بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النذر: أنواعه وأحكامه
الحمد لله الرؤوف الرحيم، غافر الذنب، وقابل التوب، والصلاة والسلام على رسول الله، المبعوث بالهدى والعلم.
فإنَّ الدين علم، والعلم بالدين واجب على أفراد أُمَّة الإسلام، والعلم منه ما هو واجب على الكفاية، إذا قام به واحد رُفع التكليف عن الآخرين، ومنه ما هو واجب عينًا، على كل مسلم بعينه، وفي هذا قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلم))[2].
ففريضة على كل مسلم؛ فرضٌ أنْ يتعلمَ ما تصح به عبادته، فلا يكتفي بالتقليد المحض، المفتقر للعلم، بل يجب عليه أن يعلم ويتعلم كيفيةَ كل عبادة واجبة عليه، وأنْ يعرف شروطَها، وأركانَها، وواجباتها، وسننها، وما يبطلها، وأن يعلم ويتعلم كلَّ معاملة يؤدِّيها، وما يتعلق بها من أمور شرعية تصح بها، كالبيع والشراء، وغير ذلك.
أمَّا التفقُّه في هذه الأمور، فهو فريضة على الكفاية، لا يتصدى لها إلاَّ أهل العلم المتخصِّصين؛ ليكونوا هم الأدلة، والموجهين لعامة المسلمين.
والناظر في أحوال المسلمين اليومَ يُدرك إلى أيِّ مَدًى صارتْ هذه الفريضة – فريضة العلم الشرعي – مهجورةً، سبحان الله!
ومن الأمور الحاصلة بين المسلمين: النذر، يقعون فيه ولا علم عند أكثرهم بما يفعل، وبما يَجب عليه إن فعل، وما كفارته إن لم يفعل، فعرضت للنذر بإيجاز مبينًا أنواعَه، وحكمَ كلٍّ منها، وأدلته.
النذر لغة: النَّذْرُ النَّحْبُ[3]، وهو ما يَنْذره الإنسان، فيجعله على نفسه نَحْبًا واجبًا، وجمعه نُذُور… وقال أَبو سعيد الضرير: إِنما قيل له: نَذْر؛ لأَنه نُذِرَ فيه؛ أَي: أَوجب، من قولِك: نَذَرتُ على نفسي؛ أَي: أَوْجبْت… وفي الحديث ذِكْرُ النَّذْرِ مُكرَّرًا؛ تقول: نذَرْتُ أَنذِرُ وأَنذُر نذْرًا، إِذا أَوجبتَ على نفسِك شيئًا تبَرُّعًا، مِن عبادة أَو صدقةٍ أَو غيرِ ذلك[4].
واصطلاحًا: هو أن يوجب المكلَّف على نفسه أمرًا لم يلزمه به الشارع[5].
والأصل في النَّذر: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع:
أمَّا الكتاب: فقول الله – تعالى -: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7]، وقال: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 29].
وأما السُّنَّة: فرَوَتْ عائشةُ قالت: "قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ))"[6].
وعن عمران بن حصين عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يَنذِرون ولا يفُون، ويخونون ولا يُؤتَمنون، ويشْهَدون ولا يُستَشْهدون، ويظهر فيهم السِّمَن))[7].
وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به[8].
وصيغة النذر أن يقول: لله عَلَيَّ أن أفعل كذا، وإن قال: عليَّ نذر كذا، لَزمَه أيضًا؛ لأنَّه صرح بلفظ النذر، وإن قال: إن شفاني الله، فعلي صوم شهر، كان نذرًا، وإن قال: لله عليَّ المشي إلى بيت الله، قال ابن عمر في الرجل يقول: علىَّ المشي إلى الكعبة لله، قال: هذا نذر فليمشِ… والله أعلم[9].
وقال الجزيري: ولا يشترط للنذر صيغة خاصَّة، فيلزم بكل لفظ دال على الالتزام، ولو لم يذكر فيه لفظ النذر، وقد اختلفوا في أنَّه يلزم بالنية، ولو لم يذكر لفظًا، أو لا يلزم، والمعتمد أنَّه لا يلزم إلا بلفظ، فلا يلزم بالنية وحدَها[10].
وشروط النذر تنقسم قسمين يتحَقَّق بمقتضاهما، وهما: شروط تتعلق بالناذر، وشروط تتعلق بالمنذور.
