الكاتب: د. سلمان بن فهد العودة
الاحد 21 صفر 1443الموافق 15 يناير 2022
(يا كاهن الحي.. طال النوى..
كلما هلّ نجمٌ ثنينا رقاب المطي..
لتقرأ يا كاهن الحي..
فرتّل علينا.. هزيعاً من الليل والوطن المنتظر!)
.. كانت هذه حروف "الثبيتي" حول كاهن الحي، وأوراقه التي طمرتها ظلمة الجهل.. فهل في المدينة أي مدى ليعرف الإنسان من فطرته وروحه ودينه ما لا يعرفه الكاهن من غيّه؟
هل يسعفك خيالك لتقرأ ما وراء الأشياء؟
إنها متعة جديدة، محاولة عامرة بالإثارة، أن نتأمل كيف يكون الناس في خلواتهم أو أثناء جلساتهم العملية لتأدية واجب، أو قضاء حق، أو لتحقيق ما يسمونه هم إنجازاً أو إبداعاً، وربما كان لغيرهم فيه رأي آخر!
عادة شهرية، وأخرى أسبوعية تحتم عليَّ أن أُجهز مقالاً لصحيفة أو موقع، وفي كل مرة يأخذني القلق.. عن أي موضوع سأتحدث؟ وكيف ستكون البداية؟ ما الأفكار الجديدة التي لم يسبق لي طرحها؟ ما القصص والطرائف؟ ما النصوص الشرعية؟ ما الأشعار؟
هذه المرة فرضت عليَّ المعاناة أن أكتب عنها هي وأكاشف نفسي وآخرين هم جزء من نفسي أو أنا جزء من أنفسهم حيالها!
سؤال ظلَّ يراودني منذ أمسكت القلم:
هل سأكون شاعراً كالمتنبي أو البحتري أو أبو ريشة أو شوقي؟
هل سأرى ديواني يوماً في يد فتى أو في شنطة فتاة؟
هل سأقرأ اسمي مكتوباً بالخط الفارسي الجميل على طرَّة كتاب؟
هل سأجده مصفوفاً على الرف في مكتبة شهيرة، وأرصد اسمه في سجل الفهارس؟
وماذا سيكون اسم ذلك الديوان؟
لكن ما معنى أن تشتغل باسم المولود وأنت لم تتزوج بَعدْ؟
أم الكتابة المترسّلة أفضل، فالشعر لا يواتيك على كل حال، هي هبات ونفحات تنساق لها، ثم تنصرف عنك وكأنها لم تعرفك يوماً..
فلتكن إذاً كاتباً كالعقاد أو الرافعي أو المنفلوطي أو الطنطاوي، أو المحليين كحمزة شحاتة، وزيد بن فياض، وحمد القاضي.. ممن تقرأ لهم في المجلات والصحف!
أم تراني سأكون شيئاً آخر؟ ولعلّي لا أكون شيئاً البتة، فلست أجد في نفسي شيئاً مما أراه في إبداعهم!
أَنا لَستُ أَدْري هَلْ سَتُذْكَرُ قِصَّتي … أَمْ سَوْفَ يَعْرُوها دُجَى النِّسْيانِ؟
أمْ أنَّني سَأَكونُ في تارِيخِنا … مُتآمِراً أَمْ هَـادِمَ الأَوْثـانِ؟
حين أقرأ الآخرين أجد المعلومة والفكرة والبيت الشارد والأسلوب والإثارة..
فأين أنا من هذا؟
طالما عللت نفسي من هذه الذاكرة المخرقة بأنها أيضاً عصيَّة على الأضغان، موصدة في وجه تيارات الحزن، سريعة العزوف عن استحضار إساءات مقصودة أو غير مقصودة..
