسجن، فأراد موسى أن يريه ما يجعله عاجزا حتى عن سجنه، وقد نجح في إرباكه، فرد فرعون عليه وقد ملأه الفضول قائلاً: "… فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" (الشعراء:?1)، وما أن قالها حتى نفذ موسى: " فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ" (الشعراء:??)، فلنتخيل صوت العصا وهي تُلقى على أرض قصر فرعون ثم تتحول إلى ثعبان عظيم، وهو الحادث ذاته الذي أخاف سيدنا موسى وأربكه عند جبل الطور، ويمكننا هنا أن نتخيل الفزع الذي أصاب فرعون من جراء رؤية لهذا الثعبان الذي وصفه القرآن بأنه مبين، وربما تصبب عرقا وانكمش في كرسي عرشه. ولم يمهله موسى بل استمر: "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ" (الشعراء: ??)، فرغم شدة معجزة الثعبان إلا أن اليد البيضاء تحمل معنى السلام، فيستكمل بها اللين الذي بدأ به، وبدأ الناس من حول فرعون يتأثرون، فقال فرعون: " قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيم * ُيرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ …ٌ" (الشعراء: ?4-?5)، بدأ فرعون يبث في الناس فكرة الفتنة الطائفية؛ مدعيا أنها هي أصل ما جاء به موسى عليه السلام، بل وأراد أن يبدو في صورة المشاور الذي يستمع إلى الآراء الأخرى فيستكمل قائلا: "… فَمَاذَا تَأْمُرُونَ" (الشعراء:?5)، فرد الملأ من حوله ردا قد يبدو مؤيدا لفرعون إلا أنه في جوهره ليس مؤيدا له، فجاء الرد: " قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ" (الشعراء:?6-?7)، فقد جاء هذا الرد وكأنما يريد أن يكشف كذبه في حيلة، وكأن ما عرضه موسى غير بشري مما شجع البعض على أن يتقدم بهذا الاقتراح.

اضطر فرعون للاستسلام لفكرة هذا اللقاء، فرد موسى من فوره قائلاً: " … مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى" (طه:5?)، أراد موسى جمع الناس وعلم أن فرعون لن يستطيع الرفض، فلو رفض لأثار الشكوك في نفوس رعيته، فلعلمه بمدى كِبر فرعون طلب بثقة أن يجمع الناس، وقد كان خطأ فرعون أن وافق على ذلك قبل أن يقوم بالتجربة مع السحرة وموسى وحدهم، فقد اهتز موقفه بشدة بعد ذلك وافتضح أمره، بل والأهم أن موسى عليه السلام قد حدد يوم الزينة وهو عيد قومي عند المصريين (عيد وفاء النيل) مما ينفي عنه أي تهمة بالفتنة الطائفية بل ويثبت احترامه وحبه للمصريين ولأعيادهم.

انتهاء اللقاء بانتصار موسى:

انتهى اللقاء وأصبح على فرعون أن يجمع الناس بالألوف لهذا اليوم. كان مكسب موسى في هذا اللقاء إعلان مطالبه جلية، كما استمد قوة نفسية هائلة، وفوق هذا وذاك فقد أصبح بطلاً بالنسبة لبني إسرائيل بشجاعة مواجهته، كما تأثر الملأ من حول فرعون؛ آسيا وابن عم فرعون وكبير السحرة.

خسر فرعون لأن موسى تحلى بالحكمة والشجاعة ولأن له رسالة ومعه الحق.




خليجية



التصنيفات
منوعات

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد

قيمة الحق

مقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. توقفنا أمس عند مواجهة سيدنا موسى لفرعون وحيدًا، هذا اللقاء الصعب الذي يتجلى فيه الحق والإيمان وعظمة سيدنا موسى وشجاعته وقوته وثقته في الله، وتوكله عليه. وكانا قد اتفقا على موعد محدد، وهذا هو محور حديث الليلة.

موسى و السحرة، كيف كانت المواجهة؟!:

أعد فرعون عشرة آلاف ساحر مصريٍ لمواجهة سيدنا موسى، وقد صور القرآن هذه المواجهة في سورتي طه والشعراء، فترى كيف كانت؟!

لنقترب أكثر من الصورة ونتخيل سويًا، دعونا نبدأ بالمكان، ولكي نجعلك تتعايش أكثر مع القصة، سنروي لك القصة من خلال مكان تمثيلي يقرب لك الصورة، والمكان الذي اخترناه عبارة عن مدرج (مسرح) روماني بناه الأنباط في القرن الأول قبل الميلاد، وقد اتخذه الرومان عند قدومهم إلى هذه المنطقة في الشام، وتحديدًا في الأردن، وجددوه على أنه مسرح روماني.

أما أبطال القصة فهم: موسى وهارون وفرعون وجنوده والعشرة آلاف ساحر والجماهير-فئة قليلة من بني إسرائيل حضرت وهي خائفة- وآسيا زوجة فرعون ومؤمن آل فرعون الذي حتى هذه الأحداث الجارية لم يؤمن بعد.

القيمة والهدف من القصة:

قوة الحق، حيث يعد أقوى من كل القوى المادية؛ فلو كان الحق معك فلا تخف؛ فأنت الأقوى، كل ما نذكره من أحداث ليست مجرد مشاهد تمثيلية، ولكنها عبرة يجب أن تتمسك بها، وإلا لم تناول الجزء الأكبر من سورة طه هذا اليوم الذي نحكي عنه؟ ففيها يقول سيدنا موسى: ( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً) (طـه:59) انظر ماذا يقول في هذا الموقف العصيب، دالًا على قوة الحق؟! فإياك أن تخفي الحق خوفًا أو جبنًا، أو تتركه مفاضلًا بينه وبين مصلحتك فتنتصر لها، فالحق منتصر مهما حدث، وكما تقول الآية (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ…) (الأنبياء: 18) وأيضًا (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء:81) ترى من الذي يقذف بالحق؟ إنه الله، فالباطل سينتهي مهما طال ولكن عندما يأتي الحق، فإن لم يأت فسيأتي باطل آخر.

اليوم الموعود:

جاء يوم الزينة الذي اختاره سيدنا موسى، تحديدًا وقت الضحى، وكان هذا اليوم احتفالًا قوميًا لديهم، فجاء اختياره ليندمج مع الناس ويقترب منهم، فهو ليس ضد قوميتهم بل يحتفل به معهم، وبمنتهى الحماقة جمع فرعون الناس وحشد الجموع بنفسه، وهو لا يعلم أنه ساعد بهذا موسى ليعرض دعوته أمام الجميع.

إذن، دعونا نتخيل أن هذه المدرجات امتلأت بالحشود الهائلة، ترى ما سر هذا التجمع؟ بالتأكيد شيء مثير جدًا، ففرعون وسحرته يتحداهم رجلٌ عادي منفردًا من بني إسرائيل، كما أن الحضور مجاني، والدعوة عامة؛ فالحدث لن يكون في قصر فرعون بل في مكانٍ عام، ولكل من الحضور هدفه ودافعه، فهناك من جاء ليشاهد هذا التحدي الرهيب، وآخر ليحضر مبارزة بين السحر والسحرة وبين رجل يقول أن معه معجزة إلهية.

بالحق أنت أقوى وإن لم تمتلك غيره:

هاهي الجماهير تجتمع حشودًا من وقت الضحى، وتخيل معي أن سيدنا موسى سيدخل بعد قليل وحيدًا عليهم، بل يصحبه الحق، فلو أن هناك طرفين مع أحدهما كل شيء، والآخر لا يملك إلا الحق، فالحق أثقل في الميزان وأقوى، لكن متى يأتي؟! فبالحق أنت أقوى وإن لم تمتلك غيره، فيجب ألا تتخاذل عن قوله، وتعش به سواء كان مع زوجتك أو في عملك أوفي المدينة التي تسكنها أوفي الحي الذي تقطنه أو في بلدك، ولا تعش بالزور.

ها هو فرعون يدخل، ترى أين سيجلس؟! لعله جلس في شرفة رئيسية من هذا المدرج، ومعه زوجته آسيا، ترى كيف كانت؟ خائفة تتسارع دقات قلبها خوفًا على ابنها؟ بالطبع كان هامان يجلس بجانب فرعون هو الآخر، وكان قد اتفق معه فرعون أنه بمجرد أن يغلب العشرة آلاف ساحر- كما جاء عددهم في أغلب الروايات وكذا حددهم ابن عباس- يُقتل سيدنا موسى، وبالتأكيد هو الآخر تخيل هذا، أما فرعون فتتضارب مشاعره مابين ابتسامة الثقة بالنصر تعلو وجهه وبين اضطراب تذكره لهجوم الحية عليه في القصر.

عش للحق ينصرك الله الحق

نعود للمدرجات المحتشدة، التي يجلس بها كبار رجال الدولة أيضًا، فهاهو ابن عم فرعون الذي سيسلم فيما بعد، ويدافع عن سيدنا موسى، و ها هم السحرة العشرة آلاف يدخلون، والآن ينادي عليهم هامان كما في سورة طه (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) (طـه:64) وذلك ليكون الأمر أكثر رهبةً لموسى إذا وجدهم مجتمعين غير متناثرين، فشكلوا نصف دائرة بعددهم الضخم، ممسكين بعصيهم وحبالهم- كما تقول الآية- أما جنود فرعون فيملئون المكان منتظرين هزيمة موسى ليقتلوه كما أمروا، إذن سيدنا موسى سيقف وحيدًا أمام كل هذا، لكن كل هذا لا يهز الحق، فهكذا يضرب الله مثل الحق والباطل (..فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ..) (الرعد:17).

بدأت الحشود المصرية تشجيع السحرة بالتصفيق، وبالطبع قد يكون حضر على استحياء عدد قليل من بني إسرائيل، فهاهو الحق يقف أمام كل تلك القوى الزائفة، لكنه سينتصر، فإياك أن تخجلي من حجابك، أو أن تخجل من إيمانك، أو أن تستسلم للزور، فستدور الأيام ولن ينتصر إلا الحق، فقد يتم خداع الناس لفترة، لكن لا يمكن أن يستمر الخداع للأبد، فعلى الحق قامت السماوات والأرض.

أما فرعون فربما توقع هرب سيدنا موسى وعدم حضوره، ترى لو كنت مكان سيدنا موسى كيف ستكون دقات قلبك؟ وهل ستذهب أم لا؟! فيجب أن تعرف أنه لابد أن يدافع عن الحق إنسان، وقد يؤدي ذلك إلى موته! فماذا كنت ستفعل لو كنت مكانه؟! هل استشعرت حبًا عميقًا لسيدنا موسى كما أشعر الآن؟! انظر لعظمته، إنه كليم الله، ويكفي بهذا الموقف أن يكون في السماء السادسة قبل سدرة المنتهى ليس فوقه إلا سيدنا إبراهيم، كما قابله النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج، فكم هو غالٍ عند ربنا وقد قال جل وعلا عنه (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طـه:41) فها هو يدخل ممسكًا عصاه ومعه أخوه هارون، وتخيل الصمت الرهيب الذي خيم على الأجواء؛ حيث يقف أمام عشرة آلاف ساحر.

وتبدأ المباراة التي يعلق عليها السحرة آمالًا من رزقٍ وغنيمة كما قالوا (..إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (لأعراف:113-114) فلن يكون أجر فقط بل وقربة من وظائف في قصر فرعون، وبدأ السحرة هاتفين (.. بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) (الشعراء: 44) ولك أن تتوقع ما لهذا الهتاف من أثر في نفوس الجماهير، وما بثته من ثقة في نفس فرعون، لكن ترى كيف كان وقعها على سيدنا موسى؟ هل اهتزت نفسه؟!! هل ندم على القدوم؟! على العكس تمامًا بل نادى بصوته عاليًا ثابتًا (…وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) (طـه:61) فالنتيجة ستكون خسارة في الآخرة، وخيبة في الدنيا لمن يفتري الكذب على الله، وعندما سمع السحرة هذه الكلمات (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ..) (طـه:62)- أي بدءوا يهمهمون فيما بينهم عما يقومون به من خطأ وخوفهم من فرعون وجنوده واختلفوا- (…وَأَسَرُّوا النَّجْوَى…) (طـه:62) وانظروا هنا لروعة ودقة الوصف القرآني، كما أن سيدنا موسى آثر أن يبدأ بالنصيحة عله يؤتي ثمارها معهم، وبالفعل جاءت بنتيجة ألا وهي اختلافهم في الأمر فيما بينهم. سبب آخر كان سببًا لتنازعهم وهو أن سيدنا موسى لا تظهر عليه علامات السحر واستخدامه له، كذلك ما قاله من كلمات، فهي ليست بكلام السحرة؛ فهو يتحدث عن الله، فالحق تظهر على صاحبه أماراته، تمامًا كما حدث مع يهودي المدينة الذي علم بقدوم النبي إلى المدينة، فجهز عشرين سؤالًا ليتحقق من صدق نبوة النبي، وقد أخذ معه ابنه، وبمجرد دخوله ووقوع عينيه على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رسول الله"، فاندهش ابنه قائلًا: "لم يا أبي؟" قال: "هذا الوجه ليس بكاذب"، فصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

كأن فرعون وهامان شعرا باضطراب السحرة وتنازعهم، فناديا قائلان:( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) (طـه:63) فادعيا أن موسى وهامان جاءا ليثيرا فتنة طائفية بينهم، ويعملا بدلًا منهم في السحر؛ فيأخذون رزقهم، كما أن هذه الكلمات تحمل من التهديد والوعيد للسحرة بإخراجهم من الأرض، ثم يعاود هامان النداء ( أَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) (طـه:64) فقرر السحرة أن يبدءوا المعركة (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) (طـه:65) وكان سيدنا موسى مبادرًا في باديء الأمر عندما حذرهم قائلًا (ويلكم…) أما هذه المرة (قَالَ بَلْ أَلْقُوا..) (طـه:66)؛ ليعرضوا ما لديهم من أفكارٍ وأساليب، وينهوا ما لديهم من حيل؛ فيتمكن من التعامل معهم، وهذا يدل على شخصيته القيادية العظيمة الخبيرة التي تعرف متى تبادر، ومتى تترك الأمر للمنافس؛ فيعلم أدواته، ولعل هذا حصاد تدريبه في مدين، كما أنه لا يهاب تلك الحشود؛ لثقته في الله ويقينه به وتوكله عليه، وهذه كانت دوافعه في قول الحق. وشهر رمضان فرصة لنا أيضًا لتقوية الإرادة التي هي أيضًا من أهداف الصوم.

تابع سيدنا موسى (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طـه:66) فحتى هو خيل إليه أنها تحولت إلى ثعابين، لكنها بالفعل لم تتحول؛ كما جاء في آية أخرى (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (لأعراف:116) – أي شهقت الناس من اندهاشها بما سحروا أعينهم به، ولاحظ أن القرآن شهد لهم بما جاءوا به من عظمة السحر والخيال الذي صوروه للناس، فكيف كان حال سيدنا موسى هنا؟ ولا تنسوا أنه بشرٌ مثلنا ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) (طـه:67)، وهنا أيضًا دليل على عظمة القرآن؛ فلو لم يخف سيدنا موسى، علنا قلنا لأنه نبي، معه معجزة قادر على التحمل، أما نحن فبشر لا نتحمل، لكنه نفسٌ بشرية، وقد يكون ذلك ليجعله الله قدوةً لنا؛ لما فيه من صفات البشر، ولذا تقول الآية (…فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ…) (الأنعام:90)، فرغم أنه مؤيد بمعجزة فقد خاف لما رأى كباقي البشر، وأنت أيضًا مؤيد بمعجزة، ألا وهي الحق: القرآن الكريم، المعجزة التي جاءت للأمة جمعاء، وهي من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما عصا موسى كانت معجزة له وحده، فالقرآن ليس معجزة نبيٍ وحده.

رغم أن بني إسرائيل جالسون متابعون، إلا أنهم يتعلمون درسًا قاسيًا في الذل والجبن، فها هو جاء بإرادته وحيدًا ليدافع عن الحق، وترى نحن مثل من؟ سيدنا موسى أم بني إسرائيل، وهل نملك معجزة أكبر من العصا؟!

مازال موسى وهارون أمام الحشود وكان السحرة (.. أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)، ولتعلموا أن أولئك السحرة كانوا نوعين، منهم من يصنعون خيالًا أمام أعين الناس، ومنهم علماء كيمياء، وتقول الروايات بأن السحرة الذين يصنعون الخيال جاؤوا بحبال، أما الكيميائيون جاؤوا بأنابيب على شكل عصي؛ لذا جاء في القرآن (حبالهم وعصيهم) لكي يظهر الفرق ولم يكتف بواحدة، وكانوا ذا علمٍ واسع حيث أنهم كانوا يعملون في التحنيط أيضًا، وتلك الأنابيب كانت تحوي الزئبق، الذي يتمدد بالحرارة، أو إذا وضع على أرض ساخنة يتطاول، فتبدأ الأنابيب في التحرك والالتواء، ومع العدد الضخم خيل للحشود أنها أفاعي (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)، وانظر للتأييد الرباني الذي يساند من كان على الحق (قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) (طـه:68)، فكيف كانت مشاعره؟ هل مغتاظًا من أولئك العشرة آلاف؟! هؤلاء السحرة الذين سيؤمنون بعد قليل؟ وهناك أثر جميل يقال عندما قال سيدنا موسى لهم (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) جاءه سيدنا جبريل، وقال له ( يا موسى ترفق بأولياء الله)، ولأن سيدنا موسى لا يتخيل ما سيحدث فرد قائلًا: (هؤلاء أعداء الله!)، فقال: (يا موسى ترفق بأولياء الله)، فأعادها:(هؤلاء أعداء الله!)، فكرر سيدنا جبريل: (يا موسى ترفق بأولياء الله، هم عندكم الآن من الضحى إلى العصر، ثم بعد ذلك في الجنة)!! أيصدق عقل هذا؟! أهؤلاء من جاءوا ليحصلوا على المال بعد قليل سيصبحون من أهل الجنة؟! كم أنت رحيم يا رب، فكم زاد أملنا في الجنة بعد هذه الكلمات، نعم ذنوبنا كثيرة، لكن أملنا فيك أكبر، وأملنا في العتق والرحمة والمغفرة في رمضان هذا العام أيضًا كبير، فأنت الكريم الغفور، سنعلم أخطاءنا، وسنسجد تائبين، تمامًا كما فعلوا.