1- الإسلام، فلا يصح من كافر، ويندب له فعله بعد إسلامه.
2- الاختيار، فلا يصح من مُكرَه.
3- نافذ التصرف فيما ينذر، فلا يصح من الصبي والمجنون.
4- مكلفًا، فلا يصح من غير المكلف كالصبي.
5- النطق، فلا يصح بالإشارة إلاَّ من الأخرس إذا كانت إشارته مفهومة[11].
1- أن يكون قُربة[12] غير واجبة بغير النذر.
2- أن يكون المنذور عبادة مقصودة، فلا يصح النذر بما هو وسيلة؛ كالوضوء، والاغتسال، ومس المصحف، والأذان، وتشييع الجنازة، وعيادة المريض، وبناء المساجد وغير ذلك، فهذه الأمور وإن كانت قربة إلا أنَّها غير مقصودة لذاتِها، بل المقصود هو ما يترتب عليها[13].
3- أن يكون المنذور به متصورَ الوجود في نفسه شرعًا، فلا يصح النذر بما لا يتصور وجودُه شرعًا كمن قال: "لله عليَّ أن أصوم ليلاً"، أو قالت المرأة: "لله عَلَيَّ أن أصوم أيام حيضي"؛ لأنَّ الليل ليس محل الصوم، والحيض منافٍ له شرعًا؛ إذ الطهارة عن الحيض والنفاس شرطُ وجود الصوم الشرعي[14].
فالضابط الكلي في صحة النذر:
1- أن يكون المنذورُ عبادةً مقصودة من جنسها فرض[15].
2- ألا يكون المنذور معصية لذاته[16].
3- ألا يكون فرضًا عليه قبل النذر، فلو نذر حجةَ الإسلام، لم يلزمه شيء غيره[17].
4- ألا يكون ما التزمه أكثر مما يملكه، فلو نذر ألفًا، وهو لا يملك إلا مائة، يُلزم بالمائة فقط.
5- أن يكون ممكن الوقوع، فلو نذر مستحيلاً، كأن يصومَ أمس، فإنه لا يصح نذره.
6- ألا يكون ملكًا للغير[18].
قال ابن دقيق العيد: والنذور ثلاثة أقسام:
أحدها: ما عُلِّق على وجود نعمة، أو دفع نقمة، فَوُجِد ذلك، فيلزم الوفاء به.
والثاني: ما عُلِّق على شيء لقصد المنْع أو الحث؛ كقوله: إن دخلت الدار، فلله عَلَيَّ كذا، وقد اختلفوا فيه.
وللشافعي قولان: إنَّه مخير بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين، وهذا الذي يسمى "نذر اللجاج" والغضب.
والثالث: ما يُنذر من الطاعة من غير تعليق بشيء، كقوله: لله عَلَيَّ كذا، فالمشهور: وجوب الوفاء بذلك، وهذا الذي أردناه بقولنا: "النذر المطلق"، وأمَّا ما لم يُذكر مخرجه[19]، كقوله: لله علي نذر، هذا هو الذي يقول مالك: إنه يلزم فيه كفارة يمين[20].
2- نذر اللجاج [الغضب أو الخصام].
وفيما يلي بيان كل منها بالتَّفْصيل، وحكمه الخاص به:
1- النذر المُبْهَم: وهو الذي لم يُعيَّن فيه المنذور، كأن يقول: لله عليَّ نذر، أو: نذر لله عليَّ إن فعلت كذا، أو: إن لم أفعل كذا[21].
وسُمي كذلك؛ لأَنَّ الناذر أبهم نذره، فلم يُحدد فعلاً معينًا يفي به النذر، أو لم يُسمِّ نذره.
حكمه: قال ابن قُدامة في "العُدَّة": فيه كفَّارة يمين في قول أكثرهم[22].
لِمَا روى عصبة بن عامر قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كفَّارة النذر إذا لم يُسمِّ كفارة اليمين)) [23]؛ رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح وهذا نص، وهو قول جماعة من الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – ولا نعرف لهم في عصرهم مُخالفًا فكان إجماعًا[24].
وسواء كان الشرط الذي علق به هذا النذر مباحًا، أو معصية، بأن قال: إن صُمْت، أو صلَّيت، فللَّه عليَّ نذر، ويجب عليه أن يحنِّث نفسه، ويكفِّر عن يمينه؛ لقوله – عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ))[25].