طالما قلت لنفسي: كثيرون يحصلون على معلومات في أرشيفهم المعرفي، أما أنت فتحصل على تراكم لغوي وفكري خفي في مخزونك اللاواعي، وإلى جواره المزيد من قيم الحياة الجميلة التي تنطبع بها وإن كنت لا تحسّها!
هل سأظل طيلة عمري قارئاً لا أملّ الحرف على تزاحم الأعمال والصلات والعلاقات الاجتماعية، فالكتابة نزف.. وما لم تضخ في وريدك دماً جديداً فسوف يتوقف قلبك عن النبض.. فالمعرفة مثل الروح تتجدد كلما غذاها الإنسان..
كان بعض الفلاسفة يرى أن مهمة المفكر في الحياة أن يصارع أفكاره كل مرة ليتجاوزها ويطورها ويعرف ما هو أهم منها وأكبر.. يصارع معارفه لأجل معارف أكثر.. ويناقش مسائله ليرى مسائل أخرى وراءها.. ويلوم ذاته ليرى مشاكل الفكرة.. وهذه هي النفس اللوامة التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة:2).
ما معنى أن تكتب حين يعزف الناس عن القراءة، أيّ قيمة لحديقة غنَّاء وارفة الظلال لا يستمتع بجمالها أحد، ولا تتملى خضرتها عين؟!
الحرف يذبل حين لا تلتهمه العقول الجائعة، كما يذبل الغصن الطيب حين يجف حوضه.
مادة التعبير أو الإنشاء محببة، لكن يبدو جيداً أن أستاذها هو ذاك الذي لا يحسن شيئاً آخر ليقدمه للطلاب، أو هو ضعيف الشخصية لا يسيطر على الجو!
هي لا تحتاج إلى مذاكرة، ولا رسوب ولا نجاح، حصة واحدة في الأسبوع.. لا بأس فأنا أحبها وأؤدي واجبها أفضل ما يكون!
مادة الخط الجميلة تستهويني.. الحروف هي أشكال جمالية، بل مخلوقات حيّة نابضة، لكن ما بال خطي غير مستقر، فهو يمنحني ثناء الأساتذة، ولكني غير راضٍ عنه، لأنه يتأثر بحالتي النفسية واستعجالي، وأعتقد أن خبراء الخط وقارئي الشخصية عبر الكتابة سيجدون إشكالاً في تفكيكه!
مادة الإملاء مملّة ولكنها ضرورية، لا أريد أن ينتقدني الآخرون على همزة فوق السطر أو على نبرة أو على واو..
في كتاب الإملاء أبيات يحلو حفظها على شاكلة:
إِذا خَانَ الأمينُ وكاتباهُ … وقاضِي الأَرْض داهَنَ في القَضاءِ
فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلُ … لِقاضِي الأَرْضِ منْ قَاضِي السَّماءِ!
أما النحو فمادة ممتعة بحصونها وأسوارها وبعض تعقيدها، أحتاجها بقدر ما يضبط نطقي وحرفي، ولا أتطلع لما وراء ذلك من محاكمة البصريين والكوفيين.. وأحفظ شواهدها الشعرية خاصة حين تلاقي معنى جميلاً انطوى عليه.. على شاكلة:
يا صاحِبيّ فَدت نفسي نفوسكما … ولا تحملتما ما عشتما كمداً
إِن تقضيا حاجةً لي خفّ مَحملها … تَستوجبا منّةً عندي بها وَيدا
أَن تقرآن عَلى أسماء وَيحكما … منّي السَلام وَأَن لا تشعرا أَحدا!
أم لعلّي أصبح خطيباً يهزّ أعود المنابر، ويراقب الناس لحنه اللغوي ليكون مادة حديثهم بعد الخطبة!
ها هم الخطباء والوعاظ يستهوون الأسماع، ويتصدرون المجالس، وربما كان لدي ما أقوله.