غلبة الحق وسيطرته:

عودة للأحداث جاء الرد الإلهي عند خوف سيدنا موسى ( قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا.. ) (طـه:69)، فستبتلع ما سيلقيها من عصاه الذي يحملها في يمينه ما صنعوه من سحرٍ أمام أعين الناس، ويبهت الظالمون، وسيعلم الناس الحقيقة بعدما هاجوا وماجوا مسرورين بما فعله السحرة، ويُفحم فرعون بعدما اطمأن لسحرته، بل وربما أشار لجنوده بالاستعداد لقتل موسى، لكن الله أيده بكلماته ووعده النصر، وفي آيةٍ رائعةٍ أخرى ( فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:118)، ولم يقل: فوقعت العصا، بل وقع الحق وسيطر، وهذه هي قيمة حلقة اليوم، فها هي العصا بدأت تبتلع ما افتروه من سحر كأنها أفاعي، أما السحرة ففي الاندهاش غارقون، فما يرونه سحرًا بل معجزة! فعصا سيدنا موسى تحولت إلى ثعبانٍ حقيقي! وتأتي المعجزة في ابتلاع الثعبان لسحر السحرة، فلو أنه ما ابتلع الأفاعي الزائفة لكان مجرد ثعبان أمام باقي الثعابين، وقد لا يلاحظ الجمهور الفرق بين المتحول حقيقة ومجرد الخيال، أما بهذه الخطوة قضى سيدنا موسى على أدواتهم، وأنهى المباراة!

مكاسب الحق وإيمان الكثيرين:

أ متخيل حالة فرعون؟! أما السحرة فلم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا أمام قوة الحق، وهم علماء (..إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.. ) (فاطر: 28)، وكانت النتيجة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) (طـه:70)، وبراعة التصوير القرآني تظهر في كلمة (أُلْقِيَ)، فكأن مغناطيس الحق جذبهم للسجود! جذب العشرة آلاف وملأ صوتهم الأجواء، ترى ماذا كان رد فعل سيدنا موسى، بالطبع كان شاكرًا لله، وكأن لسان حاله يقول: اللهم لك الحمد والشكر؛ فلم تضيعني يا كريم يا عظيم يا حق، فبالتأكيد أنت معي، فقد وقفت مع الحق.

قد تكون علت أصوات بني إسرائيل في هذه اللحظات مرددةً: لا إله إلا الله، وتخيل صمت الحشود، ونظرات الترقب الملقاة على فرعون؛ وكأنها تقول له: أنت لست بإله، لقد كذبت علينا، وهل متصور حال فرعون وما حل عليه من كربٍ ومصيبة؟! وآسيا ترى ما حالها؟ هل تدمع عيناها فرحًا، أم تخفيها خوفًا من فرعون؟ وقد تكون أسرت قائلةً لأول مرة: لا إله إلا الله، آمنت برب موسى.

أما ابن عم فرعون وكاتم سره وصديقه المقرب الذي يودعه ثقته، فهو مؤمن آل فرعون؛ ذلك المصري الأصيل الذي يقول بداخله: لا إله إلا الله، من ناحيةٍ أخرى قد يكون هامان اختفى هاربًا، خائفًا من بطش فرعون، أما أولئك العشرة آلاف مصري فهم أصلاء، فاضلوا بين الحق ومخاوفهم الشخصية ورجحوا الحق، وأنت في أي كفةٍ ترجح؟ كفة سورة طه؟ أم الدنيا التي لن تنفعك؟! فالسحرة اختاروا الحق وسجدوا، تمامًا كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب الذي أسلم بعدما سمع سورة طه من أخته، فبكى، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم معلنًا إسلامه، ناطقًا بالشهادة؛ لأنه يعشق الحق. ففي القلب ما يكفي ليشعل شرارة الإيمان، فسيدنا عمر والسحرة نفسيةٌ واحدةٌ محبة للحق، ولعلها حقيقةُ أخرى، فنفس السورة التي تروي أحداثهم يسلم عمر بن الخطاب عندما يسمعها، وهذا المشهد الرائع الذي استسلم فيه السحرة لربهم (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

الداهية فرعون:

عقلية فرعون ليست بالبسيطة؛ فقد فكر جيدًا، وتوصل أنه لو استمر في صمته قد تؤمن باقي الحشود، فوقف في حزمٍ بسرعة، ونادى في السحرة: ( …آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ…) (طـه:71)، فيرد السحرة: وهل الإيمان يحتاج إلى إذن؟! وهنا أتذكر أبياتًا شعرية جميلة للدكتور يوسف القرضاوي حيث يقول:

تالله مـا الإيمان يهـزم بـالأذى

أبـدًا وفي التاريـخ بـرُّ يمينـي

ضع في يدي القيد ألهب أضلعي

بالسوط ضع عنقي على السكين

لن تستطيع حصار فكري ساعة

أو كبح إيماني ورد يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في

يدي ربي وربي حافظي ومعيني

سأعيش معتصمًا بفضل عقيدتي

وأموت مبتسمًا ليحيى ديني

أما فرعون فبدهائه رد على السحرة قائلًا إنها مؤامرة بين السحرة وموسى، ويستطرد قائلاً: (…إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) (طـه:71)، ما هذا العقاب الشنيع؟! فقد توعدهم بقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، ويأتي الآخر فيقطع اليد اليسرى مع الرجل اليمنى؛ ليفقدهم القدرة على الحركة والعمل، وسيصلبهم أيضًا بعد هذه الفعلة! أما التحدي الذي ساقه فهو تحدٍ بينه وبين رب موسى عمن سيبقى!! فهل لو كنت ضمن السحرة كنت ترددت وتراجعت؟! أم أنت من أصحاب الحق الثابتين عليه؟!

ظل سيدنا موسى صامتًا؛ فقد انتهى الأمر وظهر الحق، وشهد عليه الملايين، ولم يجرؤ فرعون أن يقترب منه أو أن يتحدث معه، فسيعلم الناس كلهم أنه البطل الذي هزمه، وهو من أشاع هزيمته أمام تلك الجموع، فسبحان من حمى موسى بالسحرة الذين جاءوا متفقين مع فرعون لينالوا من عطاياه، كما حماه بعد ولادته بآسيا التي طلبت أن يرضع ويربى في القصر، كما حماه في مدين بواحدٍ من القصر، وجاء في الآية (… إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ…) (القصص:20)، فمن الحي الذي يملكك وأجلك ورزقك بين يديه؟ أما آن لك أن تعش للحق، وتربي النساء أولادهن على أن الحق غالٍ؟! وأن الحق هو الله؟!

جنات عدنٍ لمن تزكى:

جاء رد السحرة على اتهام فرعون لهم بتآمرهم مع سيدنا موسى كما تصورها الآيات الجميلة ( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طـه:72)، فقد رأوا بأعينهم، فلن يفضلوه على ما وصلوا إليه من حق، فمهما كان العقاب فإنه عقاب دنيوي، وفي النهاية سيموت الناس جميعًا، فربما يملك أجسادهم فيقتلهم ولكنه لن يملك أرواحهم؛ فالروح ملكٌ لخالقها، ويتابعون قائلين (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى*إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى*وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى *جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (طـه:73-76)، فما قيمة الدنيا أمام هذا الثواب الذي وعده الله للمتزكين-المتطهرين-من ذنوبهم

كبرٌ وعناد:

بدأ فرعون يأمر جنوده بالتحرك وتقييد السحرة، أن يحل عليهم العقاب؛ بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبوا في جذوع النخل، ويقتلوا أمام الناس، قد تكون آسيا تبكي أمام ما تشاهد، و وقد يكون ما حل عليهم من عقاب سببًا في زيادة إيمان الحضور، ولعل جبريل جاء الآن إلى موسى قائلًا له: ألم أقل لك يا موسى، هم عندكم من الضحى إلى العصر وفي الجنة بعد العصر!.

يا له من مجرمٍ! يقتل عشرة آلافٍ من أعوانه في يوم، خلال لحظات! ويهدد كل الحاضرين بأن من سيؤمن سيناله ذات العقاب، ومات السحرة، وقد يتساءل البعض: لم لم يحم الله السحرة كما حمى موسى؟ والإجابة: بأن موسى رمز، سيكمل الرسالة، ولابد من موت السحرة؛ ليعلم الناس أن الحق غالٍ لا يقبل المساومة، وإن كان ذلك على حساب رزقك، أو حتى حياتك، فلابد وأن يضحي أحد من أجله.

من وجهة نظرك من انتصر؟ فرعون أم السحرة؟ أنا أقول السحرة؛ لأنهم هم الذين فرضوا فكرتهم وانتصروا لها، وأخضعوا الآخر لإرادتهم، وهزوا الناس، وماتوا، لكن فكرتهم انتصرت، أما فرعون فقد غرق في نهاية الأمر، وبقيت فكرة السحرة، من صاحب الجنة ومن صاحب النار؟ الحق أم الباطل؟ إن السحرة هم المنتصرون.

عشرة آلاف مصري استشهدوا؛ دفاعًا عن الحق، وسجل القرآن هذا المشهد الرهيب، موضحًا عظمة المصريين عندما عاشوا للحق، فقد انتصروا في الدنيا؛ فلم يجبروا على فكرته، وانتصروا في الآخرة؛ لأنهم من سيخلدون في الجنة. اقرأ سورتي طه والشعراء، وعش مع الأحداث، واحيا بالقرآن




التصنيفات
منوعات

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد

قيمة : صفات المؤمن الحقيقي

كنا قد انتهينا عند موقف سيدنا موسى مع السحرة، الموقف الآن سيكون أشد صعوبة حيث سيتعرض سيدنا موسى للخطر. أصبح الوضع شديد الصعوبة، أصبح الموقف يحتاج لشخص آخر غير سيدنا موسى لتهدئة الموقف. أتتخيلون غضب فرعون؟ لقد قتل عشرة الآف شخص في يوم واحد! شخصية اليوم هي شخصية مصرية جميلة خلَّد القرآن ذكراها، هل لاحظتم أن طوال القصة وقف المصريون موقف المتفرج السلبي حتى ظهر السحرة، والآن يظهر شخص آخر. وبدأنا نتعرف على المعدن المصري الأصيل الذي عندما يؤمن بالحق يعيش من أجله، هذا الرجل سماه القرآن "رَجُلٌ مُؤْمِنٌ"، تخيلوا عندما يصف كلام الله الخالد شخصًا بالرجولة وبالإيمان، ما أعظم هذا الرجل!

حلمي للشباب:

إني أحلم بجيل من الشباب يتسم بهذه الصفات المصرية الأصيلة، أحلم بجيل به صفات هذا الرجل، بجيل يفهم معنى الدين الكامل وليس العبادات الظاهرية فقط، أحلم بجيل يفهم الدنيا ويفهم الناس و"مصحصح" ليس بساذج، أحلم أن يكون هذا الجيل مثقفًا واسع الأفق، أحلم بأن يكون دارس تاريخ بلده، ومستفيدًا من دروس التاريخ ويطبقها على حياته، أحلم به ذكيًا وحكيمًا متى يتكلم ومتى يسكت، جيل متوازن، جيل إيجابي وطني يحب بلده جدًا، أحلم بأنه قادر على التعبير عن فكرته وعرضها بصورة شيقة، أحلم به شجاعًا في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، ولكن بحكمة وذكاء، أحلم به عادلًا مؤمنًا موصولًا بالله، قلبه حاضر مع الله.

كان من نتائج يوم السحرة إيمان الكثير من المصريين بسيدنا موسى مع كتمانهم هذا الإيمان، ومنهم ماشطة ابنة فرعون التي تصفف لابنة فرعون شعرها. حدث هذا الموقف في قصر فرعون حيث ستقع أحداث اليوم، هذه السيدة لها أربعة أولاد، شهدت أحداث يوم السحرة، وآمنت بسيدنا موسى، وكتمت إيمانها، يحكي لنا قصتها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. حكى النبي هذه القصة للصحابة في مكة عندما اشتد الإيذاء بالصحابة، في يوم من الأيام بعد إيمان هذه كانت تمشط شعر بنت فرعون، فسقط المشط من يدها، فقالت وهي تلتقطه من الأرض: "بسم الله"! فقالت لها ابنة فرعون: "الله الذي هو أبي؟"، يبدو أن هذه لم تستطع تحمل كتمان الإيمان أكثر من هذا، فقالت لها: "ربي وربك الله"، فقالت لها البنت: "أو لكِ رب غير أبي؟!"، فخرج منها الإيمان بكل شجاعة، ويبدو أن نموذج سيدنا موسى حرك في الناس الشجاعة والإيمان، فقالت لها: "ربي وربك ورب أبيك الله!"، فقالت البنت: "لأخبرنَّ أبي!"، وبالفعل أخبرته، فاشتد غضب فرعون أن يكون في بيته من لا يؤمن به، وسألها: "أوَ لكِ رب سواي؟"، فقالت: "ربي وربك الله". فقال فرعون: "ألها أولاد؟!"، فقالوا: نعم لها أربعة، فقال: "ائتوني بهم، وائتوني ببقرة من نحاس. وبالفعل أحضروا قطعة نحاس ضخمة على شكل بقرة فارغة الوسط، وأوقدوا تحتها النيران الشديدة، وجاء فرعون بابنها الأكبر، وسألها: "أوَ لكِ رب سواي؟" فقالت: "ربي وربك الله"! فألقى ابنها داخل البقرة المشتعلة، واختفى بعد دقائق من الصراخ! ويأتي بالابن الثاني، ويسألها: "أوَ لك رب سواي؟" فتقول: "ربي وربك الله"! ويقتل الثاني والثالث!

حتى لم يتبق من أولادها سوى الابن الأصغر، وهو رضيع تحمله في يديها، فيبدو أنها لم تقو على إعطائه لفرعون وكادت أن تتقاعس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الطفل أنه ممن نطقوا في المهد، فقال: يا أمي، اصبري إنكِ على الحق. فألقاهما فرعون في النار. يقول النبي: "مررت ليلة أسري بي برائحة طيبة فقلت ما هذه الرائحة يا جبريل؟ قال: هذه ماشطة بنت فرعون…"

ونتعرض لنموذج آخر لسيدة آمنت ولم تستطع كتمان إيمانها، وهى آسيا امرأة فرعون! آسيا التي أنقذت سيدنا موسى، آسيا التي كانت تربيه وتحميه في نشأته. آمنت وأعلنت إيمانها وشهدت أن لا إله إلا الله، وكانت هذه بمثابة كارثة لفرعون، زوجته تؤمن بالله؟! ويبدو أن فرعون بدأ يؤذيها فكان دعاؤها " … إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (التحريم: 11)، " كان دعاؤها ببيت عند الله في الجنة، لأنها كانت مؤمنة بأن بيت عند الله في الجنة خير من قصور الدنيا! فأصبحت من سيدات نساء أهل الجنة! ما أعظم هذه ! كانت تملك مصر واختارت الله. قد تحتار بعض النساء وترفض الدين بسبب الالتفات لشهوات الدنيا من مظهر وغيره، ولكن هذه لم يختلط عليها الأمر، واختارت الإيمان رغم شر فرعون أقرب الناس إليها! وتأملوا كلمة "عِنْدَكَ" فهي لم تطلب الجنة فقط، بل طلبت أن تكون بجوار عرش الرحمن في الفردوس الأعلى!

ولأول مرة بعد وفاة المرأتين يعلن فرعون عن رغبته في قتل سيدنا موسى، ويبدو أنه يحتاج لدعم، لأنه تسنت له أكثر من فرصة لقتل سيدنا موسى…"وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ? إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" (غافر: 26)… وهنا تظهر الشخصية التي أحلم بها…" وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ …" (غافر: 28)، لماذا كان يكتم إيمانه؟ ولماذا أعلن الآن؟

بطاقة تعارف على الـ" رَجُلٌ مُؤْمِنٌ"

هو ابن عم فرعون، في مكانة أعلى من مكانة هامان، فهامان مجرد موظف عند فرعون، ولكن هذا الرجل من الأسرة الحاكمة، فهو غني، وهو مستشار فرعون الخاص، وكونه من الأسرة الحاكمة يعطي له حصانة إجتماعية تصعب قتله أو إيذاءه، وهو مصري ليس من بني إسرائيل، فليس هناك شك في ولائه. والقرآن لم يذكر اسمه بل ذكره بلقبه " رَجُلٌ مُؤْمِنٌ" لنتذكره بهذا اللقب، فالناس في الدنيا يعملون ويبذلون من أجل الحصول على ألقاب مثل الدكتور فلان حاصل على شهادة الدكتوراة من الجامعة الفلانية في أوروبا، ولكن أي الألقاب أغلى؟ أتعرف عظم قدر أن يلقبك الله بالرجل المؤمن؟ أليس هذا اللقب يستحق العمل والبذل عشرات السنين؟

جمع فرعون جنوده وحاشيته ليقتل سيدنا موسى، فقال سيدنا موسى: " وَقَالَ مُوسَى? إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ" (غافر:27). ويبدو أن فرعون جمع حاشيته لاتخاذ القرار، واستقروا على قتل موسى، فظهر هذا الرجل، وقال: "وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ? وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ? وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ" (غافر: 28)، ابتدأ بالمنهج العقلي، وحواره الأول علمي، فهو لم يعلن إيمانه بعد! بل قام بتوصيل معلومة لفرعون أن أمامهم حلًا من اثنين، لو كان كاذبًا فلن يضر أحدًا بكذبه، وإن كان صادقًا فيما ينذرهم وفي الوقت نفسه لم يسلموه بني إسرائيل فسيقع العذاب الذي ينذركم به، ثم قال إن الله لن يوفقه إن كان كاذبًا، ومن الذكاء بدئه بقوله " وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا"… ثم قال لهم: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ"، أي إن كان كاذبًا فسيعذبه الله، فلم تقتلوه أنتم؟ وبهذا أيضًا كان وكأنه يجرح فرعون بالكلام!

ثم انتقل إلى الحوار الوطني…" يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا…" (غافر:29)، تخيل فرعون وهو يستمع لهذا الكلام والرجل المؤمن يعرض فكرته، وهذا الرجل مثال مصري عظيم، لقد رأينا السحرة والماشطة وآسيا، والآن نرى هذا الرجل المثقف المتدين الوطني، يفهم بعض الناس أن التدين عكس الوطنية، وهذا المفهوم غير صحيح؛ فالإيمان يُعزز حب الوطن، ويشجع على تنمية البلاد، يقول لهم إنه خائف على مستقبل مصر- وهي قائدة العالم في هذا الوقت- من أن تنهار حضارتها بسبب قتل الأبرياء! فيتدخل فرعون لتغيير كلام المؤمن، ويقول: "… قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى? وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر: 29)، قال في أول الأمر: " ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى?"، وكأنه يأخذ برأي الحاشية، ثم عندما وجد أن كلام المؤمن مؤثر وعميق اشتد غضبه؛ وأمر بأن يُطاع بلا نقاش.