ولو نوى في النذر المبهم صيامًا[26]، ولم ينوِ عددًا، فعليه صيام ثلاثة أيام، في المطلق للحال، وفي المُعلَّق إذا وجد الشرط.
وإن نوى طعامًا ولم ينوِ عددًا، فعليه طعامُ عشرة مساكين لكُلِّ مسكين نصف صاع من حنطة[27]؛ لأنَّه لو لم يكن له نِيَّة، لكان عليه كفارة اليمين؛ لِما ذكرنا أنَّ النذر المبهم يمين، وأن كفارته كفارة يمين، فلما نوى به الصيام، انصرف إلى صيام الكفَّارة، وهو صيام ثلاثة أيام، وانصرف الإطعام إلى طعام الكفَّارة، وهو إطعام عشرة مساكين.
ولو قال: لله علي صدقة[28]، فعليه نصف صاع.
ولو قال: لله علي صوم، فعليه صوم يوم.
ولو قال: لله عليَّ صلاة، فعليه ركعتان؛ لأنَّ ذلك أدنى ما ورد الأمر به، والنذر يُعَدُّ بالأمر، فإذا لم ينوِ شيئًا ينصرف إلى أدنى ما ورد به الأمر في الشرع.[29]
2- نذر اللجاج [الغضب أو الخصام]:
وهو الذي يخرج مخرج اليمين، للمنع من شيء، أو الحث عليه، كقوله: إن دخلت الدار فللَّه عليَّ الحج، أو صوم سنة، أو عتق عبدي، أو صدقة مالي، فهذا يمين[30].
وهو تعليق النذر بشرط، يقصد منه الناذر المنع من المعلَّق عليه، أو الحث عليه، أو التصديق عليه إن كان خبرًا [31].
وهو الخصام، فإنه يقع غالبًا حال المخاصمة والغضب، وينقسم ثلاثةَ أقسام:
أحدها: أن يقصد به المنع عن شيء، كقوله: إن كلمت فلانًا فلله عليَّ كذا، يريد بذلك منع نفسه من كلام فلان، ومثله ما أراد منع غيره، كقوله: إن فعل فلان كذا، فلله عليَّ كذا، يريد بذلك منعه عن عمل.
ثانيهما: أن يقصد به الحث على فعل أمر، كقوله لنفسه: إن لم أدخل الدار، فلله عليَّ كذا، أو حث غيره، كقوله: إن لم يفعل فلان كذا، فلله عليَّ كذا.
ثالثها: أن يقصد به تحقيق خبر من الأخبار، كقوله: إن لم يكن الأمر كما قلت، أو قال فلان، فلله علي كذا.[32]
حكمه: وحكم هذا النذر أنَّ الناذر مخيَّر بين كفَّارة اليمين، إذا وُجِد الشرط، وبين فعل المنذور[33].
وهو الذي يكون فيه المنذور أمرًا مباحًا؛ كالأكل، والشرب، والرُّكوب، والسفر، وغير ذلك من المباحات، فيقول الناذر فيه: لله عليَّ أن ألبس ثوبي، أو أركب دابتي.
حكمه: وحكم هذا أن الناذر مُخيَّر بين فعل المنذور وكفارة اليمين، فنذر المباح كالحلف بفعله، فإنَّه إذا حلف أنَّه يأكل أو يشرب، فإنه يكفِّر أو يفعل[34].
وإذا وجبت الكفارة في المعصية، ففي المباح أولى، وإن وفَّى به أجزأه؛ لِمَا رُوِي أنَّ امرأةً قالت: يا رسولَ الله، إنِّي نذرت أنْ أضرب على رأسك بالدف، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَوْفِي بِنَذْرِكِ))؛ رواه سعيد بن منصور[35].
أي: أن يكون المنذور مما ثبتت كراهته شرعًا، كأكلِ الثَّوم والبصل، وترك السنَّة، ونحو ذلك.
حكمه: وحكم هذا أنه يُستحب للناذر أن يكفِّر كفارة اليمين، فإذا فعل المكروه، فلا كفارةَ عليه؛ لأنَّه وفَّى بنذره [36].
5- نذر المعصية [المحرَّم]:
وهو أن يقصد به الناذر فعلَ معصية، كشرب الخمر، أو الطَّواف بالأضرحة، أو السرقة، أو قطع رحمِه، وغير ذلك مما حرَّم الشرع، وعدَّه من المعاصي، أو الكبائر، أو المحرمات.
