إنّ الكتابة نتاجُ عصارة الفكر وخلاصةُ مكنون الصدر وصادقُ حديث النفس، وهي وسيلة التخاطب عن بُعْد مع مَنْ عرفت ومَن لم تعرف، ومن خلالها تصل المعلومة النافعة والتذكرة الطيِّبة والنصيحة الخالدة، فترتبط الأرواح وإن لم تلتقِ الأجساد، كما أنّها تكسر حاجز الرهبة في النفس التي قد يلجمها الخجل؛ فلا تملك الشجاعة الأدبية على الكلام مشافهة فتبوح به على الورقة بلا سابق إنذار أو استئذان.
وقد تكون الكتابة هواية يهواها كثير من الكتّاب ويمارسونها؛ فيتخذون منها شاغلاً لملء فراغهم، ومتنفساً لما يعتلج في صدورهم ومستودعاً لمكنون قلوبهم، وقد يتّخذها بعضهم وسيلة للدعوة المكتوبة والمقروءة، وأنعِمْ بها من وسيلة تصل بين الكاتب والقارئ، إذ يتسلّل الكاتب من خلال سطورها إلى شغاف القلوب، ويخترق في طريقه ثنايا العقول محدِثاً فيها الحركة والنشاط من بعد خمول، ومن خلال هذا التجوال مع الحروف وبين السطور يتحقق غرضه ويتلاقى مع نفوس قرائه وإن لم يشاهدوه حتى يتم التواصل وتصل المعلومة، خاصة إن كان ممن حباهم الله تعالى وخصهم بمزيد من الحكمة والبيان، وكما قال النبي (ص): "إنّ من البيان لسحراً".
وقد اتّخذها البعض الآخر حرفة منها يقتاتون، وعملاً يدرّ عليهم بعض المال الذي يعوضهم عن ساعاتها الطويلة التي يعكفون فيها عليها، وكثير منهم يمضون أوقاتهم ويقطعون أنفاسهم ويفنون أعمارهم وهم في طريقهم سيراً بين رياض المعارف وبطون الكتب وأرف المكتبات ودور العلم وقاعات المحاضرات، ينقبون عن الماضي ويعيشون الحاضر ويتخيلون المستقبل ليقطفوا لي ولك من كل بستان زهرة جميلة، ويرسموا لنا لوحة متكاملة مكتوبة من صور الحياة في كلّ العصور، فالكتابة ليست بالأمر الهين، والمقدرة عليها نعمة من الله سبحانه وتعالى يستشعرها مَنْْ كان له نصيب منها قلّ أم كثر، وهي صديق وفيّ لا يملّ منك فيصطحبك أينما كنت، وهي أنيس في حياة الوحدة، وشريك في زمن الغربة، وصاحب في دروب السفر الطويل، ودعوة من غير لسان، وترجمان لثقافة الشعوب، وهي نتاج العقول على اختلاف قدرها، وعصارة المفاهيم على تنوعها، وتداول لشتى اللغات، وبها تخرج المشاعر الدافقة على هيئة حروف وكلمات متناسقة!
– أدوات الكتابة:
وأولى أدوات الكتابة كان القلم.. والقلم نعمة من الله تعالى على عباده؛ فقد كان بحمد الله وما زال الأداة التي ترمز وتؤدِّي إلى الكتابة، وسيلة المعرفة المهمة على مرّ العصور.. والقلم ذو مكانة عالية استمدها من تكريم الله تعالى له، إذ هو أوّل ما خلق كما جاء عن النبي (ص): "إنّ أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد"، وقد أنزلت سورة قرآنية كاملة تحمل اسمه سورة "القلم" وأقسم الله به في كتابه العزيز فقال: (… وَالْقَلَم وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم/ 1)، وفي تفسير الآية قيل: الظّاهر أنّه جنس القلم الذي يُكتب به كقوله: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 3-5)، فهو قَسَم منه تعالى وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم، وهو واقع على كلّ قلم ممّا يكتب به مَنْ في السماء ومَنْ في الأرض، ولهذا قال: (وَمَا يَسْطُرُونَ)، يعني وما يكتُبون أي الملائكة يكتبون أعمال بني آدم، وقيل: الناس ما يكتبون ويتفاهمون به، يقال سطر فلان الكتاب فهو يسطر سطراً إذا كتبه. وقيل: إنّ القلم هو القلم المعروف، غير أنّ الذي أقسم به ربّنا من الأقلام القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة.
– الأقلام ثلاثة:
قال علماؤنا: فالأقلام في الأصل ثلاثة: القلم الأوّل: الذي خلقه الله بيده، وأمره أن يكتب. والقلم الثاني: أقلام الملائكة، جعلها الله بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال. والقلم الثالث: أقلام الناس، جعلها الله بأيديهم، يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها مآربهم. ومهما تطوّرت الآن سبل الكتابة وأدواتها وتنوعت الأقلام وتغيّرت أشكالها وقلّ استخدامها؛ فإنّ القلم يظل علماً عليها ومشيراً إليها لا ينقص من مقداره شيء.