ورغم غضب فرعون أكمل المؤمن الكلام، فقال: " وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ" (غافر: 30). وانتقل بهم إلى الحوار العاطفي لينقل لهم مشاعر الخوف عليهم، "مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ? وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ" (غافر: 31). ثم ينتقل بالحديث إلى الإيمان، فيقول: "وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (غافر: 32). فالمصريون كانوا يؤمنون باليوم الآخر، وأسماه بيوم التناد، حيث سينادي الناس على من ضلهم وسيتبرأ منهم، سيتبرأ منهم فرعون رغم أنه أضلهم في الدنيا… "يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ? وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (غافر: 33).

ثم انتقل إلى الحوار التاريخي، وذكرهم بأن جد سيدنا موسى هو سيدنا يوسف الذي تحبونه: "وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ ? حَتَّى? إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ? كَذَ?لِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ" (غافر: 34)

فقاطعه فرعون حتى لا يزداد تأثر الجمع به، " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى? إِلَ?هِ مُوسَى? وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا …"(غافر 36-37). فأمر فرعون هامان بأن يبني له برجًا عاليًا لكي يصعد عليه فرعون لينظر إلى إله موسى!

وهنا انتقل المؤمن إلى حوار دعوي صريح؛ حيث أعلن عن نفسه وعن إيمانه، فقال: " وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَ?ذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى? إِلَّا مِثْلَهَا ? وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَ?ئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)…وكأنه استراح بأن أعلن عن إيمانه، ثم ختم كلامه بتوكله على الله: " فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ? وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ? إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (غافر:44). فعقب القرآن بأن الله نجاه من مكر فرعون وجنوده؛ ولم يقدروا على إيذائه أو قتله مثلما فعلوا مع الماشطة وآسيا، وكأن الله يقول لنا اعلوا شأن الحق وتوكلوا عليَّ. يقول الله تبارك وتعالى: "فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ? وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (غافر: 45).

إذا حللنا ما فعله هذا الرجل نجد أنه:

– نجى موسى من القتل: نجح 100%

– أثر في الجمع الذي حضر خطبته: نجح!

فما كانت خسارته؟ فقد منزلته عند فرعون، ولكنه لم يُقتل لذكائه ولرحمة الله به. دفع ثمن إيمانه بالحق، ولكن ليس كل الناس عندهم هذا الاستعداد للتضحية؟ هل تملكه أنت؟!




بارك الله فيك غاليتي

جزاك الله خير جزاء




جزاكى الله خير



التصنيفات
منوعات

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهلا بكم، فلنكمل مع سيدنا موسى، هيا بنا نرى اختياره وإخلاصه وحمله للرسالة، ونرى نموذج سيدنا موسى نصير المظلومين والضعفاء الذي نادى لإعلاء كلمة لا إله إلا الله لأنها كلمة تعلم الناس أنه لا ذل ولا خضوع إلا لله سبحانه وتعالى فكلمة لا إله إلا الله هي رسالة سيدنا موسى.

إن شعارنا هو سنحيا بالقرآن، فرمضان هو شهر القرآن وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: ??) فقد هجروا قراءة القرآن، بل وهجروا فهمه وتنفيذه والتخلق بأخلاقه والعيش بقيم القرآن لذلك يجب أن نستخرج قيم القرآن ونقوم بتنفيذها. يقول عبد الله بن مسعود "ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرف بليله إذ يقوم بالقرآن، وبنهاره إذ يتخلق بالقرآن وبسمتِه (أي طريقة معاملته مع الناس) بحسن أخلاق القرآن". وتقول السيدة عائشة عندما سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قالتكان خلقه القرآن) ولذلك يجب أن تكون قرآنا يمشي على الأرض. لذلك يجب أن نقوم بنشر ملصق "سنحيا بالقرآن" في كل مكان لنذكر الناس؛ لأن هدفنا هو تجميع (1?) ملايين ختمة، فمن الممكن أن يرى أحد الملصق الذي قمت بوضعه فيقرر أن يقوم بختم القرآن فتأخذ ثواب قراءة القرآن.

القيمة: القدرة على الاختيار الصحيح:

نشأ سيدنا موسى في بيت فرعون وعاش في القصر، وأي إنسان يعيش في القصور في هذه السن الصغيرة يكون لهذه العيشة المترفة بريق وجمال. فقد كان سيدنا موسى يعيش في بيت فرعون وفي الوقت نفسه كان يعرف كل الحقائق وهو أنه ليس ابن فرعون ولا ابن آسية بل إنه ابن المرضعة، وأنه من فقراء بني إسرائيل غير أن اسمه الأمير موسى وكان معه الحرس والخيل والجنود، وكانت آسية تعرف أنه ليس ابنها وقالت له إنه ليس ابنها ولكنها لا تعرف أنه ابن المرضعة.

ما سنتناوله اليوم خطير لأن سيدنا موسى سيختار وبناءا على اختياره سيؤهله الله إلى منزلة ومكانة عظيمة. إن الحياة كلها اختيارات بينما يترك الله مفارق طرق في الدنيا ليقوم العباد بالاختيار، فرب العالمين يعطي عبده الحرية لكي يختار الطريق الذي يريده وسيدنا موسى هو أول شخص يترك الله له الحرية لكي يختار. فقيمة حلقة اليوم هي القدرة على الاختيار الصحيح؛ فهناك البعض ممن يستطيع الاختيار، وهناك البعض ممن لا يستطيع الاختيار ويترك نفسه للدنيا لكي توجهه، وهناك من يجعل أحدا يساعده على الاختيار لأنه لا يستطيع أن يتخذ قرارا، ولكن لكي ينجح الإنسان في الدنيا والآخرة يجب أن يكون لديه القدرة على الاختيار الصحيح في الوقت الصحيح

الفرق بين قصر فرعون وبيوت بني اسرائيل:

هناك فرق كبير بين قصر فرعون وبيوت بني إسرائيل، فقد كان بقصر فرعون زينة وأموال وحرس وحشم وخدم والأمير موسى، أما بيوت بني إسرائيل فقد كانت بيوتا فقيرة مصنوعة من الخوص على ضفاف النيل يعيش فيها أناس فقراء. فالفرق بين المكانين كبير للغاية، فمن يختار أن يمثل سيدنا موسى؟ وما الذي سيختاره؟

إن سيدنا موسى سيختار الحق فقد عرف الاختيار الصحيح في الوقت الصحيح أما بعض الناس فلا يستطيعون الاختيار أو اتحاذ القرار، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يكن أحدكم إمعة إن أحسن الناس أحسن وإن أساءوا أساء ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا) يجب أن تستطيع أن تتخذ القرار الصحيح، ولا تترك الناس لكي تختار لك. إن اختيار سيدنا موسى هو الذي سيؤهله لكي يكون كليم الله فيمكن أن يذهب بك الاختيار إلى أعلى عليين وجنة الخلد بينما قد يضيعك اختيار آخر. لذلك يجب على الإنسان أن يفكر ويختار الاختيار الصحيح في الوقت الصحيح

رسالة سيدنا موسى هي رفع الظلم عن بني اسرائيل:

يقول سيدنا موسى إنه من بني إسرائيل على الرغم من أنه الأمير موسى فإنه صاحب رسالة ورسالته هي رفع الظلم عن بني إسرائيل. وقد بدأ يحمل هذه الرسالة ويشعر بها، بل وأصبح قرار حياته، ففرعون كان ظالما وكانت هذه الناس مظلومة فسيدنا موسى لن يقبل الذل والظلم؛ لأن الله جعله شخصية حرة ليست ذليلة فلن يقبل الذل لأهله. ولذلك يعتبر سيدنا موسى نصير المظلومين في تاريخ البشرية وهو بطل الحرية في تاريخ البشرية فقد قال لا للظلم ولكن بلا عنف، بل بحكمة وعقل فقد قرر منذ هذه الفترة أن ينتمي إلى هؤلاء ويعيش لهؤلاء المستضعفين على الرغم من أنه لم يكلف بعد برسالة من الله! فقد كان عمره ثلاثين عاما بل إنه قد كلف عندما بلغ من العمر أربعين عاما ولكنه رجل مؤمن موحد يحب الله والناس ولا يريد الظلم بل يريد رفع الظلم عنهم، ولذلك بدأ بجمع بني إسرائيل فأصبح له أنصار وأتباع وأشياع.

عندما يختار الإنسان يختبر الله هذا الاختيار ثم يسوق الأحداث سوقا لكي تكبر نتيجة هذا الاختيار وتعلو، فقد كان بنو إسرائيل يقولون إن سيدنا موسى يقول إنهم من أتباعه ولكنه أيضا الأمير موسى، ولذلك يجب أن يحدث موقف حاسم يوضح أنه منهم. فعند الاختيار سيختبر الله أولاً اختيارك وعند الإصرار عليه يدفع الأحداث دفعا ليظهر أن اختيارك صحيح حتى وإن كانت النتيجة سيئة.

الحدث الفاصل:

من جمال القرآن أنه يحكي القصة في آيات قليلة لتفكر فتفهم منها أمورا عديدة، يقول الله تعالى في سورة القصص {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} (القصص: 15) دخل سيدنا موسى "المدينة" أي المكان الذي يعيش فيه بنو إسرائيل لأن الأمراء كانوا يسكنون على أطراف المدينة وقصر فرعون كان على أطراف المدينة، "دخل المدينة على حين غفلة من أهلها" أي أنه جاء سرا للقاء بني إسرائيل دون علم فرعون فيبدو أن العلاقة بين سيدنا موسى وفرعون كانت متوترة، وكلمة "شيعته" تطلق على الأنصار والأتباع الأقوياء جدا ففي هذا ما يدل على أن سيدنا موسى كان له أتباع وأنصار على الرغم من أنه لم يكلف بالرسالة بعد ولكنه لا يريد الظلم. لذلك يجب أن تساند أي شخص مظلوم، فهذا هو ما أهل سيدنا موسى ليكون كليم الله، لا يمكن أن تكون ظالما وتعتق في رمضان، إذا كنت ظالما لزوجتك أو أمك أو أولادك أو شريكك أو جارك أو خادم عندك.

أما الرجل الآخر فهو مصري من حاشية فرعون فلم يكن المصريون من أعداء موسى بل إنهم إما ساندوه أو آمنوا به أو ساندوه ولم يؤمنوا به ولكن كلمة "من عدوه" تدل على أنه من حاشية فرعون، وكان يضرب الرجل من بني إسرائيل ضربا شديدا فلم يستطع سيدنا موسى أن يرى ذلك، ولم يتحمل فوكزه موسى، فالوكز هو الضرب بقبضة اليد فمات الرجل، ولم يكن يريد سيدنا موسى أن يقضي عليه فحدث الظلم – هذا يحدث كل يوم ولكن هذه أول مرة يقول فيها أحد لا للظلم- ولذلك فهذا حدث فاصل ومن هذه اللحظة سيكون سيدنا موسى البطل الذي ضحى لنصرة المظلومين وسيخرج بعد ذلك عشر سنوات فقد اختار، وبعد ذلك سيجعل الله الأحداث تساق سوقا لمشيئة الله.

لا للظلم بل يجب العدل:

ندم سيدنا موسى وقال {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (القصص: 16) فندم لأنه كان من الممكن أن يبعد الرجل دون وكزه، وندم أيضا لأنه من المحتمل أن يكون الرجل الذي من بني إسرائيل هو الذي أخطأ وأنه قتل شخصا دون ذنب بل كان يجب أن يعرف القصة ويحكم أولاً، فشعر أنه تسرع {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} فتاب سيدنا موسى واستغفر بسرعة {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}. فتعلم سيدنا موسى ألا يقضي في شيء قبل أن يسأل ويتحقق أولاً وعرف أن العدل قيمته كبيرة جدا، ولذلك سيظل عشر سنوات لكي يعرف قيمة العدل، هذا يدل على أن الظلم خطير جدا فلا يجب أن يفعل سيدنا موسى ذلك. كلمة "رب" تعني الذي يربي فسيربي الله سبحانه وتعالى سيدنا موسى عشر سنوات يتذكر فيها هذه الحادثة لكي يعلم أنه لا للظلم بل عليه بالعدل.

{فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} كيف علم سيدنا موسى أن الله غفر وهو غير مكلف بعد؟ فالمؤمن عندما يتوب يعلم أن الله غفر له فالفاء هنا للسرعة. – بالله عليكم استغفروا الله الآن- عاهد سيدنا موسى الله تعالى فقال {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرا لِّلْمُجْرِمِينَ} (القصص: 17) فقد أنعم عليه بالقوة والمغفرة وسرعة الاستيقاظ، ولذلك فقد عاهد الله أنه لن يكون ظهيرا ولا مساعدا لمكان فيه فرعون وفيه ظلم.

لا للتعميـم:

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} (القصص: 18) فهو لم يرجع إلى قصر فرعون لأنه كان خائفا، كما لم يرد أن يكون ظهيرا للمجرمين. فخوف سيدنا موسى يدل على أن الأمور بينه وبين فرعون كانت متوترة وخاف أن يعاقبه فرعون على قتل الرجل، هذه أول مرة يخاف الأمير موسى حيث يجب أن يذوق معنى الخوف التي تشعر به بنو إسرائيل ولكنه لم يذق الخوف وهو صغير حتى لا يكون ذليلاً ولكي يستطيع أن يحررهم.

(فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) فالرجل نفسه من بني إسرائيل قد تشاجر مع رجل آخر من المصريين فيبدو أن هذا الرجل يحب المشاكل فقال له موسى (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) أي أنه يفهم بطريقة خاطئة وأنه يريد أن يحل مشاكل بني إسرائيل عن طريق الشجار وهي ليست الطريقة الصحيحة لحل المشاكل مع بني إسرائيل ولا الطريقة الصحيحة لإزالة الظلم فهي طريقة خاطئة. كثير من المسلمين المتدينين يحدثون مشاكل كل يوم ظنا أنهم بذلك يحلون المشاكل على الرغم من أن الأمان والسلام والرحمة والحب والهدوء والكلام العاقل هو أفضل طريقة لحل المشكلات، فاحذروا أن تكونوا مثل هذا الرجل.

لكن سيدنا موسى قد رأى الرجل يضرب بشدة ففكر سيدنا موسى هل يدافع عنه أم لا {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} (القصص: 1?) نظر سيدنا موسى إلى الرجل من بني اسرائيل وقال له (إنك لغوي مبين) ثم بدأ يتجه إلى المصري ولكن الرجل من بني إسرائيل ظن أنه يريد أن يضربه فقال (أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ) فلم يكن هناك شهود بالأمس. إن الرجل الذي قُتل بالأمس من حاشية فرعون ولم يعرف أحد القاتل ولذلك كان سيدنا موسى "خائفا يترقب" بينما فضحه الرجل من بني إسرائيل وقال (أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) فعرف سيدنا موسى من هذا الموقف أنه ليس كل بني إسرائيل من الصالحين كما كان يظن بل بعضهم يحب المشاكل فلا للتعميم. وعندما ذُكروا بنو إسرائيل في القرآن تجد الله يقول {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف:15?) فلذلك لا تقم بالتعميم أبدا. حزن سيدنا موسى لما قاله له الرجل وهو من يريد أن ينصره! فأحيانا يظلمك كل من حولك وأنت لست كذلك، فاصبر وادعو الله أن يكون راضيا عنك.

الأمر بقتل سيدنا موسى:

سمع المصري (أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ) فذهب إلى قصر فرعون وقال إن القاتل هو سيدنا موسى. فقد جرى المصري على قصر فرعون وكان هناك اجتماع خاص جدا في غرفة مغلقة يجتمع فيها فرعون مع ملأه وهم الفريق الخاص بفرعون والمستشارون وكبار القوم، فوصل الرجل المصري وقال إنه عرف القاتل وهو الأمير موسى. فبدأت الحقائق تظهر أمام فرعون، من هو موسى؟ وهل هو من بني إسرائيل أم لا؟ فعلم أنه ابن المرضعة وأن أمه وأخته هما من خدعاه حتى لا يقتله! فغضب فرعون غضبا شديدا وأمر بقتل موسى وألا يُعتبر ما قام به موسى قتلا خطأ ولكن قتلا عمدا فقد نجا منذ ثلاثين سنة ولكنه لن ينجو اليوم. هنا يجب أن يتعلم الإنسان أن يكون مع الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة إذا اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك وإذا اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك رفعت الأقلام وجفت الصحف) وانتهى الاجتماع في هذه الغرفة واتفقوا على أن يُقتل موسى وأمر فرعون أن يبحثوا عن سيدنا موسى ويقتلونه فورا

فمازال سيدنا موسى في المدينة { وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (القصص: ??) فهذا الرجل كان من ملأ فرعون وقد كان حاضرا في الاجتماع وليس شرطا أن يكون مؤمنا، وكان يسعى لأنه كان يريد أن يلحق بسيدنا موسى فكان يعرفه وعندما علم بقتله ذهب ليخبره بسرعة. فقد أتى هذا الرجل من أقصى المدينة أي من أطراف المدينة أي من القصر، فمن المحتمل أن هذا الرجل عندما كان جالسا في هذا المجلس وعندما أراد فرعون أن يأخذ الآراء بقتل موسى أن يكون قد صوت بقتل موسى ولكن من داخله لا يريد قتله فأحيانا يريد البعض عمل الخير لكن لا يستطيع المواجهة، فهذا الرجل أيضا قد اختار، وهذا أيضا نتيجة أن سيدنا موسى كان منفتحا على المصريين، فالانغلاق غير صحيح. يجب أن تجعل الناس ترى المسلمين والمؤمنين لينصروك بعد ذلك لأنهم إذا لم يعرفوك لن ينصروك. وهذا الرجل يعرف سيدنا موسى وجاء "يسعى" أي يريد أن يلحق بموسى قبل أن يقتلوه، وعندما جاء إليه خرج سيدنا موسى فورا لأنه وثق بكلامه

الاختيار الصحيح والتوكل على الله:

عندما اختار سيدنا موسى الشهامة ونصرة الضعيف فنتيجة اختياره لم تضِع، فالخير لا يذهب ولا يضيع أبدا فقد جاء هذا الرجل ليخبره لكي يهرب. فسيخرج موسى من مصر وهكذا انتهت مرحلة الإعداد الأولى التى بدأت باحتضان وانتهت بطرد وكلاهما مفيد، بدأت على يد أمه وانتهت في قصر فرعون مدة ثلاثين عاما وسيخرج الآن لمدة عشر سنوات إلى مدين. ولذلك نتعلم الاختيار الصحيح والتوكل على الله.