حكمه: لا يحل الوفاء به إجماعًا، ولأنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ، فَلا يَعْصِهِ)) [37]، ولأنَّ معصية الله لا تحل في حال، ويَجب على الناذر كفارة يمين؛ لِمَا روت عائشة أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: "لا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ"[38].
والتبرر من البرِّ؛ قال الزبيدي: البِرُّ: الطَّاعةُ وبه فُسِّرت الآيةُ: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ﴾ [البقرة: 44]، وفي حديث الاعتكافِ: ((ألْبِرَّ تُرِدْنَ؟))[39]؛ أي: الطَّاعَةَ والعبادةَ، ومنه الحديث: ((ليس مِن البِرِّ الصِّيامُ في السَّفَر)) [40]، كالتَّبَرُّرِ، يُقال: فلانٌ يَبَرُّ خالقَه ويَتَبَرَّرُه؛ أي: يُطِيعُه[41].
فنذر التبرر على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان في مقابلة نعمة يريد الحصول عليها، أو نقمة يريد دفعها[42].
ثانيها: التزام طاعة من غير شرط، كقوله ابتداءً: لله عَلَيَّ صوم أو صلاة كذا.
ثالثها: نذر طاعة لا أصلَ لها في الوجوب، كعيادة المريض، والإعتاق[43].
حكمه:قال في "المغني": فهذا يلزم الوفاء به للآيتين والخبرين[44]، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: التزام طاعة في مُقابلة نعمة استجلبها، أو نقمة استدفعها، كقوله: إن شفاني الله، فلله عَلَيَّ صوم شهر، فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع، كالصوم، والصلاة، والصدقة، والحج، فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم.
النوع الثاني: التزام طاعة من غير شرط، كقوله ابتداءً: لله عليَّ صوم شهر، فيلزمه الوفاء به في قول أكثر أهل العلم، وهو قولُ أهلِ العراق، وظاهر مذهب الشافعي، وقال بعضُ أصحابه: لا يلزم الوفاء به؛ لأن أبا عمر غلام ثعلب قال: النذر عند العرب وعد بشرط، ولأَنَّ ما التزمه الآدمي بعوض يلزمه بالعقد، كالمبيع والمستأجر، وما التزمه بغير عوض، لا يلزمه بمجرد العقد كالهِبَة.
النوع الثالث: نذر طاعة لا أصلَ لها في الوجوب[45]، كالاعتكاف، وعيادة المريض، فيلزم الوفاء به عند عامة أهل العلم[46].
وهو أن ينذر فعل واجب من الواجبات المفروضة شرعًا، كالصلاة المكتوبة، أو حجة الإسلام، أو صوم رمضان، وغير ذلك.
حكمه: لا يوجب شيئًا؛ لأَنَّه التزام للازم، فلم يصح لاستحالته، كنذر المُحال[47].
وفرق البعض بين حكم الواجب العيني، والواجب الكفائي في النذر، فقالوا: نذر الواجب العيني: هو نذر ما أوجب الشارع على المكلفين فِعْله، أو تركه، عينًا بالنص، كصوم رمضان، وأداء الصلوات الخمس، وعدم شرب الخمر، وعدم الزنا، ونحو ذلك، وهذه الواجبات وما شابهها لا ينعقد النذر بها، ولا يصحُّ التزامها بالنذر عند جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية وأكثر الحنابلة.
الواجب على الكفاية: هو ما أوجبه الشارع على المكلفين؛ بحيث إذا فعله مَن فيهم كفاية منهم، سقط الإثم عن باقيهم، وإذا تركوا القيامَ به أثموا جميعًا بالترك، وذلك مثل تجهيز الموتى وغسلهم، ورد السلام، والجهاد في بعض أحواله، وصلاة الجنازة، ونحو ذلك.
وقد ذَهَب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلى عدم صِحَّة التزام الواجب على الكفاية بالنذر، إن تعين على الناذر أداؤه قبل النذر، وإنَّما الخلاف بينهم في حكم التزام الناذر له بالنذر إن لم يتعين عليه أداؤه قبل ذلك على اتِّجاهين:
الاتجاه الأول: يرى أصحابُه أنَّه لا يصح التزام الواجب على الكفاية بالنذر، وإلى هذا ذهب الحنفية، وهو وجه في مذهب الشافعية.