– الحروف أمانة:
وحين يمسك المرء منا قلمه ليخط به كلماته، فإنّ الحفظة من الملائكة الكرام البررة تمسك أيضاً بأقلامها لتسجل ما نسطره، وإن كان الكاتب يكتب ما يكتب وحده في خلوة فإنّ الله معه يراه ويراقبه ويعلم سره ونجواه، وينظر إلى قلبه ويديه وأصابعه، ومن هنا كانت أمانة الكلمة المكتوبة عظيمة، ومراقبة مَن علّم بالقلم مطلوبة، والمادة المنتقاة بإتقان ضرورية، وكلماتنا مصيرية تحدد مصير ما نكتب أيُحسَب لنا أم علينا، لذا فينبغي لكل كاتب أن يبدأ بتصحيح نيته في كتاباته، وتجديدها كلّما صارت بالية أو أوشكت، وليتذكر أنّ عليه حين يضبط حروفه بالشكل المناسب أن يضبطها أوّلاً بالنية الخالصة، وكلّما سار بها في اتّجاه معاكس للقيم أو المبادئ فليتذكر صراط الله المستقيم ويثبت عليه ولا يتنكبه، حتى لا تزلّ قدمه على الصراط المنصوب فوق شفير جهنم.
– أنت مسؤول أمام الله:
ومهما كانت كتاباتك قليلة أو كثيرة، صغيرة أو كبيرة، فلابدّ لكل كلمة تكتبها من محاسبة ومراقبة وتصحيح وتوجيه وأمانة ومسؤولية؛ حتى تنضبط الحروف لك وتستقيم معك وتنعم بمصداقية الكلمات وتؤدِّي الغرض منها. وإذا كان التلفظ بالكلام بألسنتنا لابدّ فيه من التوقُّف والتفكُّر قبل النطق به؛ فمن باب أَوْلى التلفظ به بأيدينا كتابة على أوراق الكتب والقصص والمجلات وفي الصحف والسيناريوهات أوْلى وأهم؛ لبُعد مدى وصوله إلى مختلف الفئات خارج الحدود الجغرافية؛ نظراً للطفرة التكنولوجية التي سادت معظم البلاد، وكذلك ما يكتب في غرف المحاكم المغلقة من تقارير سرية وما يدوّن في دور القضاء من أحكام، وعلى أوراق الشهادات المختلفة وفي دور الإفتاء، وما يكتب من مناهج التعليم وما يُنشر مكتوباً على شاشات الإنترنت والمنتديات بشتى اللغات، وما يخطه بعض الفتيان والفتيات من رسائل الحب وكلمات الغرام بعيداً عن دائرة الزواج الشرعي، كل ذلك يكون الكاتب عنه مسؤولاً أمام الله عزّ وجلّ، كما قال النبي (ص): "ما منكم من أحد إلا ويسأله الله ربّ العالمين ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان".
– الكُتّاب:
وحروف الكلمات التي نكتب منها غاية في الإعجاز الإلهي، وسبحان من "خلق الإنسان، وعلّمه البيان"، ولا يعني تنوّع الحروف وتنوّع الكتاب والمؤلِّفين إلا إثراء الساحة بالعلوم المختلفة والآراء البنّاءة، التي تُصلح من شأن البلاد والعباد، وليس لك الحرِّية المطلقة أن تكتب ما شئت وتدوّن كل رأي دون ضوابط أو شروط، فلكل عمل قواعده ولكل مهنة أصولها المتبعة التي تمنعها من الانحراف عن المنهج الوسط، وتحفظها من الانجراف إلى السيل المدمر للمبادئ والأخلاق والقيم، ومن احتج بحرِّية الرأي فقد جار وظلم، فلحرِّية حدودها، وليس من الحرِّية مثلاً أن تستخدم قلمك في طعن إخوانك أو التشهير بهم أو هتك عوراتهم، وليس من العدالة أن ننشغل بعيوب الناس ونفتش عنها ونعرض لها الحلول ونترك عيوبنا دون دواء، وليس من الحرِّية كتابة ما يسيء لدين الله او الطعن في أنبيائه أو الاستهزاء بهم، وليس من الحرِّية أن تسن قلمك على مَنْ يخالفك رأياً أو فكراً لتنتصر لنفسك، لا لأن تظهر الحق إن كنت عليه حقاً، ولا أن تنشر فكراً تعتنقه يخالف إجماع الأُمّة وتخطّئ أو تفكّر مَنْ يخالفك فيه، وليس من الحرِّية أن تسلط قلمك سيفاً على رقاب مَنْ يلتزم أوامر الله فتسميهم أصولين
ومتطرفين ومخربين دون دليل منك أو بيّنة، وليس منها أن تشن الهجمات الساخنة على الحجاب والمحجبات، فهذا أمر لم يوكل لبشر، أو اتهام النقاب والمنقبات دون احترام لخصوصيات الناس ومشاعرهم.. ألا إنّ الحرِّية الحقيقة من كل إنّ الحرِّية الحقيقة من كل ذلك براء وهي في حل منه أمام الله عزّ وجلّ.