خليجية



يسلمووووووووووووو



التصنيفات
منوعات

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد

قيمة : إفعل حاجة ليختارك الله
مقدمــة:

الله سبحانه وتعالى يصطفي ويختار، اصطفى الأنبياء من البشر ثم اصطفى أولي العزم مـن الرسل من الأنبياء وهم خمسة:

1) سيدنا موسى

2) وسيدنا محمد

3) وسيدنا إبراهيم

4) وسيدنا عيسى

5) وسيدنا ونوح

ثم اصطفى من أولي العزم من الرسل سيدنا محمد _صلى الله عليـه وسلم_ وجعله خاتم الأنبياء والنبيين، ثم اصطفى له أمته، اصطفانا [… هُوَ اجْتَبَاكُمْ …] {الحج:78} واصطفى السيدة مريم عليها السلام [إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ] {آل عمران:42} واصطفى سيدنا موسى عليه السلام [وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ….] {طه:13} "[… إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ….] {الأعراف:144}. يصطفي من يشاء، لكنه لا يصطفي إلاّ من كان فيه خصلة خير، كمثل الذي يطمح في الحصول على عمل في مكان متميز لا بد أن يكون هناك مميزات في سيرته الذاتية تساعده في الحصول على هذا العمل، فهل ترغب أن يختارك الله في مهمة ما؟ قل لي ما هي مَيزاتك؟ ما هي صفات الخير فيك حتى يختارك لإصلاحٍ، أو لخيرٍ، أو لنصرة مظلوم؟ هل تحب أن يصطفيك الله في ليلة القدر فيغفر لك؟ إن كنت تود ذلك أصلح نقطة خير في قلبك أو قدم شيء لكي يختارك . فسيدنا موسى قــدّم الكثير، سنوات طويلة من عمره في نصرة الضعفاء، اليوم يوم الاختيار، اختيار الله سبحانه لسيدنا موسى للمهمة. وفي سكون ليل ذلك اليوم عند جبل الطور اختار الله عزّ وجل سيدنا موسى، تعالوا لنعيش هذه الأحداث ونستشعر هذه الروحانيات داعين الله عزّ وجل أن يختارنا.

الاختيار والاصطفاء:

سيدنا موسى الآن عائــدٌ ومعه امرأته وأهله في طريقه من مدين إلى مصر، الطريق طويل وسبق أن استغرق منه ثمانية أيام عندما سار به وحده من قبل، وقد اختار ليلة مقمرة لتساعده في هذا الطريق الطويل وكان خبيرًا في الصحراء، حتى وصل إلى حدود مصر واقترب من سيناء، حتى صار على بعد خطوات من جبل الطور، من اللحظات الحاسمة التي ستنقله إلى مقام أولي العزم من الرسـل، إلى كليم الله. وقد كان الطقس جميلًا، وهادئًا، وفجأةً تغير الجو، وبدأت السحب الكثيفة تحجب القمر حتى اختفى القمر تمامًا، وساد ظلام شديد، ورعد وبرق، ورياح شديدة البرودة وأمطار، كل هذا قبل التكليف بثوانٍ. وفجأة لمح سيدنا موسى نارًا قوية وسط هذا الظلام تبعد عنه بضعة أمتار باتجاه الجبل والوادي الذي يقع أمام الجبل، انظر سورة طه [وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى] {طه:9- 10} هذه النار لم يرها غيره، فتحرك باتجاهها، وقد ذهب وهو خائفًا وعاد نبيًا مكلفًا، مشى حتى وصل ودخل الوادي، وهنا لابد من توضيح نقطة وهي أن المنطقة كلها اسمها الطور وليست مقتصرة على الجبل [إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى] {النَّازعات:16} وهناك آيات أخرى تذكر أن سيدنا موسى كان على جبل الطور. فكما أن الحرم يشمل الكعبة والمنطقة المحيطة به كذلك هذه المنطقة المقدسة فيها الجبل والـوادي وسيدنا موسى نودي من الوادي، والمكان الذي كانت تخرج منه النار داخل الـوادي .

دخل سيدنا موسى في داخل الوادي مسافةَ بضعةُ أمتار، وقد سار قليلًا حتى وصل، فإذا بمفاجأة أعجب فالجو جميل، والسكون شديد، ولقد اختفت السحب والأمطار، وظهر القمر بعد أن كان مختفيًا، كأن الكـون خاشع للرسالة التي ستلقى على موسى الآن. الحجر، الشجر، الوادي كله في حالة خشوع، لماذا هذا الوادي مقدس؟ لأنه المكان الذي تجلى الله بكلامه لسيدنا موسى، مكان عظيم كلم الله فيه عبد من عباده بدون وحي، أراد الله بذلك أن يبين لنا أن "يا موسى ليس لك سواي"، هناك أمطار وظلام وخوف شديد، وهنا سكون ورحمة. كذلك رمضان.. قبله خوف ورعب وقلب بعيد عن الله، ثم يأتي هذا الشهر الكريم بالهدوء والسكينــة، الرسالة واضحة .. فالقلب لا يُذهب خوفه إلا بذكر الله، والقلب يتشتت ولا يلملم هذا التشتت إلا بذهابه إلى الله، فيستوحش من الدنيا ولا يؤنس هذه الوحشة إلا ذكر الله.

بداية شديدة:

لماذا دائمًا بداية الأنبياء شديدة؟ كانت بداية سيدنا محمد _صلى الله عليه وسلم_: "زملوني زملوني" لماذا؟ رسول الله، محمد، خاتم النبيين، موسى، كليم الله، فالأمر عظيم: توحيد، وإصلاح أمة، وتحرير شعوب، وإنقاذٌ للمظلومين، فموسى سوف يعيد الناس إلى عبادة الله، ومحمد سوف يحيي الأرض، فلا بد من أن تكون البداية شديدة [خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ …] {مريم:12} .

وأنا أقول لكم في رمضان خذوا الكتاب بقوة، ماذا فعلت لكي يختارك الله وأنت تسمع قصة سيدنا موسى؟

وصل سيدنا موسى فرأى أن النار الموقدة تخرج من شجرة خضراء، هذه النار لا تأكـل الشجرة ولا الشجرة تطفيء هذه النار بل على العكس هذه النار تزيد الشجرة الخضراء ضــياءً، فاقترب سيدنا موسى أكثر وأكثر من النار فإذا بها ليست نارًا إنما نور يخرج من هذه الشجــرة، [فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الوَادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {القصص:30} وإذا به يسمع اسمه يملأ السماء ويملأ الكون. ما أحب أن أذكره هو أن الخروج من الوحشة والظلمة لا يتحقق إلا عند اللجوء إلى الله، وكانت هذه هي الرسالة .

[إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى] {طه:12إلى15}. هل تتخيل حالة سيدنا موسى! يسمع النداء مرة أخرى [يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {القصص:30} هل عرفنا لماذا الكون كان خاشعًا في هذه اللحظة؟ هذا التكريم ليس فقط لسيــدنـا موسى بل لنا نحن البشر أيضًا، نحن مكرمون عند الله، وأن يختار الله تعالى واحد من بني البشر ليكلمه فهذا دليل على أن الإنسان مكرم عند الله ، أتدرون أن الله قال لموسى: "أتدري يا موسى لما اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فقال موسى: لما يارب فقال: إني قلَّبت قلوب عبادي ظاهرًا وباطنًا فلم أجد قلبًا أذل ولا أخلص لي منك يا موسى فرفعتك على عبادي في زمنك" .

اذكروني أذكركم

في هذا الموقف العظيم يقف سيدنا موسى بين يدي الله ويناديه الله باسمه، يا ترى هل نطمع في هذه المنزلة أن ينادي الله علينا بأسمائنا؟ في الجنة إن شاء الله ينادي الله عليك وتدنو منه ويخبرك أنه راض ٍعنك ويسألك هل أنت راض ٍعنه؟ لم يكن سيدنا موسى وحده الذي نادى الله عليه في الدنيا، فلقد نزل سيدنا جبريل عند موت السيدة خديجة وقال: "يا محمد أبلغ خديجة أن الله يقرئها السلام" وأنت عندما تقول لا إله إلا الله يذكرك الله [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ….] {البقرة:152} وفي كل مرة تقول لا إله إلاّ الله يذكرك الله في الملأ الأعلى "أنا مع عبدي ما تحركت بي شفتاه".

منزلة عظيمة أن يكون تكليم الله ليس مقصورًا على موسى فأنت كلما تقول الله أكبر تدخل في لقاء مع الله، كما . علمنا نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_: " إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال له الله حمدني عبدي وإذا قال العبد مالك يوم الدين قال الله مجدني عبدي فإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي فإذا قال إهدنا الصراط المستقيم قال الله هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل". وعندما كان يسكت عمر بن عبد العزيز في الصلاة عند قراءته قرأته فاتحة الكتاب عند كل آية وسألوه عن ذلك قال: لأستمتع لرد ربي.

تفاصيل اللقـــــاء:

هل عرفنا كم هو عظيم سيدنا موسى عند الله، ولكن لابد وأنه في تلك اللحظة كان في حالة كبيرة من الارتباك والقلق ، فالله سبحانه بدأ معه بثلاثة أمور:

· الأمر الأول: التوحيد [إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي….] {طه:14}

· الأمر الثاني: الصلاة […. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي] {طه:14}

· الأمر الثالث: القيامة [إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ….] {طه:15}

وسنقوم بترتيب هذا اللقاء.. فالبداية كانت تعارف، ثم جاء بعدها التوحيد ثم العبادة. هل رأينا أهمية الصلاة مع سيدنا موسى عليه السلام وفي الإسراء والمعراج مع سيدنا محمد _صلى الله عليه وسلم_؟ ويفاجأ سيدنا موسى بقول الله عزّ وجل "[وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى] {طه:17} هذا سؤال فيه مؤانسة من الله لسيدنا موسى في هذا الموقف الرهيب فالله الحنان المنان الذي يحب عبــاده حاوره ليخفف من عظمة هذا الموقف [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى] {طه:18}.

يقف الآن سيدنا موسى طائع لله فيقول له الله: [قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى] {طه:19} الطاعة دليل حب ودليل ثقة [فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى] {طه:20} هنا نلاحظ أن العصا في القرآن جاء وصفها في ثلاث أوضاع مختلفة، فمرة وصفها بأنها [فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى] {طه:20} حية تسعى، ومرة أخرى [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ] {الشعراء:32} ومرة أخرى [… فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ …….] {القصص:31} وإذا بالله يناديه: [… يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآَمِنِينَ] {القصص:31}. [..خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى] {طه:21} أخذها موسى خائفًا، فعادت إلى حالتها الأولى، وهذه هي أول معجزة، وكان سيدنا موسى في حيرة وعدم فَهمٍ لما يحدث، فكان الله سبحانه يمهد له ما سيطلبه منه بعد ذلك، وإذا بالمعجزة الثانية: [اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ….] {القصص:32} وكان سيدنا موسى أسمر اللون، وهنا جاء أمر الله أن يضع يده في جيبه فتخرج بيضاء كأنها القمر من غير سوء، في حين أنه إذا ما كان هناك شخص أسمر ويوجد بقعة بيضاء في يده أو ذراعه فيكون ذلك نتيجة لمرض مثل البَرَص.

وقد شعر سيدنا موسى بالخوف أكثر بعد هاتين المعجزتين، ولكن الله سبحانه الحنان المنان الكريم يقول له [وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ….] {القصص:32} أي ضع يدك على صدرك فتهدأ.

معجزتا العصا واليد:

لابد وأن هناك سؤال يدور في أذهانكم الآن ألا وهو ما علاقة المعجزتين بفرعون؟ وما الهدف من معجزة العصا؟ فالله سبحانه وتعالى لا يرسل معجزة إلا وأن تكون مناسبة للعصر الذي جاء فيه النبي، فلا يكفي أن يكون معك الحق ولكن لا بد أن تعرض هذا الحق بطريقة مؤثرة ومناسبة لمن حولك، فما علاقة هذه القصة بنا؟ أحيانا كثيرة يكون معنا الحق ولكن نفتقد القدرة في عرضه، فالأشرار يجيدون عرض الحق بشكل مزين لأنه باطل، لكن الأخيار لا يعرفون كيف يعرضون هذا الحق بشكل جذاب عصري مناسب لعصرهم. ففي عصر سيدنا موسى كانوا يشتهرون بالسحر فبعث الله لهم معجزة ربانية تتحدى هذا السحر، ورسالة إلى فرعون لكي يفيق من طغيانه وضلاله ويعلم أن موسى عليه السلام نبي مرسل من الله.

أما العصا ففيها أمر آخر خطير، فكل دولة من الدول عندها رمز تضعه في العلم التابع لها، مثال على ذلك إنجلترا الأسد رمزها وتجده في علم بلادهم، أما فرعون فكان رمزه الثعبان وكان هذا الرمز موجود على قصر رمسيس الثاني، ليس هذا فقط بل إن الثعبان كان أحد الآلهة التي كان يعبدها فرعون، فرمز قوته هو الذي سيلتهمه، سر العصا ليس أنها انقلبت إلى ثعبان لكنها مناسبة لهذا العصر، فهي بذلك وسيلة مشوقة عصرية جذابة، وفيها منتهى التحدي لفرعون، فهي لا بد وأن تهز فرعون؛ فموسى جرى عندما رأى العصا تنقلب إلى حية فكيف بفرعون؟

المعجزة الثانية: اليد، لما ترمز؟ برع الفراعنة في التحنيط، حيث كانوا يعالجون جسد الميت كيميائيًا بطريقة تجعله في شكل مختلف ولمدة طويلة، وكان فرعون ينفق أموال طائلة على التحنيط، وكان علماء التحنيط من أغنى الناس في تلك الأيام، وهنا سيتحدى سيدنا موسى فرعون بآية من الله ليد من جسد حي بدون معالجة كيميائية، ففرعون قَبِلَ التحدي في الآية الأولى آية العصا لكنه تجنب الثانية لأنه لا يقدر عليها فهي تتحدى التحنيط الذي كانوا يقومون به، لذلك لا بد أن نعرف قيمة الآية الثانية وهي أقوى من الأولى، وفرعون تجنبها لأنه لا يقدر عليها.

لابد أن نعلم أن معجزة اليد لها معنى آخر خطير، فاليد البيضاء في تاريخ البشرية رمز السلام: يا فرعون أنا لن ألجأ إلى العنف أريد أن أحرر بني إسرائيل وأرفع الظلم وأنشر التوحيد، لا أريد استخدام العنف والدليل يد بيضاء.. يالعظمة الله في رسائله القوية! ويالمعجزات الله الربانية العظيمة!

إني أحب سيدنا موسى كثيرًا، ويكفينا أن الله اختاره، أَلَا نشعر بالغيرة ونتمنى أن يختارنا الله؟ ليس على قدره وقدر الأنبياء والصحابة فيستخدمنا عنده. فالخوف كل الخوف أن يستخدمك الله فتعصيه فيستبدلك، فأجمل شيء في الدنيا أن يحبك الله ويختارك ، ولا يكون ذلك إلا بخصال جميلة فيك، فادعه دائمًا أن لا يتركك و يحبك ويستخدمك.

طمأنة الله لعباده المخلصين

ويوضح الله تعالى لسيدنا موسى الهدف من هاتين المعجزتين ويقول: [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى] {طه:24} [فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] {النَّازعات: 18-19} وهذا يعني أن أمام سيدنا موسى مهمتين:

· المهمة الأولى : أن يذهب إلى فرعون ويدعوه أنه لا إله إلاّ الله، وأن يوقف الظلم.

· والمهمة الثانية : أن يرسل معه بني إسرائيل، فقد جعل فرعون من مصر سجن كبير لبني إسرائيل.

فالأمر غاية في الصعوبة ، ففرعون حاول قتل سيدنا موسى من قبل ثلاث مرات، وفرعون القائل: [… أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] {النَّازعات:24}. والأربعين سنة التي مرت من حياة سيدنا موسى بكل ما فيها من أحداث كانت جميعها تحضير وتمهيد لهاتين المهمتين. فما هي مهمتنا نحن؟ نأكل ونشرب ونتزوج، وننجب، ثم نموت هل هذا هو الهدف من وجودنا؟ ابحث عن مهمة يكلفك بها الله، اطلبها منه. فلقد موسى تلقى التكليفين بمنتهى الوضوح وبلا أي التباس، تلقى الرسالة وهو يدرك المعوقات التي ستواجهه [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ] {الشعراء:12إلى14}.

سبحان الله الذي سمح لعبده أن يعرض عليه مخاوفه ومقترحاته، سبحان الذي أعطى الحرية لعباده، فيا آباء، ويا معلمين، ويا حكام، لماذا لا نمنح أولادنا، وتلاميذنا، وشعوبنا، مساحة حرية وفرصة للتعبير عن آرائهم ومقترحاتهم ومشاكلهم، فإذا كان رب العالمين قد سمح لعبده بعرض مشاكله، فهو خائف من أن يذهب إلى فرعون ومن أن يكذبوه، كذلك أفصح أمام الله أنه إذا ضاق صدره أي عند شدة الانفعال فلن يستطيع أن يعبر عن نفسه أمام خصمه فيضيق صدره، ولا تصدقوا الروايات التي تقول أنه كان يعجز عن النطق بعد أن أجبره فرعون على أكل جمرة من النار فهذا كلام غير صحيح، ولهذا طلب سيدنا موسى من الله أن يرسل معه أخاه هارون والذي كان أفصح منه خاصة أن سيدنا موسى كان بعيدًا لفترة طويلة عن مصر، وهارون عاش في مصر ويعرف اللغة المصرية القديمة وأكثر فصاحة منه، كذلك وقد كان لهم عليه ذنب فهو بشر ومن حقه أن يخاف عندما يقف أمام فرعون.. فيأتي ردّ الله [قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى] {طه:46-47}.

طلب موسى طلب آخر من الله [قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى] {طه: 25 إلى 36}.

الختام لابد وأن تكون هناك جرعة اطمئنان وثقة من رب كريم لعبده الضعيف [وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى* أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] {طه:37 إلى 39}.

اسأل نفسك ماذا فعل الله معك، ألا تهتز لهذه الآيات؟ هل رأينا كيف يُطَمئِن الله عباده المخلصين يرسل لهم رؤية تطمئنهم، أو أم تخاف عليهم وتدعو لهم، أو أب يشجعهم، أو أخ يساندهم. اعملوا لله يا شباب، يا صناع الحياة، يا من لا تفعلون شيئًا للإسلام، فخسارة كبيرة أن يضيع عمركم دون أن تقوموا بأي عمل للإسلام، فليس هناك أجمل من أن يستخدمك الله.

[ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى] {طه:40} فالله عزّ وجل يخبر سيدنا موسى أن كل الذي سبق جاء بترتيب منه، وكلٌ منا جاء على قَدَر من الله. افتح سورة طه واعش مع الآيات ومع حب الله لعباده ولسيدنا موسى الذي اختاره لإخلاصه ولنصرته للضعفاء.