الاتجاه الثاني: يرى مَن ذهب إليه أنَّه يصح التزام الواجب على الكفاية بالنذر، ويَجب الوفاء به، وإلى هذا ذهب المالكية، وهو الأصح من مذهب الشافعية، وعليه جمهورهم. [48]
نذر المستحيل كصوم أمس، فهذا لا ينعقد، ولا يُوجِب شيئًا؛ لأنه لا يتصور انعقاده، ولا الوفاء به، ولو حلف على فعله لم تلزمه كفارة [49]، فأشبه اليمين على المستحيل.
حكمه: وهذا لا ينعقد، ولا يوجب شيئًا؛ لأنَّه لا يُتصور انعقاده ولا الوفاء به، ولو حلف على فعله، لم تلزمه كفَّارة، فالنذر أوْلَى[50].
الأول: من جهة نية النذر ابتداءً؛ أي: حكم النذر عمومًا، قبل أن ينذر الناذر شيئًا.
والجانب الآخر: حكم النذر بعد أن يقعَ من الناذر، وفيما يلي تفصيل الأمر…
حكم الإقدام على النذر: قال في "المغني": لا يستحب؛ لأَنَّ ابن عمر روى عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه نَهى عن النذر، وأنَّه قال: ((لا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِن الْبَخِيلِ))[51]، وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم؛ لأنه لو كان حرامًا، لمَا مَدَح المُوفِين به[52]؛ لأن ذنبهم في ارتكاب المحرَّم أشد من طاعتهم في وفائه[53]، ولأن النذر لو كان مستحبًّا، لفعله النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأفاضل أصحابه[54].
حكم النذر بعد وقوعه: وجوب الوفاء به متى كان صحيحًا مستكملاً للشرائط[55]؛ لقول الله – تعالى -: ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ [الحج: 29]، وقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ))[56]، وهذا الحكم إنَّما هو بعد وقوعه؛ لأن الناذر قد أوجبه على نفسه[57].
فبذلك يكون الوفاء بالنذر المشروع واجبًا ما توفرت الاستطاعة.
كفارة النذر كفارة يَمين: في الأحوال التي يجب أو يجوز فيها للناذر أن يكفِّر عن نذره، فإنَّ كفارته حينئذٍ هي نفسها كفارة اليمين.
قال في "المغني": النذر كاليمين، وموجبه موجبها، إلاَّ في لزوم الوفاء به إذا كان قربة[58]، وأمكنه فعله.
ودليل هذا الأصل: قول النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأخت عقبة، لما نذرت المشي فلم تطقه: ((ولتكفر عن يمينها))[59]، وفي رواية: ((فلتصم ثلاثة أيام))[60].
قال تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 89].
وكفارة اليمين: هي إطعامُ عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، ولا ترتيبَ بين واحد منها، فهو مخير بين أنْ يفعلَ أيها شاء، فإن عجز عنها، ولم يستطعْ أن يفعلَ واحدًا منها، فإنَّه يصوم ثلاثةَ أيام، ولا يجزي الصيام إلاَّ بعد العجز عن فعل واحد من الأمور الثلاثة[61].
هذا والله أسأل أن يهدي أُمَّة الإسلام إلى العلم بدينها؛ لأجل أن يُحسنوا العمل، ويكون علمهم قوة لهم، تَمنع عنهم وَهنَ التقليد واتِّباع ما لا يَرضى الله – عزَّ وجلَّ – عنه.
والله أسأل أن يكون عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، راجيًا عفوه وستره، إنه ولي ذلك والقادر عليه سبحانه.
[1] المقال مختصر ببعض التصرف عن كتابي " فقه النذر".
[2] أخرجه ابن ماجه: المقدمة، باب فضل العلماء، وصححه الألباني: صحيح ابن ماجه، وقال الشيخ أبو الأشبال: حديث حسن بشواهده: "جامع بيان العلم وفضله" (15).
[3] النَّحْبُ: النَّذْرُ، وبه فسَّر بعضُهم الحديثَ: ((طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ))؛ أَي: نَذْرَهُ، كأَنَّه أَلْزَم نفْسهُ أَن يَصْدُقَ الأَعداء في الحرب، فَوَفَّى به ولم يَفْسَخْ، وفي الأَساس: ونَحَبَ فلانٌ نَحْبًا ونَحَّب تَنْحِيبًا: أَوجَبَ على نَفْسِهِ أَمرًا؛ "تاج العروس".