المهم الفكرة.. كيف تحصل عليها؟ وكيف تسوّقها؟
أما الأداة فدعها للأيام، واجعل خياراتك مفتوحة، ربما لم تُحْكِم تجربتك، ولم تكتشف موهبتك جيداً حتى الآن، أو لعلك تغدو مزيجاً من هذا أو ذاك، لا تضع في رأسك نمطاً واحداً تريد أن تكونه!
هل تحلم أن تكون (نسيج وحدك) كما يقال؟ ما أسهل الحلم!
مخاض الفكرة عسير ربما أجاءك إلى جذع نخلة تستظل بها وتهزها لتستجمع طاقتك الإبداعية، أو لتتساقط عليك أفكارها الجَنيَّة!
وربما كانت ولادة قيصرية متعسرة لحرف مكسور ولد وفي فمه بعض ماء، أو سحبه الطبيب من رجله فأصابه بالعرج!
ربما هرعت إليك الفكرة كالظبي أو كالقصيدة دون أن تقدح زنادها أو تومئ إليها.. فأهدتك عمرها وألقت نفسها بين يديك بغنج ودلال!
أو نفرت وتمنَّعت حتى أورثتك شكاً في كفاءتك وجاهزيتك واستحقاقك!
قد تلقاها على حين غفلة في ناصية الشارع، أو على عتبة أحد الأبواب (المغلقة)، أو كانت تستقبلك عند بوابة أحد المطارات!
أحياناً تتزاحم لديك الأفكار.. فتحار!
وهكذا هي المعاني كما يسمي الجاحظ مبذولة في الطرقات وميسورة موجودة في الجلوات .. وإنما الشأن في نظم عقدها وكتابة معناها.
ولا غرابة أن تجد نفسك حيناً آخر تلملم شتات فكرك فلا تحصل على ما يستحق أن يمتشق لأجله القلم!
قليلاً ما أجدني أكتب في صومعة..
فالحرف يطاوعني أكثر حين يجدني محاطاً بضجيج الصغار، وسواليف البنات، وطرقات المواعيد المنتظرة، ورنات الهاتف الجوال، وتجهيزات السفر، أو يواتيني حين تهتف ربة المنزل "تعال بَرَدَ العشاء، يا رب لا تشغلنا إلا بخير!".
ملامسة الفكرة هل هي ساعة ميلاد أم ساعة احتضار؟ أم هي مزيج من هذا وذاك؟ ولم لا يجتمعان؟ ميلاد الفكرة وفاة اللحظة!.
هل هي ساعة تلبس يداخلك فيه المارد، أو حالة انفصال يغادرك منطلقاً مع فكرتك الجديدة؟
بعد ميلاد الفكرة وتمثّلها في حروف من لحمٍ ودمٍ أنظر في ملامحها وأتأمل تفصيلاتها وقسماتها وأتساءل:
– هل تشبهني؟
القارئ يعتقد أنها أنا!
والحق أنها كائن مستقل فيه مني شيء ومن غيري أشياء، إنها (أَمْشَاج).
أما الشَّبَه فيقترب أو يبتعد، وتحار العيون في تحديد نسبة الشَّبَه وموضعه!
كل متأمل له حكمه الخاص.
– هذا لا يشبهك بالمرة، لعله «نَزَعَهُ عِرْقٌ»!
– عيناه كعينيك، وروحه كروحك، وفيه من غيرك ملامح وشيات!
– سبحان الله.. كأنه ولد فلان!
قد يكتب المرء بلسانه، أو يخطب بقلمه، وحين يكون قلبك على لسانك وقلمك فأنت بخير (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18)
قال عليّ: "الملك يكتب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وهو على شدقيك، وأعضاؤك قرطاسه، وأنت المملي".
– رضعت الحب من حنان الأبوين.
– والحياة علمتني الحب.
– والحب علمني الكتابة.
– «وتويتر» علمني أن أكون خطيباً يعدّ حروفه، متأسياً بقول عليَّ: "إذا تمَّ العقل نقص الكلام".