تشاء المصادفة وحدها أن أقع بين مقتنياتي على عدد قديم من مجلة الآداب يعود تاريخه الى نيسان (أبريل) عام 1962 لأقرأ فيه مقالة مطوّلة لنازك الملائكة عنوانها «قصيدة النثر» قرأتها بإمعان، وقد شعرت بابتسامة أسى وكآبة تشيع في كياني وأنا أتابع ما كتبته تلك الشاعرة المعروفة جداً كرائدة في الشعر الحديث كيف أن حماستها في هجومها على قصيدة النثر كانت حماسة صادقة ولكن الزمن لم يكن في صالحها. ولكي تشعروا شعوري لا بأس أن أنقل اليكم مقطعاً من مطلع المقالة:
«شاعت في الجو الأدبي في لبنان بدعة غريبة في السنوات العشر الماضية، فأصبحت فيه بعض المطابع تصدر كتباً تضم بين دفاتها نثراً طبيعياً مثل أي نثر آخر، غير أنها تكتب على أغلفتها كلمة (شعر) ويفتح القارئ تلك الكتب متوهماً، أنه سيجد فيها قصائد مثل القصائد، فيها الوزن والايقاع والقافية، غير أنه لا يجد من ذلك شيئاً. وإنما يطالعه نثر اعتيادي مما يقرأ في كتب النثر. وسرعان ما يلاحظ أن الكتاب خلو من أي أثر للشعر، فليس فيه لا بيت ولا شطر ولا قافية… وإذن لماذا كتبوا على الغلاف أنه شعر؟ تراهم يجهلون حدود الشعر؟.. الخ..».
مرّ على هذا الكلام ما يقارب الخمسين عاماً فماذا بقي منه؟ لقد أثبت الزمن – على الأقل – أن التغيير قانون يسري على الظواهر البشرية لم ينج منه الشعر «ديوان العرب» ففي أقل من نصف قرن تراجعت جاذبية الشعر العمودي الى درجة جد متواضعة، ثم لحقتها جاذبية شعر التفعيلة وبخاصة لدى الاجيال الصاعدة، وحلّت مكانها بما يشبه السيادة المطلقة ظاهرة «قصيدة النثر» ومن يتابع المشهد الشعري العربي عموماً لا بد أن يلاحظ أولاً ضآلة الاقبال على حضور الامسيات الشعرية واقتناء دواوين الشعر الصادرة مقابل انتشار نماذج قصيدة النثر بشكل طاغ على وسائل النشر المختلفة مما يدفع الى الاعتقاد أن الشعر العمودي والتفعيلة، في الخمسين سنة المقبلة سوف ينقرض من على منابرنا شوفي صحفنا ومدوّناتنا الالكترونية ودور نشرنا وقد لا نجد من يترحّم عليه سوى أصحاب الذاكرة الحافظة. لا أقول هذا ساخراً أو شامتاً فأنا لا أزال أنتمي الى طائفة الشعراء المغرمين بالايقاع الموسيقي، وأحاول جهدي أن أحدّ من طغيان التغيير الذي لا يرحم، أو التغيير المأخوذ بمزايدات الحداثة الشكلانية، مؤمناً بأن البشر لا يمكن أن يتغيروا الى درجة فقدان سحنتهم البشرية وغرائزهم الانسانية وفطرتهم الجمالية فقداناً مطلقاً. إنني أؤمن بالتغيير فعلاً وأعمل له، وأعني التغيير العقلاني البطيء والمستمر، لا التغيير «الثوري» الذي يشبه التدمير الناشئ عن الزلازل الخارقة.