خليجية



يسلموووووووووو



التصنيفات
منوعات

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد

قيمة حب الله

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مقدمة:

ها قد وصلنا لنصف رمضان، فقد مرت الأيام سريعًا وصدق الله العظيم إذ يقول ((أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ…)) (البقرة: 184) وسرعان ما ينتهي الشهر الكريم. تُرى ماذا فعلت فيما مضى من رمضان؟ وماذا سيكتب لك فيما تبقى؟ أما زلت محتفظا بنية كبيرة وتتمنى أن ينتهي رمضان وقد أعتقت رقبتك من النار وغفر لك ما تقدم؟ يا من قصرت في النصف الأول من الشهر مازالت الفرصة كبيرة في النصف الثاني، ويا من بذلت كل جهدك في النصف الأول تيقن أن العبرة بالخواتيم وبنهاية رمضان وبليلة القدر وآخر أيام رمضان. فتح الله علينا ويجعل من رمضان هذا العام نقلة في حياتنا. من يدري؟ فقد يسمعنا الآن شخص بدأ قلبه يتحرك ليأخذ نية ويتوب إلى الله ويفتح صفحة جديدة مع الله قد يغير رمضان مسار حياته إلى رضا ورحمة ومغفرة وجنة وعتق. فابقَ مع الله وابذل جهدك في الأيام الباقية.

رمضان شهر القرآن

النقطة الثانية التي أود أن أتطرق إليها هي القرآن في رمضان. كم ختمة للقرآن انتهيت منها حتى الآن؟ فالنبي يقول: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة) هل تريد أن يشفع لك القرآن يوم القيامة؟ هل تتمنى أن تأتي سورة البقرة وسورة آل عمران يوم القيامة وتظللان عليك في حر يوم القيامة وتدافعان عنك؟ فقد سأل سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم: "في كم أختم القرآن؟ فقال له النبي: "اختمه في شهر" فقال: "يا رسول الله إني شاب أطيق أكثر من ذلك" فقال: "اختمه في عشرين" فقال له: "يا رسول الله إني شاب وأطيق أكثر من ذلك" فقال له الرسول: "اختمه في خمسة عشر" قال: "يا رسول الله والله أطيق أكثر من ذلك" قال: "اختمه في عشر" فقال: "يا رسول الله إني شاب ذو طاقة" فقال له النبي: "اختمه في ثلاثة أيام ولا أقل من ذلك". لماذا لا تَغيرون من سيدنا عبد الله بن عمر؟ هل هناك من ختم أو من شارف على الانتهاء من ختم القرآن؟ فالعبادة منازل وجبال من الحسنات وكلُّ حسب اختياره.

كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقضي يومها كله في قراءة القرآن في رمضان، ثم في التراويح وقيام الليل، فسألوها أليس ذلك بالكثير؟ فقالت: "وهل رمضان إلا للقرآن؟" كان النبي يسميه شهر القرآن. ولذلك قمنا بتنظيم حملة "سنحيا بالقرآن" هدفها الوصول إلى عشرة ملايين ختمة في رمضان هذا العام. فمن يختم يدخل على موقع وكذلك نسجل لمن لا يستطيعون الدخول على النت. لكن ما الهدف من التسجيل ما دمت قد أخذت ثوابها؟ حتى نقوي بعضنا البعض ونفرح ونقول لله سبحانه وتعالى: يا رب قد جئناك هذا العام في رمضان ???? ومعنا عشرة ملايين ختمة حفظنا فيها وتقربنا بها إليك وأحببنا فيها القرآن ورفعنا فيها شعار سنحيا بالقرآن.

الشوق إلي الله

محور حديثنا اليوم إيماني ورقيق جدَّا وهو الشوق إلى الله. هل تشتاق إلى الله؟ هل تشتاق إلى رضاه؟ هل تحن إلى الليل فتقوم وتصلي بين يديه؟ فتلك منزلة رفيعة. العبادة منازل: فهناك من يتجنب المحرمات وهذه منزلة، وهناك من يتقي الله، وهناك منزلة اسمها الشوق إلى الله. هل مررت بتجربة شوق لأحد ووصلت إلى درجة أنك لا تستطيع أن تتحكم في مشاعرك؟ فقد وصل سيدنا موسى إلى هذه المنزلة. انظر إلي سيدنا موسى تجده عظيما في كل شيء: في قيادته لأمته وفي شجاعته أمام فرعون وقيادته لبني إسرائيل، كذلك في عبادته تراه عابدا خاشعًا متوكلا على الله، فهو نبي عظيم وهو من أولي العزم من الرسل وكليم الله وهي منزلة اختص بها الله سبحانه وتعالى سيدنا موسى، ولم يقترب من هذه المنزلة أو يرتقي إليها إلا الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج.

اليوم سيدنا موسى يشتاق إلى الله. أريد أن أسألك هل يأتي عليك لحظات تشتاق فيها لقراءة القرآن ولختمه؟ انظر إلي سيدنا عبد الله بن حذافة قبل قتله على يد ملك الروم بكى فظن الملك أنه تراجع وخاف فأتى به فقال له سيدنا عبد الله بن حذافة: " يا ليت عندي بعدد شعر جسدي أنفس تخرج الواحدة تلو الأخرى حبا لله وفي سبيل الله". من الممكن أن يكون هذا الكلام نظريا أو إنشائيا لو أن الذي قاله ليس مشرفًا على الموت، لكن من يقول هذا الكلام في لحظات الموت يكون شاعرًا به ومؤمنًا به. لا أطلب منك أن تكون مثله فهو صحابي لكن أين نحن؟!

استشهد سيدنا عبد الله بن حرام في غزوة أحد فبكى ابنه جابر بن عبد الله فقال له النبي: "أتبكي يا جابر؟ يا جابر ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحًا. فقال له: "يا عبدي تمنى علي" فقال: "يا رب أتمنى أن أعود إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى في سبيلك لِما وجدت من حلاوة الشهادة والقرب منك" فقال الله: "إني كتبت عليهم أنهم إليها لا يرجعون فتمنى أمنية أخرى يا عبدي" فقال: "يا رب بلغ عني أهل الأرض ما أنا فيه من السعادة". أرأيت الشوق إلى الله؟ الآن وأنت في نصف رمضان هل أنت مشتاق لله؟ متى آخر مرة بكيت من خشية الله، وحبًا له، وشكرًا على نعمه وليس لأجل مشكلة عندك؟ هل تحن للقرآن أو للعمرة أو للقيام؟ تلك منزلة قلبية عالية فهنيئًا لمن مر بها، ومسكين يا من غرق في المادية الطاغية ولم يتذوقها.

الميقات

وعد الله سيدنا موسى بالذهاب إلى ميقاته، الميقات أي لقاء الله، ومتى كانت آخر مرة؟ كانت قبل ذلك بخمس عشرة سنة في جبل الطور. اليوم وبعد هذه المدة وبعد غرق فرعون ونصر موسى وتحقق وعد الله لموسى دعاه مرة أخرى للقائه في المكان نفسه، انظر إلى الآية: ((وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً… )) (الأعراف: 14?) فقال الله سبحانه وتعالى لموسى لو صمت لي وعبدتني حق العبادة ثلاثين ليلة سأعطيك مكافأة وقربا، وسأعطيك التوراة، كتابي نورا وهدى وسأقربك مني قربًا شديدًا. فصام سيدنا موسى الثلاثين ليلة وبعدما أتمها حيث أمره الله أن يتممها بعشر ليزيد قوة وإيمانًا ليستعد للقاء الله.

وماذا عن بقية بني إسرائيل؟ فلقد استخلف سيدنا موسى سيدنا هارون على بني إسرائيل لأنه ذاهب للقاء الله وحده لمدة ثلاثين ليلة وليبقى هو مع بني إسرائيل ولا يتركهم. انظر إلى حظ أمة محمد، فالميقات كان لموسى وحده وحرمت بني إسرائيل منه، فقد منّ الله سبحانه وتعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بشهر رمضان، ثلاثين ليلة عبادةً وصومًا ليهيئكم لتكن لكم منزلة كبيرة (من صام رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه) و(إن الجنة لتتزين من السنة إلى السنة لشهر رمضان) انظر إلى جوائز رمضان وتيقن كيف نحن (غاليين) على الله! يقول لنا النبي: (من أتبع رمضان بست من شوال كمن صام الدهر) وسيدنا موسى صام ثلاثين ليلة وأتبعهم بعشر. انظر كيف أن أمة محمد هي خير أمة أخرجت للناس!

يذهب سيدنا موسى للقاء ربه عند جبل الطور، وكان اللقاء في الليل، لقاء طويل وجميل يسأل فيه سيدنا موسى الله ويستفيض، والله يجيب ويمن عليه ويعطيه التوراة كما طلب سيدنا موسى النظر إلى الله.

كلمة ميقات تعني موعد محدد دقيق يلتقي فيه كليم الله بالله سبحانه وتعالى ويتلقى التوراة. وكلمة توراة جاءت من " الطور" حيث تلقاها فسميت نسبة إلى المكان، فكانت المكافأة والهبة أن زاده الله تشريفًا وتكريمًا فأعطاه الكتاب. فماذا ينال من يصوم الثلاثين يومًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ عاد سيدنا موسى للمكان نفسه، لجبل الطور الذي كلف فيه بالرسالة منذ خمس عشرة سنة، لماذا؟ حتى نعلم أن وعد الله حق وأن الله لا يخلف الميعاد ألم يقل له: ((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)) (طه: ?4) و ((قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ)) (الشعراء: 1?) و ((قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) (طه: 46) وقال ))وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ(( )القصص: ?5( في جبل الطور منذ خمسة عشر عامًا، فكان لابد بعد الانتصار وبعدما عبر البحر وشاهد معجزة الله وكيف نجاه ونصره؟! من الممكن أن يكلفك الله بعمل فتدور الأيام، ويذكرك بوقفته معك في مكان وقف فيه معك قبل ذلك. هذا ما حدث مع سيدنا موسى، ذهب إلى ميقات ربه كما تذهب أمة محمد إلى ربها كل عام في رمضان لتعبده وتتقرب إليه، وبينما هو ذاهب إلى الميقات يقول له ربه: ((وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه: 8?-84) أي أنه كان متعجلاً من الشوق إلى الله.

أسئلة سألها موسي لله

ولقد سأل موسى الله أسئلة ذكرها النبي وأخرى ذكرها اليهود الذين أسلموا في المدينة مثل عبد الله بن سلام. على الرغم من أنها آثار إلا أني سوف أذكرها لأنها مؤيدة لسيرة النبي وذكرها النبي بأحاديث مماثلة، هيا نعيش مع هذه المعاني الرقيقة: فالحوار مع الله سبحانه وتعالى خاصية أعطاها الله لموسى عليه السلام في الدنيا، وستكون لنا إن شاء الله في الآخرة، في الجنة، حيث نسأل الله كيفما نشاء ونقول له أعطنا كذا ونتمنى كذا.

قال موسى: "يا رب من أدنى أهل الجنة منزلة؟" فقال: "ذلك آخر رجل يخرج من النار حبوًا يريد أن يدخل الجنة، كلما أراد أن يخرج منها أُعيد فيها حتى يخرج منها ويقول الحمد لله الذي نجاني منكِ" فيقول الله تبارك وتعالى:" اذهب فادخل الجنة"، فيذهب فينظر فيخيل إليه أنها ملأى فيقول: "يارب وجدتها ملأى" فيقول له الله: "أما ترضى أن يكون لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا" فيقول الرجل: "يا رب أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟" فيقول له الله تبارك وتعالى: "لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا ومثله ومثله ومثله ومثله ومثله" فيقول العبد: "رضيت يا رب" فيقول له الله تبارك وتعالى: "لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا وعشرة أمثاله ولك فيها ما اشتهت نفسك وتمنت عينك وأنت فيها خالد". هذا أدنى شخص منزلة، فقال موسى: "يا رب أذلك أدناه منزلة؟" فقال الله: "نعم يا موسى" قال: "فمن أعلاهم منزلة؟" فقال له الله: "أولئك الذين أردت زرعت كرامتهم بيدي فلا تدري عين ولا تسمع أذن ولا يخطر على قلب بشر ماذا أريد أن أعطيهم" ومعنى كرامتهم أي سعادتهم.

قال موسى لله: "يا رب كيف لا تأخذك سِنة ولا نوم؟" فقال له الله: "يا موسى ابق الليلة وأنت تمسك بزجاجتين في يدك فبقى سيدنا موسى وهو ممسك بالزجاجتين فغفل فنام فسقطت منه الزجاجتين فانكسرتا. فأوحى الله إليه: "يا موسى لو تأخذني سِنة أو نوم لسقطت السماء على الأرض". فقال موسى وهو يشعر بالحياء من الله وأن الله عظيم يستحق الشكر على هذه النعمة ألا تنطبق السموات على الأرض: "كيف أشكرك وشكري لك نعمة تستحق الشكر؟"، فهذا من توفيقك لي أنك أعنتني على الشكر، فأوحى الله إليه: "يا موسى إذا عرفت ذلك فقد شكرتني". ما هذا اللقاء والميقات الذي حدثنا عنه الله في القرآن! و الله يا قائمين ويا صائمين لو صمتم بحق ستتذوقون حلاوة القرب من الله مثل سيدنا موسى. حاول بعد هذه الحلقة أن تدخل إلى غرفتك وتناجي الله.. قل له يا رب ليس لي سواك، قربني منك، سامحني واعف عني، حتى وإن كنت مليئا بالذنوب وهذا.

قيمة لا إله إلا الله

تطرق سيدنا موسى لموضوع آخر، فقال له: يا رب دلني على كلمة أو دعاء أو ذكر أذكرك به كثيرًا، فقال له الله: "يا موسى أكثر من قول لا إله إلا الله" ، فقال له موسى: "يا رب كل عبادك يذكرونك بلا إله إلا الله، خصني بذكر أذكرك به لك وحدك"، فقال له الله: "يا موسى لو أن السموات السبع والأراضين السبع وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت كفة لا إله إلا الله".

من الملاحظ أن كل قصة لها مع رسول الله حديث أو دعاء أو ذكر مماثل؛ فقد روى النبي قصة الرجل الذي جاء يوم القيامة فقال الله للملائكة: "ابسطوا له سيئاته" فبسطت له سيئاته فإذا هي تسعة وتسعون سجلا من السيئات مدها مد البصر، فوضعت في الميزان فرجحت، فظن أنه هالك، فقال له الله: "هل بقي لك شيئا؟" فقال :"لا يا رب" فقال له الله: "أظلمتك الملائكة؟" قال: "لا يا رب" قال الله: "ألك عذر؟" قال: "لا يا رب" قال الله: "بلى يا عبدي بقي لك شيء" قال: "وما هو يا رب" قال الله: "لك عندي بطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله" فقال: "يا رب وماذا تفعل البطاقة؟!" فقال الله: "إني لا يظلم عندي أحد، يا ملائكتي ضعوا البطاقة في كفة الحسنات"، فوضعت في كافة الحسنات فطاشت السجلات فقال النبي: "و لا يثقل مع اسم الله شيء". يجب أن نقول لا إله إلا الله بحق، فلا يجب أن يُعبد مثله ولا أن نخضع لغيره، ولا نذل لأحد إلا الله.

كرم الله ورحمته

من ضمن الأشياء التي سأل عنها سيدنا موسي قال: "يا رب إن هناك رجلين من بني إسرائيل أحدهما صالح والآخر عاصٍ، وقبل أن آتي إلى الميقات وجدت الاثنين يدعونك قائلين: يا رب، فماذا فعلت بهما يا رب؟" فقال له الله تبارك وتعالى: "قلت للصالح لبيك عبدي، وقلت للعاصي لبيك عبدي.. لبيك عبدي.. لبيك عبدي" فقال موسى: "أتقول للصالح ذلك وتقول للعاصي ذلك؟". فقال له الله: "يا موسى أما الصالح عندما قال يا رب فكان يعتمد على عمله، وأما العاصي حين قال يا رب فكان يعتمد على رحمتي". يا عصاة، يا من ملئتكم الذنوب، لو ذهبتم إلى الله وعرفتم أنه سيرحمكم سيقول لكم لبيك عبدي.. لبيك عبدي.. لبيك عبدي.

مازلنا مع لقاء موسى مع ربه، ونحن نقتطف من ثمار هذا اللقاء: قال الله : "يا موسى إن من عبادي من أدخلهم جنتي وأخيرهم فيها بين قصورها وثمارها وأنهارها ما شاءوا" فقال له موسى: "من هؤلاء يا رب؟" فقال الله: "من يدخل السرور على المؤمنين وعلى أهل بيت من المسلمين" ما أحلى أن تدور على بيت فقير أو أسرة فقيرة فتقيم لهم مشروعًا تساعدهم به فيعود الأولاد إلى المدارس مرة أخرى! هيا نبدأ بها اليوم.

الحب فى الله

وأوحى الله إلى موسى: "هل عملت لي عملا قط؟" فقال موسى: "يا رب صليت لك وذكرتك وقمت بين يديك وصمت لك"، فقال له الله: " يا موسى أما الصلاة فلك نور، وأما الصدقة فلك برهان ولكن هل عملت لي عملا قط؟" فقال موسى: "وما العمل؟" فقال له الله: "هل أحببت فيّ أحدًا قط؟ هل واليت لي وليًّا قط؟" فعلم موسى أن أعلى درجات القرب من الله أن تحب في الله وأن تآخي في الله.

التذلل إلي الله

قال له الله: "يا موسى أتدري لماذا اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟" فقال: "لما يا رب؟" فقال الله تبارك وتعالى: "يا موسى إني قلبت قلوب عبادي ظهرًا وبطنًا في زمانك فلم أجد قلبًا أذل لي من قلبك يا موسى، فأردت أن أرفعك على عبادي". كل هذه الآثار تعرض لك أفكارًا للدخول إلى الله، كالأخوة في الله، أو الإكثار من قول لا إله إلا الله، حتى تختار بابًا يكون طريقك إلى الله. أحد هذه الأبواب هو التذلل لله؛ فمن تواضع لله رفعه. كلنا نعبد في رمضان، لكن من يقرب؟ من الذي يتذلل إلى الله ويسجد ويضع رأسه على الأرض ويقول له أنا فقير إليك. أحد العلماء يقول: "طرقت الأبواب إلى الله فوجدتها ملئى، فطرقت باب الذل فوجدته فارغًا وقلت هلموا هذا هو الباب".