[4] "لسان العرب"، مادة "نذر".
[5] "الفقه على المذاهب الأربعة"، مباحث النذر، ج2، ص 139.
[6] صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب النذر في الطاعة.
[7] صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان والنذور، باب إثم من لا يفي بالنذر.
[8] "المغني"، ابن قدامة المقدسي، كتاب النذور، ج 13، ص 372.
[10] " الفقه على المذاهب الأربعة ": ص 144.
[11] " الفقه على المذاهب الأربعة " ج2، ص 143 وما بعدها بتصرف.
[12] القُربَة: كل عمل يحبه الله ويرضاه، ويعمله الإنسان طاعة، تقربًا إلى الله، والمقصود هنا: الطاعات غير الواجبة، أي النوافل والسنن، التي يوجبها الناذر على نفسه، والله أعلم.
[13] الفقه على المذاهب الأربعة، ج2، ص 145.
[14] الفقه الإسلامي وأدلته، ج4، ص 111.
[15] أي أن يكون المنذور عبادة لها مثيل في الفروض الواجبة على المسلم، والله أعلم.
[16] فلا ينذر فعل معصية، كشرب الخمر، أو التدخين، أو غير ذلك من المعاصي.
[17] فلا ينذر واجبًا شرعيًا، كحجة الإسلام، أو صلاة الجمعة، أو غير ذلك من الفروض، فإن أداها لم يلزمه أن يؤدي غيرها؛ لأنه وفَّى بنذره، والله أعلم.
[18] " الفقه على المذاهب الأربعة " ج2، ص 145.
[19] أي ما لم يُذكر فيه المنذور، وهو ما يُسمى بالنذر المبهم، والله أعلم.
[20] " إحكام الأحكام"؛ ابن دقيق العيد، باب النذر، الحديث (369)، ط مكتبة السنة، 1997.
[21] "الفقه على المذاهب الأربعة"، مباحث النذر، ج2، ص 139.
[22] فيرى ابن قدامة أن النذرَ المبهم ينعقد، ولكن لا يفي به الناذر إنَّما تجب فيه كفَّارة يمين.
[23] أخرجه الترمذي: كتاب النذور والإيمان، باب ما جاء في كفارة النذر، وقال الألباني: صحيح دون قوله: ((إذا لم يسم))؛ ضعيف الترمذي، وقد ورد عن ابن عباس موقوفًا قوله: النذر إذا لم يسمها صاحبها، فهي أغلظ الأيمان، ولها أغلظ الكفارة بعتق رقبة؛ أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (15834)، وابن أبي شيبة في مصنفه (12176).
[24] "العدة شرح العمدة"، ابن قدامة المقدسي، باب النذر (1384).
[25] أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يَمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها.
[26] فإذا قال: لله عليَّ نذر، ونوى في نفسه أن يصوم، ولكن لم يعين في نفسه عددًا معينًا من الأيام، فإنه يصوم صوم الكفارة: ثلاثة أيام، أمَّا إذا قال: لله عليَّ صوم، فهذا نذر مطلق، ولم ينوِ عددًا، فإنه يصوم أدنى الصوم، وهو يوم واحد، والله أعلم.
[27] الصاع: يُقصد به الصاع النبوي، وهو مكيال وليس وزنًا، وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين، في "الشرح الممتع" (ج2 ص 688) أنَّه حرره، فوجده حوالي كيلوهَيْن وأربعين جرامًا من البُر الرَزين؛ أي: من القمح الجيد، ونَبَّه إلى أنَّ الأشياء تختلف خِفَّةً وثقلاً، فقال: إذا أردت أن تعرف الصاع النبوي، فزِن كيلوهين وأربعين جرامًا من البر الجيد، ثم ضعه بعد ذلك في الإناء، فما بلغ فهو الصاع النبوي؛ [راجع كتابنا: معجم المقادير الشرعية].
[28] هنا النذر لم يَعُد مُبهمًا، فالناذر حدد منذورًا؛ أي: مخرج النذر، وهو الصدقة، أو الصوم، أو الصلاة، ولكنه لم يُحدد قدر الصدقة، أو عدد أيام الصوم، أو عدد الركعات، فكان نذرًا مطلقًا، فيجب عليه، في قول الكاشاني، أن يفي بنذره بأقل قدر شرعي للمنذور، والله أعلم.