ما من شك في أن نازك الملائكة قد أخطأت منذ مطلع مقالتها خطأ لافتاً حين قالت: «فأصبحت المطابع تصدر كتباً تضم بين دفاتها نثراً طبيعياً مثل أي نثر آخر..» هذا كلام غير مقبول، ومن الغريب حقاً أن يصدر عن إنسان مثقف مثل «نازك..» فالنثر الذي قدمه «أنسي الحاج» مثلاً و «محمد الماغوط» لا يشبه أي نثر آخر – كما تقول نازك – وهنا لا بد من الاعتراف أن نازك قد غاب عنها أو أنها تجاهلته عمداً أن للنثر الفني في تاريخنا الأدبي أنماطاً وأجناساً متنوعة بين الخطابة والترسل والانشاء الوجداني وغيرها من أصناف لا يمكن حسبانها في خانة نثر السِيَر الشعبية مثلاً أو كتب التاريخ والطب وكلها مكتوبة نثراً بالطبع. كان على نازك إذن منذ البداية أن تقدم هذه الملاحظة في حكمها على ما قرأته – كما قالت – للماغوط ورفاقه كي لا يفوتها الحفاظ على سلامة ميزانها في محاكمة التحولات الأدبية عامة. لقد قدم هؤلاء – أي جماعة «شعر» – بشكل خاص نماذج نثرية تختلف بالتأكيد حتى عن النماذج النثرية التي قدمها جبران والرافعي والريحاني والتي يمكن وضعها في حساب قصيدة النثر، واستطاعوا فعلاً ان يجذبوا اليهم القراء من مختلف المستويات والأعمار ولم يكن نجاحهم هذا مردّه الى طغيان ظاهرة التأثر بالأدب الغربي الحديث فقط وهو تأثر لا نكران في حضوره بل لا بد من الاشارة الى طبيعة الجمود الذي أصاب المجتمعات العربية عموماً لمئات السنين وما تركه الضياع والتخلف والتعصب والجمود من عادات سيئة وتقاليد بالية وحالات متردية من المركبات النفسية ولهذا السبب حين داهمتنا صدمة الحداثة الغربية وجدت في بيئتنا من شجعها وروّج لها كرد فعل على حالة الضيق والملل الجاثمة على أنفاسنا منذ قرون بشكل انجراف حماسي نحو الثقافة الغربية.
لقد داهمنا إذن تيار التغيير كسيل جارف لا كنهر رقراق، ولم يكن ممكناً تفاديه، وهذا ما يفسّر الانقسامات المتعصبة التي نشأت حول هذه الصدمة. ومن المؤكد أن الزمن الذي مرّ حتى الآن كاف للتخفيف من حدة التعصب الخلافي حول قصيدة النثر. فما عسانا نقول الآن وهل يكفي الاعتراف بالصعوبات أم هناك كلام آخر؟
حسناً.. لقد انتصرت قصيدة النثر وها أنذا أصفّق لها معترفاً بأهمية انتصارها، ومدافعاً عنها بالرغم من أنني لا أكتبها، ولكنني أحب قراءة النماذج الجيدة منها أكثر من حبي لأي نموذج شعري آخر.
لقد استطاعت هذه النماذج الجيدة أن تخترق لأول مرة في تاريخنا الذائقة الجمالية السائدة منذ قرون، كما حدث في فنون الموسيقى والرسم والمسرح والنحت وغيرها وأن تخلق ما يمكن تسميته استعداداً نفسياً وثقافياً صالحاً لترشيحنا كأعضاء في نادي التقدم العالمي. إننا نتغير الآن ونتطور، وندق بقوة على الباب المغلق للتقدم المعاصر والمشاركة الفعلية في صنع التاريخ الحديث على صعيد الفنون وحدها تحديداً، في حين لا نزال خارج العصر على الصعيد العلمي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهي مفارقة لا يمكن تجاهلها في مناقشة أية ظاهرة ثقافية لدينا ونعني الحضور – نسبياً – في ميدان الابداع الفني والغياب التام في ميادين التقدم العلمي والصناعي والسياسي. إننا نحاول اختراق الباب المغلق كشعراء ورسامين وروائيين وموسيقيين وننجح في ذلك أحياناً غير أننا لا نزال عاجزين تماماً عن اختراقه كمهندسين وأطباء ومخترعين وبحاثة.
هذه الملاحظة هامة جيداً في دفعنا للتفكير في نوعية الاختراق الحاصل من قِبَلنا على صعيد قصيدة النثر وغيرها من الفنون ومحاكمته من خلال الانتباه الى المفارقة الكبرى التي تميز الفنانين عموماً في المجتمعات الغربية المتقدمة والمتأثرين بها طبعاً عن الفنانين العرب أنهم هناك لا يشعرون بهذه الهوّة السحيقة التي نشعر بها نحن والتي تفصلنا عن عالم التقدم والابداع العلمي والصناعي.