أمنيات سيدنا موسي

تمنى سيدنا موسى في هذا اللقاء الجميل وبعد هذه الأسئلة، وبعدما أوحى الله إليه ما أوحى أمنيتين: الأولى عندما قال: "يا رب إني قد وجدت في الألواح مكتوبًا أن لك أمة من الأمم الحسنة عندهم إذا هموا بها فلم يعملوها كتبت لهم حسنة فإذا عملوها كتبت لهم عشرة فاجعلها أمتي" فقال له الله: "يا موسى هذه أمة محمد" فقال: "يا رب إني قد وجدت في الألواح مكتوبًا أن أمة تأتي يوم القيامة يكونون هم الشافعون المشفعون فاجعلهم أمتي" فقال له الله: "يا موسى هذه أمة محمد" فقال: "إني قد وجدت في الألواح مكتوبًا أن هناك أمة هي خير أمة أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلها أمتي" فقال له الله: "يا موسى هذه أمة محمد" فقال: "إني قد وجدت في الألواح مكتوبًا أن هناك قومًا هم أكثر أهل الجنة فاجعلها أمتي" فقال له الله: "يا موسى هذه أمة محمد". أمة محمد غالية على الله، لماذا رخصنا أنفسنا؟ لماذا عصينا ونسينا وبعدنا؟ تستطيع اليوم أن تصلي ركعتين في لقاء مع الله وتصلي التراويح وتقرأ القرآن وتسمع كلام الله إليك وتذكر الله فيذكرك هذا هو الهدف من هذه الحلقة المليئة بالروحانيات.

في النهاية طمع سيدنا موسى في شيء ((…قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ…)) (الأعراف: 14?) انظر لأي درجة ملأ الشوق قلبه. فقال له الله: ((…قالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا…)) (الأعراف: 14?) ولماذا الجبل؟ لأن الجبل قوي وضخم فإذا تجلى الله على الجبل جعله دكا فما بال الإنسان. ثم انظر إلى كلمة " دكا " أي سواه بالأرض ولذلك خر سيدنا موسى صعقًا على الأرض. تأمل في كلمة تجلى واسم الله الجليل ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)) (الرحمن: ?7) تستشعر هذا الاسم عندما تقف أمام منظر طبيعي جميل فتعجب به حتى إنك لا تستطيع أن تتركه، أتذكرون أول مرة رأيت فيها الكعبة؟ والهيبة التي شعرت بها؟ هذا في الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة فما بالك في الجنة ورؤية الله؟

خاتمة

لقد أكرمني الله أن دخلت الكعبة من الداخل يوم غسلها فلم أستطع أن أدعو من الهيبة والجلال لبيت الله فما بالك برؤية الله عز وجل. لذلك يعلمنا النبي فيقول: " لا تفضلوني على موسى، فإن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطِشًا بساقِ العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى اللـه؟" أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدري أفاق قبله أم جوزي بثواب صعقة يوم الميقات. ما أعظم عدل الله! وما أجمل تواضع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم! ((…فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ…)) (الأعراف: 14?).




التصنيفات
منوعات

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد

قيمة العزة

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قيمة قراءة القرآن الحقيقية

أحب أن أذكركم بشعارنا هذا العام في رمضان: "سنحيا بالقرآن"؛ فمن المهم أن ندرك جميعًا أننا لا نقرأ القرآن لنتزود إيمانيًا أو لنأخذ حسنات فقط، فإلى جانب ذلك نحن نقرأ القرآن لسبب غاية في الأهمية؛ فالقرآن منظومة قيم لإصلاح أخلاق الإنسان وقيمه ونظرته للحياة، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24) يؤكد أن القرآن يحينا لأنه منظومة قيم وأخلاق. فنحن نتعبد بقراءة القرآن – في رمضان وفي غير رمضان-، ولكن يجب ألا تتوقف قراءة القرآن عند التلاوة فقط، ولذلك فقد قررنا في هذا الجزء من قصص القرآن أن نستخلص قيمة من القيم في كل حلقة؛ لأن هذه القيم هي رسالة القرآن في الأصل. إذا نظرنا للقرآن بمعناه الشامل الكامل الحقيقي، فإننا سنستخلص كل قيمة من هذه القيم وندرك أن الله أنزل هذه القصة في سورة طه ليصحح هذه القيمة في كلٍّ منا، وهكذا نستطيع أن نفهم الإسلام بمعناه الصحيح الكامل.

إسم الله العزيز

من أسماء الله الحسنى "العزيز"، فاسم الله "العزيز" وهو ذو علاقة وثيقة بحلقة اليوم، فما معنى اسم الله "العزيز"؟ "العزيز" هو الذي يأبى الذل لعباده، فيأبى أن ينكسر عبده لأي إنسان أو شهوة أو معصية أو مال…إلخ، فهل تعد نفسك عبدًا للعزيز؟ هل أنت مكسور ذليل أمام شهوة أو إنسان أو معصية أو شيطان أو حتى أمام نفسك؟ أم أنك عزيز مرفوع الرأس لأنك عبد لله العزيز؟

لقد ترك بنو إسرائيل مصر مع سيدنا موسى عليه السلام، وشهدوا معجزة انشقاق البحر غير أن الذل قد ملأ قلوبهم حيث شوه الذل نفوسهم. إن الذل يقضي على النفوس ويشوهها بعمق ويترك أثرًا أشد وأسوأ من تشويه مادة كاوية لوجه إنسان، فلك أن تتخيل!

فلو أُسر أسد متقدم في السن ليوضع في حديقة للحيوان سيأبى أن يأكل لأنه حرّ فيفضل الموت على أن يبقى أسيرًا في قفص، فإن أرادوا أن يعتاد الأسد على حياة الأسر، يجب أن يكون شبلا صغيرًا ليعتاد على تلك الحياة؛ لذا فاحذر لأنك من الوارد أن تكون ذليلا لنفسك أو للشيطان، فالشيطان يقول لله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:62)، فما معنى "أحتنكن"؟ أصل هذه الكلمة يأتي من كلمة "الحنك"، أي الفم، فمعناها نية الشيطان في أن يسوق الإنسان كالبهائم. فقيمة اليوم هي ألا تذل نفسك لأحد أبدًا، فإن أردنا أن "نحيا بالقرآن" وأن نصل إلى العشرة ملايين خاتمة للقرآن، فيجب أن نطبق ما فيه من قيم وهذا هو الهدف من أن "نحيا بالقرآن"

وصية سيدنا موسى لأخيه هارون في غيابه

ذهب سيدنا موسى عليه السلام لميقات ربه، ووصى سيدنا هارون أن يخلفه في قومه، يقول الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 142)، فوصية سيدنا موسى عليه السلام لسيدنا هارون كانت لمعرفة منه أنه لا يستطيع أن يترك قومه بمفردهم، فسيدنا موسى عليه السلام يعلم أنه لو تركهم لأنفسهم فسيرجع ليلقى مشكلات وخيمة وكوارث، وقد أمره أن يصلح بينهم كي لا تصل الأمور بينهم لأي خلافات. ورغم علم سيدنا موسى عليه السلام بوجود مفسدين بين قومه فإنه تاركهم. فسكوت سيدنا موسى عليه السلام على المفسدين بين قومه كسكوت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على وجود المنافقين في المدينة، فإن هذا هو أسلوب القادة العظام للتعامل مع الفتن الداخلية بصبر وحكمة حتى القضاء عليها حتى تموت مع الزمن غير أن هذا ليس في مقدرة جميع الزعماء، فمن الزعماء من يسارع إلى القضاء على المفسدين، وهذا ليس بأسلوب العقلاء الحكماء.

إذًا فلقد ذهب سيدنا موسى عليه السلام للقاء ربه ثلاثين يومًا كما قال لقومه، ولكن الله أمره أن يمد فترة الاستعداد للقاء الله عشرة أيام أُخر فغاب أربعين يوما.

أثر الذل في نفوس بني إسرائيل

لم ترسخ فكرة الإيمان في نفوس بني إسرائيل بعد، فلقد شوه الذل كيانهم حيث إن أيّ غياب لسيدنا موسى عليه السلام يحدث انهيارًا وسقوطًا لبني إسرائيل، ثمة سؤال يطرح نفسه: هل يُفتن أو ينهار بنو إسرائيل رغم وجود سيدنا هارون عليه السلام؟ فلا يزال لدى بني إسرائيل مشكلة عظيمة فمن يسيطر عليهم هو سيدنا موسى عليه السلام؛ فهو من شق البحر بعصاه، وهو الذي واجه فرعون، ولذا يأتي بعده سيدنا هارون كقائد ثانٍ، فهم لا يقبلون إلا القائد الأول، ورغم حبهم لسيدنا هارون لكنهم لا يطيعون إلا سيدنا موسى، هذا لعدم صلابة إيمانهم وعدم رسوخ فكرة الإيمان في نفوسهم، صحيح أن منهم المؤمنون كما أن منهم أيضًا من لم يرسخ إيمانه بعد. ويبدو أنهم كانوا متأثرين بالمصريين في ذلك الوقت، حيث كانوا يعبدون العجل (أبيس) والذل هو سبب هذا التأثر، فهم يرون أن المصريين وفرعون أفضل منهم، رغم أنهم من المؤمنين الموحدين غير أن الذل قد شوه عقولهم وأنفسهم.

السامري وموهبته المكبوتة

ومع تأخر سيدنا موسى عليه السلام في العودة انبثقت بين بني إسرائيل فتنة شديدة، وهي فتنة السامري؛ السامري ليس من المصريين ولا من بني إسرائيل إنه من الأقليات التي كانت في مصر وهو من سامراء بالعراق، وكان شابًّا عندما ظهر سيدنا موسى عليه السلام في ذلك الوقت الذي كان فيه فرعون في كامل جاهه، وهو محارب بارع وموهوب لكنه كان من أحد المستضعفين في عهد فرعون {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص:4)، ورغم موهبته وإمكاناته لم تكن أمامه فرصة للتقدم لأنه من طائفة أخرى غير المصريين، لذا فقد كان من المنبوذين المضطهدين، وظلت موهبته مكبوتة وعنده شعور بالإهانة ونما بداخله تشوهات نفسية.

لدى عالمنا العربي الكثير من الشباب الموهوب ذي الطاقة غير أن المحسوبية تحول بينه وبين أن يعلو شأنه، فتذل نفسه وتتكون عنده طاقة للتدمير، وهذا ليس مقبولا كفعل، لكن المجتمع له يد فيما فعل أيضًا، كثيرون هم من أمثال السامري في العالم العربي! فقصة سيدنا موسى عليه السلام لا تنطبق لعام ????ق.م ولكنها تنطبق أيضًا على حاضرنا اليوم في عام ????ميلادية. عندما وجد السامري سيدنا موسى عليه السلام وأتباعه انضم إليهم على الفور بغير إيمان منه.

خطة السامري

وبعد انتهاء الثلاثين يوما بدأ بنو إسرائيل في السؤال عن سيدنا موسى عليه السلام وسبب تأخره، وفي هذه الأثناء بدأ السامري في تكوين فكرة للانتقام بدلا من أن ينتقم من فرعون الذي ظلمه في الأصل، فسينتقم من بني إسرائيل الذين ظلموا كما ظُلِم، وهكذا تكون الطاقة المدمرة عندما تكبت طاقات الموهوبين والمبدعين في بلادنا، فالانتقام يكون من المجتمع ككل الذي قد يكون فيه من المظلومين أيضًا، وهكذا أصر السامري على أن يرى بنو إسرائيل موهبته وأن يثبت لهم عبقريته، وهنا قرر السامري أن يبدأ مع بني إسرائيل بمدخل التدين، لما تبقى في بني إسرائيل من دين ومتدينين، إلى جانب من فيهم ممن لم يرسخ إيمانه بعد، ففي هذا يقول تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف:159).

حُلي نساء مصر

قبل أن يخرج بنو إسرائيل من مصر كان لديهم عيد؛ لذا فقد استعارت نساؤهم حليًّا من نساء المصريين، وعندما جاء الأمر من سيدنا موسى عليه السلام بالخروج من مصر {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} (الدخان: 23) أخذ النساء الحلي معهم حيث ولم يعيدوا هذا الحلي لذا أقنعهم السامري بأن سيدنا موسى عليه السلام لن يعود إلا إذا تخلصوا من تلك الحلي بإلقائه في البحر حيث إنه ليس ملكًا لهم ومن ثم يعتبر مالا حراما فرموه، وهكذا دخل إليهم من باب التدين، لما تبقى فيهم من إيمان، لكن ما قيمة التدين في إنسان ذليل؟ {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (طه: 87).

السامري ينفذ خطته

أخذ السامري هذا الحلي، ليس بغرض السرقة لكن ليصنع منه عجلا من ذهب ليري بنو إسرائيل براعته، فصنع عجلا من الذهب يشبه العجل (أبيس)، العجل الذي عبده المصريون القدماء؛ لأنه يعلم أن بداخلهم فتنة العجل (أبيس). كان تصميم هذا العجل كتصميم العجل (أبيس) الذي يوجد في معابد قدماء المصريين. لذا سيأمرهم سيدنا موسى عليه السلام بعد ذلك، كما ذكر في سورة البقرة بذبح بقرة صفراء، لتأثرهم بالعجل أبيس، وجعل في فم ومؤخرة التمثال ثقبا ووجهه في اتجاه الريح، ليصدر صوتا عندما تهب الريح.

بنو إسرائيل يعبدون عجل السامري

أخبر السامري بني إسرائيل أن هذا العجل إلههم وإله موسى، وعندما سألوه عن مكان موسى عليه السلام قال لهم إن موسى عليه السلام قد نسي إلهه عندهم وذهب إلى المكان الخطأ، وعندما يجد إلهه عندهم سيرجع إليهم، فعليهم إذًا أن يعبدوا هذا العجل فعبدوه، يقول الله تعالي: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (طه: 88)، وهل صدق بنو إسرائيل هذا الحديث؟ نعم، صدقوه، وعبد كثير منهم العجل، فقد صدقوا ما قال السامري، لما هم فيه من ذل جعلهم منقادين، فالذل يجعل الإنسان سهل الانقياد إلى أي معصية كانت، وهنا يكمن الفرق بين بني إسرائيل وأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والسبب في أنها خير أمة أخرجت للناس {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه…} (آل عمران: 110) فأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا من الأحرار لذا اختار الله الجزيرة العربية لبدء رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. لكنْ بنو إسرائيل كانوا أذلاء، تُرى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم اليوم أقرب إلى من؟ تخيل أن الذل جعل بني إسرائيل يعبدون العجل (أبيس) ويسجدون له حيث شعر السامري بالنصر والسعادة، لأنه جعل بني إسرائيل يسجدون لما صنعته يداه، فهو مريض وما دفعه إلى هذا هو كبت موهبته.

تعامل سيدنا هارون مع الفتنة

أدرك سيدنا هارون عليه السلام ما هو فيه من مشكلة، فقد بدأ بنو إسرائيل في عبادة هذا العجل، فنصحهم وحاول أن يمنعهم، يقول تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} (طه:90)، وإذا بردهم في قوله تعالى: {قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (طه: 91)، فهم منقادون إما لسيدنا موسى عليه السلام أو للسامري بلا رأي ولا انتماء لأي فكرة، يتبعون من يقودهم، فلم يسمعوا لسيدنا هارون عليه السلام، هذه قيمة اليوم وفيها رسالة للآباء، بالله عليكم لا تجعلوا أبناءكم أذلاء لأيٍّ من كان، واحذروا من سيطرة المعصية وارتكابها، ليس فقط لما فيها من (حرمانية) بل أيضًا لما تتركه في النفس من أثر الذل وتشويهه، فابقوا عبادًا لله العزيز سبحانه وتعالى. ظل سيدنا هارون عليه السلام محاولا هدايتهم مرارًا وتكرارًا، ولكنه وصل إلى مرحلة أنه وجد بوادر صراع، فهناك من بني إسرائيل من اتبع السامري، وهناك من اتبع ما نصحهم به سيدنا هارون عليه السلام.

جنوح سيدنا هارون إلى الانتظار

وجد سيدنا هارون عليه السلام نفسه أمام خيارين، وهنا نرى الأسلوب الصحيح في التعامل مع الفتن والمشاكل الداخلية: هل يدخل في هذا الصراع؟ أم يتركهم إلى حين يرجع سيدنا موسى عليه السلام؟ فاختار سيدنا هارون أن ينتظر رجوع سيدنا موسى، فهو وحده من يستطيع حسم هذا الخلاف بكلمة منه، فهو لبني إسرائيل القائد الأول فقد قارن سيدنا هارون عليه السلام بين الأمرين. تخيلوا لو أن سيدنا هارون عليه السلام قد دخل في صراع ونجم عن هذا الصراع حرب في بني إسرائيل! رجع سيدنا موسى عليه السلام ليجد بني إسرائيل وقد قتلوا في حربٍ بينهم، وهذا ما يسمى بفقه الموازنات، عندما تكون في اختيار بين أمرين: كيف تختار الأقل ضررًا بينهما؟ فقه الموازنات يجهله كثير من المتحمسين.

عودة سيدنا موسي عليه السلام

عاد سيدنا موسى عليه السلام من لقاء ربه، بعد أن كلم ربه، فكان لقاءً مليئا بروحانيات وعبادة، وقد تلقى التوراة هدى ونورا ومعه الألواح، وينوي أن يرتقي ببني إسرائيل ليعلمهم وليكون لهم منهج وإذا بالمفاجأة: فقد عبد بعض من بني إسرائيل العجل. تخيل أن سيدنا موسى عليه السلام في لقاء ربه، وقومه يعبدون العجل! وهنا يتساءل الكثيرون، لماذا ترك الله سيدنا موسى عليه السلام في هذه المصيبة بعدما كان فيه من روحانيات وعبادة؟ هكذا الحياة، خير وشر، إيمانيات ومواجهات، وغير ذلك فقد تلقى سيدنا موسى عليه السلام كل هذه الروحانيات ليصلح بني إسرائيل، وليصلح في الأرض، ما حدث لسيدنا موسى عليه السلام مثال لما يحدث لنا بعد الصيام والقيام والعبادة في رمضان فتخرج من رمضان لتجد مشكلة كبيرة في العائلة، أو تجد أن أحد أبنائك وقد ارتكب ذبنًا كبيرًا، فهذا لا يعني أن الله لم يتقبل منك عبادتك في رمضان، فما اكتسبته من قوة إيمانية في رمضان هي لمواجهة مشاكل الحياة، بل على العكس، هذا من دلائل قبول الله سبحانه وتعالى لعبادتك، فالله سبحانه وتعالى يبعث رسالة إلى سيدنا موسى، أنه طالما أنه مع قومه، فهم ملتزمون بما يقول، ولكن إذا تركهم تركوا هم ما آتاهم. فهم ليسوا أصحاب فكرة، إنما هم تابعون لشخص، فإنهم ليسوا كسيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما قال: "من كان يعبد محمدا فإن محمدًا قد مات ومن يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت"، فبنو إسرائيل ليسوا كأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

علم سيدنا موسى بفتنة قومه

ومن رحمة الله بسيدنا موسى، أن أنبأه بالخبر قبل أن يصل إلى قومه ليستعد لهم، فيقول تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى* قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (طه: 83-85)، و"فتنا" هنا معناها اختبرنا، فقد اختبر الله بني إسرائيل إن كانوا سيتبعون سيدنا موسى، حتى وإن لم يكن معهم، فلم ينجحوا في هذا الاختبار، ولكن عند اختبار قوم سيدنا محمد يوم وفاته نجحوا في الاختبار وثبتهم سيدنا أبو بكر الصديق، فشخصية سيدنا أبو بكر تشبه كثيرًا شخصية سيدنا هارون في صبره وحلمه وفي ارتباطه بالفكرة وليس فقط بالأشخاص. فهذه القصة تدل على أن بني إسرائيل كانوا مرتبطين بشخص وهو سيدنا موسى أكثر من الفكرة؛ لذا فهذا ما سيعمل سيدنا موسى على إصلاحه بسبب هذه الحادثة، فهذه دعوة لقراءة القرآن قراءة صحيحة، فمعاني القرآن أعمق بكثير من مجرد قراءتها، فالقرآن مليء بالقيم.