[29] "بدائع الصنائع"، مباحث النذر، ج4، ص 241.
[30] "الكافي"، باب النذر، ج4، ص 251.
[31] كأن يقول: لو صدق هذا الأمر، أو الخبر، فعليَّ كذا، والله أعلم.
[32] "الفقه على المذاهب الأربعة"، مباحث النذر، ج2، ص 141، وما بعدها.
[33] المرجع السابق، ص 142.
[34] المرجع السابق، ص 142.
[35] "الكافي" باب النذر، ج4، ص 251، والحديث أخرجه أبو داود: كتاب الإيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، وقال الألباني: صحيح.
[36] "الفقه على المذاهب الأربعة"، ص 142، 143، قلت: وإن لم يفعل المكروه، فإنه تجب عليه كفارة اليمين، والله أعلم.
[37] أخرجه الترمذي: كتاب النذور والأيمان، باب من نذر أنْ يُطيع الله فليطعه، وأصله عند البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة، ولفظه: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ))، وكلاهما من حديث عائشة.
[38] أخرجه الترمذي: كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في قول رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا نذر في معصية))، وقال الألباني: صحيح، مختصر إرواء الغليل.
[39] أخرجه أحمد، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين (25939).
[40] أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب قول النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لمن ظلل عليه، واشتد الحر: ((ليس من البر الصوم في السفر))، أمَّا قوله: ((… الصيام في السفر))، فلفظ رواية الترمذي.
[41] "تاج العروس"، الزبيدي، مادة "البر".
[42] كقوله: إن رزقني الله مَالاً، فلله عليَّ كذا، أو: إن سدد الله عني هذا الدَّين، فلله عليَّ كذا.
[43] "الفقه على المذاهب الأربعة"، ص 143.
[44] يقصد بالآيتين قوله – تعالى -: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾ [الإنسان: 7]، وقال: ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ [الحج: 29]، وبالخبرين؛ أي: الحديثين: حديث عائشة: ((مَن نذر أن يطيع الله فليطعه…))، وحديث عمران بن حصين: ((خيرُكم قرني، ثُمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثُمَّ يجيء قوم، ينذرون ولا يفُون، ويخونون ولا يُؤتَمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن))، وقد تقدم تخريجهما.
[45] أي: ليست من الفروض الواجبة بالشرع، كالصلاة المكتوبة، وصوم رمضان، وحجة الإسلام، وإنَّما هي من النوافل أو السنن، والله أعلم.
[46] ومعنى قول أبي حنيفة: إنَّه لا يلزم الوفاء بما نذره الناذر؛ أي: لأَنَّ المنذور نافلة، أو سنة غير واجبة في الشرع، فتكون غير واجبة الوفاء، ويرد قولَه قولُ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه))، فأمر – صلَّى الله عليه وسلَّم – بوجوب الوفاء به مطلقًا من حيث كونه طاعة، والله أعلم.
[48] "الموسوعة الفقهية الكويتية"، مادة "نذر".
[49] "المغني" كتاب النذور، ج13، ص 381، كأن يقول: لله عليَّ أن أصوم أمس.
[50] "المغني"، كتاب النذور، ج13، ص 381.
[51] أخرجه مسلم: كتاب النذر، باب النهي عن النذر، (1639).
[52] يقصد هنا قول الله – تعالى -: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾ [الإنسان: 7]، والله أعلم.
[53] أي: لو كان النذر مُحرَّمًا، لكان وعيد الله لهم أولى، وما كان مدحهم لفعله، بقوله – تعالى -: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ﴾ [الإنسان: 7]، والله أعلم.
[54] "المغني"، كتاب النذور، ج13، ص 372.
[55] أي: إذا كان نذر طاعة مشروعة، ولم يكن نذر معصية.
[57] "الفقه على المذاهب الأربعة"، مباحث النذر، ج2، ص 139.
[58] أي: لا يلزم الوفاء به، وإنَّما يكفر عنه بكفارة اليمين، أما نذر الطاعة، فيلزم الوفاء به، والله أعلم.
[59] ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الإيمان والنذور، باب من رأى عليه كفَّارة إذا كان في معصية، وقال الألباني: ضعيف.
[60] ضعيف، أخرجه الترمذي: كتاب النذور والإيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير ملة الإسلام، وقال الألباني: ضعيف.
[61] "الفقه على المذاهب الأربعة"، ج2، ص 83.