من هنا في تصورنا تنجم العيوب الأساسية في ظاهرة قصيدة النثر – والفنون الأخرى – أي من هذا الشعور بالاغتراب الذي يبهظ روح الفنانين العرب إذ يشعرون أنهم يبدعون في بيئة لا تعترف بهم ولا يعترفون بها بدورهم. وهذا ما يفسر هذه العداوة العجيبة التي تصل الى حد الاحتقار – لكل ما هو عربي أحياناً – والتي يتصرف من خلالها بعض الشعراء والمحدثين حيال بيئتهم، وهذا ما يفسر بالتالي غلوّ بعض من هؤلاء وبخاصة الشباب منهم الى نثر نماذج من قصيدة النثر لا علاقة لها بأي منطق فني أو ذائقة جمالية مما شجع آخرين من فقراء المواهب على أن «يطحشوا» بدورهم في ارتكاب سخافات يسمونها شعراً ينتمي الى قصيدة النثر، في حين تتبرأ منهم هذه القصيدة، بل يتبرأ منهم الفن كله.
ليس وارداً هنا أن أقدّم شواهد من هذه السخافات حتى لا أتهم بالتشهير، أو كي أثير عشاً للدبابير في وجهي، ولكن يكفي أن أدعو كل من يشكك في أحكامي هذه الى متابعة الصحف والمجلات العربية – من المحيط الى الخليج – ويقرأ بعض الصفحات مما تقذفه مطابع هذه الأيام من هُراء يسمونه شعراً كي تأخذه الكظة والغمّة والكآبة مما يقرأ، فهل نتغاضى عن هذه التجاوزات باسم التسامح والرفق و «طولة البال» أم نحاول الحد من غلوائها؟
لا شك أن نازك الملائكة كانت مخطئة في كثير من تحليلاتها وأحكامها ولكنها بالتأكيد لم تكن مخطئة في بعض تخوفاتها وقد تحقق بعضها فعلاً، غير أن المشكلة في اعتقادنا أكبر بكثير مما نحسب أننا قادرون عليه في الحد من طغيان ظاهرة المبالغة واللامبالاة أو الجهل وتفشي معايبها. إننا في مواجهة معقدة تشمل العصر بأكمله وهذه المعايب التي تشير اليها – وهي بحاجة وحدها الى كتاب مستقل – لم ينج من بعضها على الأقل حتى العالم الصناعي المتقدم المصاب – كما يقول بعض الباحثين الأجانب – بلوثة التغيير أو هَوَس التغيير المتسارع.
مصيبتهم هناك في هذا الأمر غير مصيبتنا ولهم وحدهم أن يعالجوها، أما نحن فما من شك أن مصيبتنا مختلفة. إنها مصيبة التخلف نفسه، في حين أن مصيبتهم هي مصيبة التقدم نفسه، فكل شيء حين يزيد عن حده ينقلب الى ضده.
يبدو أن الحل لا بد أن يبدأ من عند هذه الملاحظة وهي ضرورة الوقوف في وجه قانون التغيير من ان يغدو لوثة أو هَوَساً معدياً. ومبدأ هذا الموقف يقتضي بالطبع وضع ظاهرة الحداثة بأكملها على طاولة التحليل والتشريح آخذين بعين الاعتبار تحليل منشأة الظاهرة متأثرة بالبيئة التي نشأت فيها وما مدى التأثر السليم بالبيئات الأخرى كعملية مثاقفة لا غنى عنها في عصر تقارب الثقافات.
ليست قصيدة النثر وحدها في خطر بل الشعر كله كفن إنساني حميم، ولا شيء يحد من هذا الخطر في تصورنا مثل انفتاح أقطار المعمورة بعضها على بعض في ظل نظام ديموقراطي حقيقي للعلمنة لا سيادة فيه لأحد على غيره، وما نعنيه هنا بالضبط في شأن الشعر بالذات هو الانفتاح الثقافي للعالم كله بعضه على بعض دونما حواجز أو جمارك، وهذا الانفتاح المطلق الشامل في تصورنا هو المناخ الأكمل والأوحد لأية بداية سليمة للعقل البشري المصاب بلوثة التغيير المتسارع، أو بمرض التخلف والجمود… من هنا يجب أن يبدأ التغيير لأية ظاهرة – فنية على الأخص – وما قصيدة النثر إلا ظاهرة غير مطلقة الكمال بالتأكيد، ولا يدعي الكمال إلا المهووسون والمتعصبون
اختيار موفق
بانتظار جديدك