وقد أخبر الله سيدنا موسى بأن السامري هو رأس الفتنة، ليكون مستعدا للموقف. يقول الله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا…} (طه: 86)، تخيل المشهد حيث يذهب سيدنا موسى إلى قومه آتيا من الجبل، وإذا بأغلبهم يعبدون العجل ساجدين له، تخيل كيف سيتعامل سيدنا موسى مع هذا الموقف؟

استراتيجية سيدنا موسى عليه السلام

هنا نرى أسلوب تعامل القائد مع فتنة وكارثة داخلية، فأي قرار خاطئ يمكن أن يسبب حربا أهلية أو يجعلهم يصرون على عبادة العجل، غير أن عليه أن يكون حاسمًا مع السامري ومع بني إسرائيل، فهذه ليست المرة الأولى فقد قالوا له من قبل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138) لذا يجب أن يأتيهم سيدنا موسى بعقوبة حاسمة، فهو لديه الآن ثلاثة أطراف ليتعامل معهم: السامري، وبنو إسرائيل، وسيدنا هارون، وغير ذلك يجب على سيدنا موسى عليه السلام مواجهة الأطراف الثلاثة معا لأنه سيقابلهم جميعا عندما يرجع، فلا يستطيع مثلا أن يستمع إلى ما حدث من سيدنا هارون على انفراد، فلسيدنا موسى هنا طريقة وخطة استراتيجية؛ فهو ينوي أن يتخذ معهم موقفًا حازمًا فيه شدة تجاه الجميع، ولكن إذا بدأ بالشدة فيمكن أن يخلق صراعا لذا فلسوف يبدأ باللين ثم الرحمة وبعدها الشدة والحزم.

إذًا بمن سيبدأ؟ هل يبدأ بالسامري؟ لا، فإنه إن بدأ بالسامري وبني إسرائيل فلربما مازالوا متأثرين به، وقد يُحدث هذا فتنة أكبر، وقد يجعل هذا من السامري بطلا. هل يبدأ بسيدنا هارون؟ لا، لم يبدأ به، لأنه ليس أصل الفتنة. سيبدأ سيدنا موسى ببني إسرائيل أنفسهم.

موقف سيدنا موسى مع بني إسرائيل

بدأ سيدنا موسى بكلام رقيق ليذكرهم، يقول الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي} (طه: 86)، وأنا أقول هذه الكلمات اليوم لأي عاصٍ: ألم يعطك الله من الخير الكثير؟ ألا تستطيع أن تصبر؟ لا ترتكب المعصية؟ فردوا عليه بعدما أثر فيهم كلامه: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ* فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (طه: 87-88)، عندما وجد سيدنا موسى أنهم قد تأثروا بالموعظة، وبدأوا التبرأ من السامري تركهم على ذلك.

موقف سيدنا موسى مع أخيه هارون

وكما بدأ سيدنا موسى باللين ذهب إلى سيدنا هارون متخذا معه الشدة، وهو يعرف أن سيدنا هارون يحتمل هذا، وأنه سوف يتقبل كلامه لأنه أخوه، فعندما يتعامل بالشدة مع سيدنا هارون سيحذر بنو إسرائيل ويخافون، يقول تعالى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (طه: 92-93)، وأخذ لحية سيدنا هارون وشدها، كان المشهد أمام الجميع، فقال له هارون: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه: 94)، ويذكر سيدنا هارون سيدنا موسى بما ربتهم عليه أمهم من أخوة، فلن يختلف سيدنا هارون مع أخيه سيدنا موسى أبدًا حيث ذكره بما وصاه عليه قبل أن يذهب بألا يجعل فتنة أو صراعًا بين بني إسرائيل لذا فقد انتظر عودته. يقول الله تعالى في سورة أخرى عما قاله سيدنا هارون لسيدنا موسى: {… قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأعراف: 150)، فهدأ سيدنا موسى، بعدما وضح لبني إسرائيل أنه ينوي معاملتهم بالشدة، فقال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأعراف: 151).

موقف سيدنا موسى مع السامري

وجاء دور السامري، فالتفت سيدنا موسى إليه ليبدأ معه بحزم وشدة ولكن سأله قبلها لما فعل هذا؟ يقول تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} (طه: 95)، ينبغي أن يتعلم الآباء من هذا الموقف كيف يمكنهم معاقبة أبناءهم؟ فقبل التوبيخ والمعاقبة، يجب أن يقولوا لأبنائهم ويشرحوا لهم لماذا يعاتبونهم أو يعاقبونهم؟ وهنا يكمن صبر سيدنا موسى لذا كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يتأسى به عندما يغضبه أحد، ويقول: (رحم الله أخي موسى، لقد ابتلي بأكثر من ذلك فصبر)، فكذب السامري لأنه جبان، ولم يخبره عن السبب الحقيقي لما فعل وعن موهبته المكبوتة، فقال: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } (طه: 96)، وادعى أنه رأى جبريل عليه السلام، يوم أغرق الله فرعون يمر بفرسه في البحر فأخذ من طينة كانت من أثر قدم جبريل، ووضعها في العجل الذي صنعه، ليبقى به جزء من الملائكة ليصبر به بنى إسرائيل حتى يأتي سيدنا موسى، فلم يناقشه سيدنا موسى فيما كذب.

حسم سيدنا موسي عليه السلام

انتقل سيدنا موسى إلى مرحلة الحسم والعقوبات، ففرض أربع عقوبات: كانت أول عقوبة للسامري بنفيه فأمره أن يذهب، يقول تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ…} (طه: 97)، أما العقوبة الثانية والثالثة: {… وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} (طه: 97)، فيُنفذ الأمر فورًا ويحرق العجل ويرمى في اليم، ويقال إن السامري قد أصابه مرض جلدي فما عاد أحد يقربه. هذه رسالة لكل المبدعين؛ إياك أن تسلك درب السامري حتى وإن ظُلمت فتدمر المجتمع فيفعل بك الله كما فعل بالسامري. نُفى السامري وتوفي في منفاه وحيدا، وحرق العجل ونسف في اليم ثم يلتفت سيدنا موسى لعقوبة بني إسرائيل ليكمل موقفه الحاسم مع الأطراف الثلاثة بموقف في منتهى الحكمة والحسم.

قيمـة اليـوم

لا تنسوا قيمة اليوم: إياك أن تذل نفسك لأي من كان




التصنيفات
منوعات

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد

( الحلقة الثالثة والعشرون)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ليكن لنا وقفة نكسر بها تسلسل الأحداث في قصة سيدنا موسى ولِنذهب اليوم بعيدًا قليلا عن أحداث القصة وتسلسلها – وإن كنا مازلنا نتحدث عن قصة سيدنا موسى- إلى أسئلة حول القصة، فقد وردت إليّ أسئلة كثيرة منكم مما يدل على حجم التفاعل الكبير على الإنترنت سواء على www.amrkhaled.net أو على الفيس بوك مما دفعنا إلى الرد على أسئلة الناس وتعليقاتهم الجميلة العميقة إضافة إلى مقترحاتهم بعد رمضان، فجزاكم الله خيرًا. وقد قمنا باختيار ستة عشر سؤالا للرد عليها.

السؤال الأول:

ما هو اسم أخت سيدنا موسى؟ عند استعراض شجرة العائلة قلت إن أخت سيدنا موسى تسمى مريم وإنها ابنة عمران، فهل السيدة مريم العذراء هي أخت موسى؟

بالطبع لا، وذلك لأن الفرق بين سيدنا موسى وسيدنا عيسى ما يقرب من 1200 سنة، وبذلك فالفرق بين السيدة مريم ابنة عمران العذراء أم سيدنا عيسى (عليه السلام) ومريم ابنة عمران أخت سيدنا موسى 1200 سنة، ولكنهما تحملان الاسم نفسه؛ فهذه مريم ابنة عمران أخت موسى وهذه مريم ابنة عمران أم عيسى. أريد أن أضيف أن هناك احتمالا واردًا أن يكون وراء تشابه الأسماء أن أم السيدة مريم العذراء قد أسمتها بهذا الاسم خلفًا لمريم أخت موسى وذلك لأن مريم أخت موسى كانت مشهورة في بني إسرائيل وكانت لديهم بمثابة البطلة وصاحبة الموقف، فقد أنقذت أخاها ووقفت أمام فرعون ودخلت قصره وقالت "…هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ…" (القصص:12)، فقد تكون أم مريم العذراء وجدة عيسى (عليه السلام) قد تمنت بعد وضعها حملها أن تصبح ابنتها هذه كمريم أخت موسى فأسمتها مريم.

السؤال الثاني:

لقد ذكرت في الحلقات أنه أثناء التقاط آل فرعون لسيدنا موسى من التابوت قالت آسيا لإقناع فرعون "…قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا…" (القصص:?) وذلك لأنهما لم يرزقا بالأولاد، وفي الوقت نفسه قلت إن رمسيس الثاني هو على الأرجح فرعون موسى على الرغم من اختلاف الآراء، والثابت تاريخيا أن رمسيس الثاني قد أنجب عددًا كبيرًا من الأولاد بل وفي بعض الروايات ذكر أنه أنجب فوق الـ 100 ولد، فكيف يكون فرعون موسى؟

هذا صحيح، وقد يثبت هذا السؤال أن رمسيس الثاني هو فرعون موسى لأن رمسيس الثاني وآسيا لم يرزقا بالأولاد حتى الفترة التي ولد بها سيدنا موسى ثم كثرت زيجاته لاحقًا وأنجب العديد من الأولاد في الفترة بعد ولادة موسى، وكأن هذا من تقدير الله سبحانه وتعالى وهو أن يبقى فرعون وآسيا بلا أولاد حتى قدوم موسى عليه السلام فيسهل هذا على فرعون عدم قتله وقبوله واستجابته طلب آسيا. بعد موسى حُرمت آسيا من الأولاد حتى تظل متعلقة بهذا الرضيع، أما فرعون فقد أنجب الكثير حتى ينشغل بأولاده الآخرين عن موسى ابنه بالتبني، وعندما يبلغ موسى أشده تسنح الفرصة له أن يلتقي ببني إسرائيل وأن يصل لأمه دون أن يراقبه فرعون مراقبة شديدة، فسبحان الذي يعطي ويمنع "…يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا…" (الشورى: 49-50)، فيا محرومون من الأولاد ويا من رزقتم بهم تعلموا من قصة سيدنا موسى أن الله يهب الأولاد ويمنع لحكمة كبيرة وعظيمة، فارضوا بقضاء الله.

السؤال الثالث:

لقد أرسل أحدهم فكرة جميلة قائلا: لقد قلت إن حياة سيدنا موسى مقسمة إلى أربع مراحل:

المرحلة الأولى: إعداد في مصر حتى سن الـ30.

المرحلة الثانية: إعداد في مدين من سن الـ30 وحتى سن الـ40.

المرحلة الثالثة: تنفيذ المهمة الأولى وهي مواجهة فرعون من سن الـ40 وحتى سن الـ55.

المرحلة الرابعة: موسى وبنو إسرائيل خارج مصر بعد النجاة وغرق فرعون، ومحاولة سيدنا موسى إصلاح بني إسرائيل من سن الـ55 وحتى سن الـ70 تقريبًا، وبما أن قصة سيدنا موسى ذكرت في50 سورة في القرآن، فهل من الممكن ترتيب الآيات على المراحل حتى تتضح لنا الصورة بشكلٍ كاملٍ وكأننا نرى مشهدًا متسلسلا كما قصصته أنت؟

لقد ساعدنا الأستاذ وسيم المغربل في هذا الأمر كما ساعدنا في البرنامج من قبل، فقسمنا الآيات حسب المراحل وعرضناهم على www.amrkhaled.net بحيث تقرأ الآيات متسلسلة حسب المراحل، كان هذا اقترحًا ذكيًا من أحد الشباب.

السؤال الرابع:

ما هي مراجع القصة أو ما اعتمدنا عليه عند رواية القصة؟

لن أستطيع أن أسرد لكم الآن أسماء كل المراجع حيث إن عددهم يفوق الـ70 مرجعا، إليكم بعضها:

من أهم الكتب كتب التفسير، وأنصحكم ضمن هذه الكتب بكتاب "التحرير والتنوير" لابن عاشور فهو عالم كبير من تونس فبكتابه معانٍ رائعة، وتفسير الشيخ الشعراوي، وكتب د. راتب النابلسي، وكتب أ. وسيم المغربل والمهندس مازن السيد فكلها كانت عونًا لنا.

أما عن الكتب التي تحتوي على معلومات تتعلق بمصر القديمة والفراعنة، إلخ، فإليكم كتاب د. سليم حسن عالم المصريات العظيم فقد قام بتأليف موسوعات كبيرة عن مصر القديمة وكتبا رائعة تحتوي على الخرائط التي استعنَّا بها وتجدون كتبه تباع في الأسواق إلى الآن. كذلك لا أنسى كتاب أ. محمد عبد الرازق الجويلي وهو مهندس مصري ألف كتابًا رائعًا يثبت فيه بأدلة تاريخية وفلكية قاطعة أن رمسيس الثاني هو فرعون موسى وقد بذل به مجهودًا كبيرًا. ولأكون صادقًا معكم فربط القصة بالواقع وربطها بقيمة من بالقيم التي نحتاجها اليوم ليس موجودًا بالكتب وإنما هو اجتهاد شخصي كما هو اجتهاد الفريق القائم بالعمل، وأرى أن هذا أغلى وأهم ما في الأمر كما تقول الآية: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ…" (يوسف:111)، إنها ليست حواديت أسطورية وخيالية، وما بين يديه (يدا النبي) أي القرآن مليء بالقيم الأخلاقية لإصلاح الحياة فجاءت قصة سيدنا موسى لتطبيق تلك القيم ومصدقة لها، ولذلك فمن يعترض أننا تناولنا قصة سيدنا موسى دون غيرها فليعترض على القرآن لا علينا.

السؤال الخامس:

ظل سيدنا موسى في مدين عشر سنوات بعدما قتل رجلا وأصدر فرعون قرارًا بقتله ثم عاد سيدنا موسى إلى مصر، فلماذا لم يقتله فرعون فور عودته أو يسجنه؟ ولماذا أمهله حتى أصبح سيدنا موسى في وضعٍ أقوى؟

يجب أن نلاحظ نقطتين هنا الأولى: هي أن سيدنا موسى بادر بالذهاب مع هارون إلى فرعون، فالمبادرة هنا نصف المكسب والنصف الآخر يكمن في الحكمة، فالمبادر دائمًا يكون الفائز ومن هو في رد الفعل يكون خاسرا دائمًا، فهل يا ترى المسلمون مبادرين أم في موقف رد الفعل؟ هل الأمة مبادرة فتتجنب الطعنات والفتن أم هي دائمًا في موقف رد الفعل؟ النقطة الثانية: جزء من نجاح سيدنا موسى مبادرته والجزء الآخر هو غرور فرعون فقد منعه غروره من قتل سيدنا موسى على الفور وقد قَبِلَ الحوار معه من باب التسلية وبيان القدرات الفكرية، عندما لم يغلب فرعون موسى في الحوار الفكري أصبح من الصعب عليه قتل موسى لتأثر الناس به وظن الناس فيه أنه سيكون ضعيفًا إن قتله، وكلما انتصر سيدنا موسى في موقف من المواقف أصبح من الصعب على فرعون قتله حتى إنه عندما قال فرعون: "…ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى…" (غافر:26) قال له مؤمن آل فرعون ما قال فجعل قتل موسى أكثر صعوبة عليه، حتى قرر فرعون قتل موسى وبني إسرائيل كلهم فكان نتيجة ذلك الغرق. يلاحظ هنا أن فرعون حاول قتل سيدنا موسى أكثر من مرة.

وبمناسبة هذا السؤال، فلنعلم أن الله قد قام بحماية سيدنا موسى من فرعون خمس مرات:

الأولى: بالحب وكان مازال رضيعًا "…قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا…" (القصص:9)

الثانية: عندما خرج رجل من المصريين من ذوي الشهامة من قصر فرعون ليبلغ موسى برغبة فرعون في قتله.

الثالثة: عند عودة موسى إلى مصر ومبادرة موسى بالحوار مع فرعون ومنع غرور فرعون نفسه من قتله.

الرابعة: يوم السحرة حيث كان فرعون يريد قتل موسى ولكن بإيمان السحرة لم يُقتل.

الخامسة: عندما قال فرعون "…ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى…" (غافر:26)، قيَّد الله له رجلا مؤمنًا لحمايته، فقد نجَّى الله سيدنا موسى خمس مرات بخمسة أسباب بشرية مختلفة على أيدي مصريين ما عدا يوم الغرق، ليت المصريون يعلمون قيمتهم في القرآن وفي قصة سيدنا موسى.

السؤال السادس:

كيف أتابع حلقات قصص القرآن بعد رمضان؟

أولاً، يمكنك تحميل الحلقات عبر موقع www.amrkhaled.net .

ثانيا، عن طريق اليوتيوب حيث أصبح هناك قناة خاصة تسمى قناة عمرو خالد بها الحلقات بجودة

عالية، كما ستتوفر الحلقات بعد رمضان على هيئة أقراص فيديو ممغنطة (دي في دي) مصحوبة

بترجمة إنجليزية لمن أراد أن يهدي الحلقات لأي شخص بالعالم، كما إنها سوف تتوفر في هيئة كتاب

مطبوع.