– ضوابط الكتابة:
الكتابة متعة حقيقية لا تقل شأناً عن القراءة، إلا أنّ القراءة هي البداية، وعندما تقرأ فأنت موصول بالكتاب مرتبط بما فيه، أمّا عندما تكتب فأنت تنطلق وتطلق لخيالك وفكرك العنان وتقدم للقارئ الخلاصة في مقال أو فكرة أو كتاب، لذا فإنّ للكتابة ضوابط لابدّ لك أن تلتزم بها، ولها آداب سامية يجب معرفتها والتأدب بها… ومن هذه الضوابط:
– إخلاص النية لله تعالى في كلُّ ما تكتب واتباع سبيل المؤمنين.
– أن يكون القرآن والسنّة هما الأصل في كتابتك والمنبع الأساسي لمادتك.
– المنهجية في الكتابة والحفاظ على ملكية الكلمة وإلحاقها بأصحابها.
– اتباع منهج الوسطية في الكتابة دون إفراط أو تفريط، وحاول أن تربط القارئ بربه مهما كان حديثك ومادتك.
– النظر إلى واقعنا المعاصر ومعرفة قضايانا المهمة والكتابة فيها بحياد وإنصاف وموضوعية.
– الصدق في كتابة أي خبر أو حدث وأخذ المعلومة من أصحابها أو من مصدر موثوق لا يدلس ولا يكذب.
– الحذر من الكتابة بطريقة افتعال الضجات الإعلامية التي يكون الغرض من ورائها التسويق للصحيفة أو الكتاب.
– التخصص في الكتابة في المجال الذي تتقنه ولا تخض في كل وادٍ وشِعْب مع الخائضين دون علم ومعرفة.
– لا تستخدم الكتابة كوسيلة لبث العداوة والبغضاء بين الناس، أو التشهير بهم أو التعرُّض لحرماتهم ولا تأخذ الناس بالظن والشبهة.
– الحيادية التامّة في طرح الأفكار ومناقشتها، ولا بأس بعد ذلك بيان رأيك دون أن تفرضه على القارئ.
– لا تتعصب لرأي أو مذهب معيّن؛ فالتعصّب مذموم وكن قدوة طيِّبة واعمل بما تدعو إليه من خير.
– احرص في كتاباتك على وحدة الأُمّة والتئام الصف، ولا تستخدم الكتابة كوسيلة لمهاجمة مخالفيك بالسبّ والشتم واللعن، بل اصنع منها جداراً من الحوار البنّاء الهادف.
– استخدام الكتابة كوسيلة للدفاع عن قضايا أُمَّتك المعاصرة، والذبّ عن الإسلام، وكأداة لرفع الظلم ونصر المظلوم، وكوسيلة من وسائل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ.
– خاطبْ الناس بما يفهمونه واعرف لمَن تكتب تنجح في إيصال رسالتك إليهم، فما يُكتب للكبار لا يصلح للأطفال، وهكذا فلكل مقام مقال كما يقولون.
– لا تستخدم نعمة الكتابة في إثارة الشهوات وتعرية الناس من الحياء؛ فتنشر الرذيلة وتقتل الفضيلة وتبوء بإثم ذلك أمام الله.
– هناك موضوعات تكون الكتابة فيها أَوْلى من غيرها في بعض الأحوال؛ فانتبه لذلك واتبع فقه الأولويات عند اختيار موضوعك الذي تكتبه.
* كلمة لابدّ منها:
وأخيراً.. إنّ الكتابة نعمة عظيمة، وهي نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، وهو الجهاد بالقلم والكلمة، فأخلص لها نيَّتك، وتسلح بالعلم والمعرفة، وتفقّه في دينك، وتعلم علوم عصرك واكب تطوّره وارتقِ بنفسك وطوِّر من ذاتك، واترك بصمتك بعد ذلك واضحة على ما تكتب، ولا تغتر بهذه النعمة، بل حافظ عليها بحسن استخدامها حتى لا ينتزعها الله منك ويهبها غيرَك ممن يستحقها، وتذكر دائماً أنّ الكلمة أمانة.. فانظر ماذا تكتب، واعلم أنّ "الدال على الخير كفاعله"، وأن "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً؛ ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".