آاااه كم أعشقك أيها المطر
المطر بالنسبة لي طقس من طقوس العشق اترقبه كل عام بفرح طفولي لاحتفل به ومعه، لقد كان يلذ لي ان اشهد هذا العناق الازلي الندي بين السماء والارض وافتح رئتي لاستنشق الرائحة المنبعثة من نشوة التراب المحتفل بالنقطة الاولى.. يرقص المطر ابتهاجا بزغرودة الارض وهي تتعطر بحناء التراب الذي لا تضاهيه عطور الدنيا..
صرخة الاطفال تبشر بقدوم المطر………. اعادت لي صورا قديمة كأنها حدثت بالامس القريب.
انها نفس الصرخة التي اطلقتها مع رفيقاتي ونحن في الطريق الموصل بين البيت والمدرسة بعد يوم مثقل بالدراسة وقد داهمنا المطر بغزارة..
تذكرت فرحتي الغامرة وانا افتح فمي بشقاوة مرحة احاول التقاط القطرات المنهمرة لاشرب ماء السماء، ارقص ضفيرتي المبتلة بالماء على ظهري مع تواتر الاقدام الصغيرة التي تغطس في البرك المائية مستمتعة بالطرطشة. وببقع الطين ترتشم على جواربي البيضاء. اترك الماء يأخذ ابعاده ليغسلني مع الشجر والحجر.. انه يوم النظافة.. انا لا اتحاشى المطر، وكيف اهرب منه وهو هدية السماء للأرض والإنسان….. فلم لا ارحب بحامل الخير هذا على طريقتي، واحاول التعلق بحباله اللؤلؤية كي نتحد معا.
اصل البيت والدم يكاد يقفز من وجنتي المحمرتين من البرد والبلل، والفرحة تلمع في عيني.. انه يوم ماطر. يستعجلني حنان جدتي وقد حضرت لي حماما ساخنا كي تخرج البرد من جسدي الغض خوفا من نزلة تستحكم بمغامرات طفله بريئة تحت المطر.. تسخن المناشف على نار المدفأة وتلف بها راسي اتكور قرب المدفأة كقطة هاربة من البلل لاستمع الى حوار النار مع الزيت يغنيان معا اغنية الدفء.. تفوح رائحة قشر البرتقال المرمي فوق سطح المدفأة ممزوجا برائحة الكستناء المشوية، تتعاون رائحة الدفء الثقيل لتجلب لي نعاس العصافير فاغفو كما الملائكة. تمسح على رأسي وتتمتم الترنيمة التي طالما سرت بروحي:
نم ان قلبي فوق مهدك كلما ذكر الهدى صلى عليك وسلما
نم فالملائك عينها يقظى فذا يرعاك متبسما وذا مترنما
تنحسر ايام الطفولة امام هجمة الصباح، ويبقى المطر هو هو لكن نغمته تتغير، فهو بالنسبة للشباب وردة الحب التي تسقى بعسل الكلام، بتشابك الايدي المهربة من لسع البرد، باختلاس النظرات عبر المظلات التي يختفي وراءها العشاق عن اعين الفضوليين، بالاستمتاع بنغمة قطرة الماء وهي تتراقص على اسفلت الشارع تائهة بين «الدبكة» و«التانجو»..
المطر معزوفتي المفضلة اغنيه بأكثر من لغة،اسير تحته غير آبهة ان كان رذاذا ام وابلا، اتحاشى البرك المائية بل اسير على رؤوس اقدامي كراقصة باليه اولست صبية؟!
المطر والصبا يلتقيان في التمرد والطيش في الصخب والجنون في التغير والتغيير.. في حنوه عطاء وفي غضبه سحق وغرق كما الحب في الصبا…..
تتبعثر العواطف كرذاذ المطر المتطاير لا تعرف اين تستقر افي العيون ام في الافئدة؟؟ انه الصبا. انه المطر المنهمر بغزارة، ذلك الذي يؤطر لوحاته الطبيعية بلوحات انسانية تعزف على وتر واحد الحب والمحبة.
طالت الوقفة مع المطر، وتكاثف الغباش على زجاج نافذتي فغابت الرؤيا مع الذكرى ولم يبق من صورة المطر الا نقراته التي تذكرني بحضوره وهاهي لسعة برد تخترق عظامي وتامرني ان احتمي بدفء ما، ولكن قبل ان الوذ ببرودة الدفء ساكتب باصبعي على غباش زجاج النافذة:
اريد عمرا جديدا اكون فيه انا المطر
انا المرأة الصلة بين الارض والسماء.
ولا اريد ان اكون تلك الارض الام التي تعطي وتعطي
وفي النهاية تدوسها الاقدام..
http://www.filesmall.com/34F0C7959/download.html