السؤال السابع:

وهو سؤال بالغ الأهمية قد تكلمنا فيه في الحلقة رقم 3 هل يصح لنا أن نتعاطف مع بني إسرائيل عندما كان يقوم فرعون بقتلهم؟

نحن المسلمين لدينا مقياس وتصرف واحد ثابت لا يتغير تجاه المظلوم أيًّا كان وهو أننا نقف بجانبه، فإن كان المظلوم منذ 3000 عام هم بنو إسرائيل الذين قال القرآن عنهم إنهم يُذبَّحون فنحن معهم، وإن كان المظلوم الآن هم إخواننا في فلسطين وأن الظالم الآن – وهذا العجيب في الأمر- هو الذي ظُلِم منذ 3000 عام ويظلم بالطريقة نفسها التي ظُلِم بها فكما ذُبِّح أولاده يقتل أمثال محمد الدرة، فموقفنا ثابت، نحن مع المظلوم في كل زمان ومكان وهذا من قيم الإسلام وعدله ورحمته، قال الله تعالى: "…وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى…" (المائدة:8)، بل إن هذا المعنى يزيد من علو مكانة المسلمين في العالم أجمع بأننا لسنا عنصريين.

السؤال الثامن:

هل كان سيدنا موسى على اتصال بأهله مثل أمه أو أخيه هارون عندما ترك مصر إلى مدين لمدة عشر سنوات؟

لا يوجد في الكتب أو التفاسير أو الآيات ذكر لهذا الأمر لكن يبدو أنه كان على اتصال بهم لأن ثمة آية قرآنية تشير إلى ذلك؛ فعندما كلم موسى ربه عند جبل الطور قال: "…فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ" (الشعراء: 13) وقال: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي…" (القصص:34)، فإذا لم يكن سيدنا موسى على اتصال بهم لما قال ما قال ولكن كان سيسأل عن أحوال أخيه أولا، فعند تكليف الله له بالرسالة قال من فوره "قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* (طه:25-32) فالقرآن لا يذكر لك كل الأمور ولكنه يرسل لنا إشارات دون أن يغير الأحداث ويترك مساحة للعقل لكي يتخيل ويفكر فيما بين الأحداث. وقد يكون سيدنا موسى على اتصال بهم بإرسال المراسيل عن طريق المسافرين عبر الصحراء خاصة وأن مدين كانت خارج سيطرة فرعون.

السؤال التاسع:

أين في قصة سيدنا موسى؟

هناك أربع سيدات في حياة موسى وكلهن أنقذنه: أمه وأخته وآسيا فقد أنقذنه في مصر من الموت، بالإضافة إلى زوجته التي أنقذته في مدين من الوحدة. سبحان الله، لاحظ أن هذا النبي العظيم وهو من أولي العزم من الرسل قد ساندته في مراحل مختلفة من حياته. كم هي عظيمة! وكيف أننا في العالم العربي لا نلاحظ رفع القرآن لقدر ؟! تحيط المخاطر بالقصة فسكينة الذبح كانت على رقبة سيدنا موسى منذ المولد وحتى الوفاة، فيجب إذًا ألا تظهر ولكننا نجد أنها هي التي ظهرت وأنقذته وسط هذه المخاطر الصعبة فأحيانًا تكون هي التي تقف وتساند وتشجع وتحمي كما فعلت السيدة خديجة مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وكما كانت السيدة سمية أول شهيدة في الإسلام، وكما كانت أم حرام بنت ملحان أول شهيدة في أوروبا. لو تتبع في القرآن تعرف أن ما يقال عن الإسلام الآن من إنه يظلم ليس إلا كذبًا. إذا كان هناك ظلمًا واقعًا على في العالم العربي فإياكم أن تدعوا أن هذا هو الإسلام، قد يتردد هذا باسم الإسلام ولكنه بريءٌ منه، فحال في العالم العربي كحال المارد حبيس الزجاجة الذي ينتظر الفرصة كي ينطلق ليبدع ويضيف في إصلاح المجتمع، إلخ.

ليس معنى كلامي هذا أنني أدعوا لتحرير بمعنى انطلاقها وتركها لبيتها ودينها وإيمانها، فانظر إلى نموذج الأم هنا وفي سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وكيف أنها تجمع بين النجاح في الحياة وأمومتها والتمسك ببيتها! فهي ناجحة وفي الوقت نفسه مؤمنة وعابدة، لذلك فسيدتا نساء العالمين هما خديجة وآسيا؛ فالسيدة خديجة أم قامت بتربية سيدنا علي كما قامت بتربية السيدة فاطمة وهي في الوقت نفسه سيدة أعمال ناجحة وأيضًا عابدة مؤمنة؛ فهي أول من سجد لله مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، أما السيدة آسيا فهي أم سيدنا موسى وقفت بجانبه وساندته وهي التي عاشت في قصور فرعون القائل: "…أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي…" (الزخرف:51) فتقول: "…رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ…" (التحريم:11) فهي لا تريد كل هذا الملك وتكون من الظالمين، كما طلبت بيتًا وليس قصرًا كما طلبت جوار الله في الفردوس الأعلى عند عرش الرحمن قبل أن تطلب البيت وذلك بقولها: "عِنْدَكَ".

لاحظ أن آخر أولي العزم من الرسل سيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا محمد قد قامت بتربيتهم امرأة؛ فسيدنا محمد توفي والده، وسيدنا عيسى ولد من أم بلا أب، وسيدنا موسى قامت أمه بتربيته، وكأنه من الممكن الاستغناء عن الأب لكن لا يمكن الاستغناء عن الأم لكي يصير المرء إنسانًا عظيمًا. هناك ملحوظة أخرى وهي أن أم موسى قامت بتربية 3 من الأبناء؛ موسى وهارون ومريم وهي الوحيدة التي ذكر أولادها في القرآن-موسى وهارون بأسمائهم ومريم بفعلها- وذلك لأنها اتخذت نية جادة في تربيتهم.

السؤال العاشر- انتقاد:

لقد قصَّرت في حق آسيا في الحلقات فلم توفها حقها كاملاً!

صحيح، لقد قصَّرنا في هذا الجانب ولعل كلامي عن السيدة آسيا الآن تعويضًا عن هذا التقصير.

السؤال الحادي عشر:

أين والد موسى في القصة؟

لم يذكر والد سيدنا موسى في القرآن على الإطلاق، وقد يكون قد تُوفي وموسى ببطن أمه أو تُوفي في أوائل مراحل نمو موسى فقد جاء التركيز في القصة على أمه، في حين إن التركيز في قصة سيدنا يوسف كان على الأب دون الأم، وليس معنى عدم ذكره أنه كان موجودًا دون أن يقوم بأي دور فقد يكون متوفَّى.

السؤال الثاني عشر:

لقد ألقت أم موسى سيدنا موسى في النيل خوفًا من قتل فرعون له وهو رضيع، فلماذا لم تفعل ذلك مع أخيه هارون؟ لماذا كان سيدنا موسى مهددًا بالقتل دون أخيه هارون؟

إن سيدنا هارون أكبر سنًّا من سيدنا موسى، ففي أغلب الأمر أن سيدنا هارون قد ولد قبل أن يرى فرعون الرؤيا التي اتخذ بناءًا عليها القانون والقرار بذبح أبناء بني إسرائيل، والله أعلم.

السؤال الثالث عشر:

ما هي عدد الختمات التي حققناها حتى الآن؟

كما تعلمون أننا نقوم بشن حملة لختم القرآن وقد تجاوزنا عدد المليون خاتمة ولله الحمد، وهذا ليس العدد النهائي حيث إننا نصور هذه الحلقة ونحن مازلنا في رمضان وبعد النصف الأول منه فقط. كان هدفنا 10 ملايين خاتمة قرآن ولكن إن لم نحققه فقد حققنا مليون خاتمة نقابل بها الله ونبيه يوم القيامة ويغفر لنا بها.

السؤال الرابع عشر:

وهو أجمل تعليق سمعته حول البرنامج من دكتور بجامعة الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية يقول فيه: "هل سمعتم عن أتباع دين من الأديان يجتمعون بالملايين لمدة 30 يومًا بشغف واهتمام وحب يسمعون قصة نبي وأتباع دين آخر؟" ويضيف: "أنا لم أر من فعل ذلك غير المسلمين، يسمعون قصة موسى عليه السلام". ندرك أنا وهو أن سيدنا موسى نبينا جميعًا وأن "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ…" (آل عمران:19) منذ زمن سيدنا إبراهيم (عليه السلام)، كما أننا نحب سيدنا موسى؛ لأنه نبينا ولأنه مذكور في القرآن بهذا الحجم، ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (أخي موسى) ولأن القرآن كان يتنزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) ليثبته بآيات وقصة من قصص سيدنا موسى، فنحن نفهم هذا الترابط والتشابك ومؤمنون به. لكن الحقيقة هذا التعليق موجها للغرب، تخيل معي عندما يعلم الغرب أن المسلمين – وقد قُدِّر عدد مشاهدي الحلقات بحوالي 40 مليون مشاهد يوميا- ظلوا لمدة 30 يومًا يستمعون لقصة عن نبي بني إسرائيل – موسى (عليه السلام) فهم لا يستوعبون أن سيدنا موسى نبينا- فيصبح كل ما يتهم به المسلمون من انغلاقهم وعدم تعايشهم كذب، ويكون هذا دليلا على سماحة الإسلام وعلى عرض القرآن الجميل لسيدنا موسى.

السؤال الخامس عشر:

أين تم تصوير الكثير من الحلقات التي شاهدناها؟

لقد تم تصوير الكثير من الحلقات في الأردن، وتم تصوير حلقة "السحرة ويوم الزينة" بالمسرح الروماني بالبتراء في الأردن، وإني لأشكر الأردن جزيل الشكر على كل ما أتيح لنا أن نصوره هناك وعلى الأماكن العظيمة بها. أما عن التصوير قرب النيل فلن نذكر الأماكن تحديدًا ولكنها أماكن مختلفة عند النيل.

السؤال السادس عشر والأخير:

هل كان التصوير عبارة عن ديكور حقيقي أم أنها تقنية معينة تم استخدامها؟

لم يكن التصوير بديكور حقيقي ولم تكن تلك المعابد معابد حقيقية وإنما تقنية حديثة مستخدمة تسمى بالـvirtual studio قام بها مجموعة من المهندسين المتميزين للغاية والذين أقدم لهم جزيل الشكر كما أشكر من قام بإخراج البرنامج بهذه الجودة العالية، وأشكر الأستاذ هشام سليمان على الجهد الكبير الذي بذله وأشكر المخرج الأستاذ محمد بيازيد وعلى رؤيتهما الجميلة فقد خرج هذا العمل بسبب هؤلاء فجزاهم الله خيرًا.

قبل الختام، أريد أن أوصيكم بأن تجتهدوا في العشر الأواخر فبها الثواب الكبير، وبها ليلة العفو من الله عز وجل، وبهم "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" (القدر:3) فحسنات هذه الليلة أكثر من ألف شهر أو 84 سنة من الحسنات، وكأن عبادتك وصلاتك في هذه الليلة توازي صلاتك لمدة 84 سنة.

لعل الله جامعُنا بكم على خير ويتقبل منكم، اجعلوا هذه الليلة ليلة عبادة وذكر وقيام ودعاء ومسامحة للناس، اعفوا عن الناس كي يعفو الله عنكم.




التصنيفات
منتدى اسلامي

قصص القرآن2 سلسلة عمرو خالد

( الحلقة السادسة والعشرون )

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلا ومرحبًا بكم.

نستكمل معًا الحديث عن مجموعة أخرى من القيم للنصف الثاني من مسيرة سيدنا موسى عليه السلام، وهي عبارة عن سبعة قيم أخرى يعلمنا إياها هذا النبي العظيم.

القيمة الأولى: حُب الله

هذه القيمة تتجلى عندما كلم الله تبارك وتعالى سيدنا موسى عليه السلام في جبل الطور، فيقول له: يا رب دُلني على أدنى أهل الجنة منزلة، فقال له الله تبارك وتعالى: يا موسى أدنى أهل الجنة منزلة ذلك آخر رجل يخرج من النار، فيخرج من النار ويريد أن يدخل الجنة حبوًا، كلما أراد أن يخرج منها أعيد فيها، حتى يخرج منها في النهاية ويقول الحمد لله الذي نجاني منكِ، فيقول له الله تبارك وتعالى: اذهب فادخل الجنة، فيذهب فينظر فيُخيل إليه أنها ملأى، فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول له الله: أما ترضى أن يكون لك ملك مثل أعظم مَلك من ملوك الدنيا؟ فيقول الرجل: يارب أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! فيقول له الله تبارك وتعالى: لك مثل أعظم مَلك من ملوك الدنيا ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فيقول العبد: رضيت يا رب، رضيت يا رب، فيقول له الله تبارك وتعالى: لك مثل أعظم مَلك من ملوك الدنيا وعشرة أمثاله ولك فيها ما اشتهت نفسُكَ، وتمنت عينُك وأنت فيها خالد. فقال موسى عليه السلام: يارب أذلك أدناهم منزلة..؟! فقال له الله: نعم يا موسى، فقال موسى عليه السلام: يارب فمن أعلاهم منزلة..؟! فقال له الله: أولئك الذين أردت، زرعتُ كرامتهم بيدي، فلا تدري عين ولا تسمع أذن ولا يخطر على قلب بشر ماذا أريد أن أعطيهم.

القيمة الثانية: لا تُهن نفسك

هذه القيمة رأيناها في قصة موسى عليه السلام مع السامري عندما عاد من ميقات ربه فوجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل، فالدرس المستفاد هنا هو أنه مهما حدث لا تُهن نفسك أو تذِلها لمعصية، ولا تهن وتذِل أولادك، ولا تدع للشيطان مجالا ليقودك إلى المعاصي ويوجهك كيفما شاء، أو تُهن نفسك لعادة من العادات السيئة، أو تذِل نفسك لإنسان كائنًا ما كان، فالذُل يشوه النفوس بل هو أسوء من التشوهات التي قد تُصيب الوجه إثر حرقٍ أو حادثٍ. فعندما حرق موسى عليه السلام العجل إنما أراد بذلك أن يحرك بداخلهم معنى (لا للذل)، لأن النفس الذليلة لا يوجد من يحترمها في هذا الكون على الإطلاق.

وفي إطار أحداث قصة موسى عليه السلام والسامري ذهب السامري إلى بني إسرائيل وقال لهم: أرأيتم الحُلي التي أتيتم بها من مصر..؟ لن يأتي إليكم موسى إلا بعد أن تلقوها في البحر، فألقاها بنو إسرائيل وأخذها السامري، ولكنه أخذها ليس ليسرقها ولكن ليبني بها عِجلا من ذهب، وقد بنى لهم بالفعل عِجلاً يشبه العجل إيبيس، وفتح له فتحة من فمه وأخرى من مؤخرته ثم وضعه بشكل معين في اتجاه الريح بحيث يدخل الهواء من فمه فيُحدث صوتًا من مؤخرته، وقد استغل السامري ارتباط بني إسرائيل بالعجل إيبيس فصنع لهم مثله ليضلهم، ثم قال لهم: هذا إلهكم وإله موسى، فعبدوه، ولكن الله لم يدع السامري حتى أنزل عليه العقوبات.

1. وكانت العقوبة الأولى هي نفي السامري وطرده.. قال تعالى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ..} طه97.

2. العقوبة الثانية هي حرق العجل.. قال تعالى: {..وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} طه97، وتُنفَذ أوامر سيدنا موسى عليه السلام ويُحرق العجل ويُنسف في اليم نسفًا.

القيمة الثالثة: حُب المسجد الأقصى

رفض بنو إسرائيل دخول الأرض المقدسة، فقال لهم رب العالمين: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ..} المائدة26، وغدت أمة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم هي المسئولة عن المسجد الأقصى وهي المسئولة أيضًا عن القدس، فهذه قيمة غالية علينا أن نربى أنفسنا وأبناءنا على حبها.

عندما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى لم يكن الأمر عبثًا بل كان إشارة إلى معنى عظيم. وكان خلفه سيدنا موسى عليه السلام مأمومًا وراءه صلى الله عليه وسلم، وكان خلفه أيضًا سيدنا عيسى عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، ونوح عليه السلام، وآدمَ عليه السلام، وكأن المعنى العظيم هو تسليم الأنبياء الراية للنبي صلى الله عليه وسلم لتحمل مسئولية المسجد الأقصى هو وأمته من بعده، فالمسجد الأقصى هو بمثابة –ترمومتر- الإيمان للأرض ولقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولسوف نُسأل عنه يوم القيامة.

القيمة الرابعة: حلمُ الله على عباده

وبالرغم من ظلم بني إسرائيل وجحودهم بنِعم الله، فقد كان الله تبارك وتعالى يربيهم أحيانًا بالشدة وأحيانًا بالرحمة، وقد تجلت رحمة الله وحلمه على بني إسرائيل عندما ضرب سيدنا موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا.. قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ..}البقرة60، وهنا نرى رحمة الله وحلمه البالغ على عباده مهما عصوه، فعلينا أن نحب الله من كل قلوبنا كما علمنا ذلك رسول الله، فقد كانت أولى كلماته صلى الله عليه وسلم حينما دخل المدينة: (أيها الناس أحبوا الله من كل قلوبكم، أحبوا الله لِما يغذوكم به من النِعم).

القيمة الخامسة: لا للمادية ولا للجدل ولا للماطلة

ذُكرت حادثة البقرة في سورة البقرة التي سميت باسمها وهي من أطول سور القرآن الكريم، وهذه القصة لا تحتوي على قيمة واحدة فحسب بل عشرات القيم منها:

· لا للمادية.

· لا للجدال.

· لا للمماطلة.

ولأن سورة البقرة كلها قيم بسبب قصة البقرة التي جسدت الكثير من المعاني، والكثير من الأخطاء التي وقع فيها بنو إسرائيل، فكان المعنى الأساسي والرئيسي هو التحذير من الوقوع في نفس الأخطاء التي وقعوا فيها.

القيمة السادسة: قيمة العلم

ليست هناك نهضة بدون علم، وليس العلم المقصود به أُناس يتعلمون للحصول على الشهادات فحسب بل أُناس يعشقون العلم، يقرأون ويتعلمون لكي ينجحوا في الحياة. وتتجلى هذه القيمة في قصة موسى والخضر عليهما السلام، فكان لدى سيدنا موسى عليه السلام إصرارًا كبيرًا لتعلم العِلم على يد الخضر عليه السلام، وكانت لديه رغبة شديدة في طلب العلم مهما كلفه ذلك من عناء ومشاق، فكان يقول: {..أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً}الكهف60، أرأيتم كيف كان شغفه وتعلقه عليه السلام بطلب العلم وحرصه على مقابلة الخضر عليه السلام؟

القيمة السابعة: صلة الأرحام

ولقد تجلت صلة الأرحام في قصة موسى عليه السلام في العلاقة التي جمعت بينه وبين أخيه هارون عليهما السلام، فقد كان سيدنا هارون صاحب رسالة، مخلصًا بشدة لأخيه موسى عليه السلام وسندًا له، كما كان يمتلك نفسًا صافيةً إلى أبعد الحدود.




جزاك خيرالجزاء
ونفع بكِ



الله يعطيج العااااااااافية حياتي



خليجية