التصنيفات
سيرة النبي وزوجاته والصحابة

مِن إلهامات الهجرة:

كتبه/ أحمد فريد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

لماذا أرخ المسلمون تاريخهم بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤرخوا بغزوة بدر الكبرى؛ أول انتصار في الإسلام، أو بفتح مكة، أو بغير ذلك من المناسبات الحاسمة في تاريخ الأمة الإسلامية؟
إنما كان ذلك كذلك؛ لأن بالهجرة تكوَّن النظام السياسي، وتأسست الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وهذا يدل على أن الإسلام لا يُكتفى فيه بتنفيذ العبادات الفردية: كالصلاة، والصيام، والحج والعمرة، ولكنه يهدف إلى إقامة نظام كامل متكامل محكوم بشرع الله -عز وجل-، فليس فيه: "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، ولكن الإسلام يتحكم في كل شئون الحياة: السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، فبالهجرة تكون الكيان الإسلامي للعمل المتكامل.
وما أذِن في الجهاد إلا بعد الهجرة، وقتل كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق اليهوديين كان بعد الهجرة، بعد أن صار للإسلام دولة، وللإسلام شوكة.
ومِن إلهامات الهجرة: أن الداعية إذا أجدبت أرضه فينبغي عليه أن يبحث عن أرض جديدة خصبة؛ فقد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة وهو يعلم أنها أحب أرض إلى الله، وأحب أرض الله إليه -صلى الله عليه وسلم-.
ومن إلهامات الهجرة: الأخذ بالأسباب الممكنة، فقد استأجر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً خريتًا، وسار في طريق خلاف طريق المدينة حتى ينتهي الطلب، وغير ذلك من الأسباب التي أخذ بها..
وإن قال قائل: لماذا لم يهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هاجر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيقول: من أراد أن تثكله أمه أو يتيتم ولده فليلقني خلف هذا الوادي؟
الجواب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسوة، والناس فيهم القوي مثل عمر -رضي الله عنه-، ومنهم: الضعيف، ولكن عمر -رضي الله عنه- شخص واحد يتصرف بحسب قوة إيمانه وجرأته.
بهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- تمت سنة إخوانه الأنبياء؛ ولذلك قال له ورقة بن نوفل -رضي الله عنه-: "يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ" (متفق عليه).
قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-:
"عَنْ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ السُّلَمِيُّ قَالَ: جِئْتُ بِأَخِي أَبِي مَعْبَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ الْفَتْحِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ عَلَى الْهِجْرَةِ. قَالَ: (قَدْ مَضَتْ الْهِجْرَةُ بِأَهْلِهَا) قُلْتُ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ: (عَلَى الإِسْلامِ وَالْجِهَادِ وَالْخَيْرِ) (متفق عليه).
وفي البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)، وفي لفظ ابن حبان: (المهاجر من هجر السيئات).
فإلى الهجرة أيها المسلمون..
إلى هجرة الخطايا والذنوب..
إلى هجر ما يخالف أنظمة الإسلام في بيوتنا وما نقوم به من أعمالنا..
إلى هجر الضعف والبطالة والإهمال والترف والكذب والرياء، ووضع الأشياء في غير موضعها



تسلم يدك ع الموضوع
جعله الله بميزان حسناتك
ليس جديد عليكى فديما مميزه
نستفيد الكثير منكى
بأنتظار جديدك




التصنيفات
سيرة النبي وزوجاته والصحابة

الهجرة الأولى إلى الحبشة

انت بداية الاعتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة، ثم لم تزل تشتد يومًا فيومًا وشهرًا فشهرا، حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة، ونبا بهم المقام في مكة، وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله ِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏10]‏‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصْحَمَة النجاشى ملك الحبشة ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم من الم، لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار‏.‏




التصنيفات
منوعات

الهجرة الثانية إلى الحبشة


واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلى نطاق أوسع، ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا‏.‏

وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثماني عشرة أوتسع عشرة امرأة‏.‏

مكيدة قريش بمهاجري الحبشة


عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما‏:‏ عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهديا ثم كلماه فقالا له‏:‏

أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه‏.‏

وقالت البطارقة‏:‏ صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم‏.‏

ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعًا‏.‏ فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًا ما كان‏.‏ فقال لهم النجاشي‏:‏ ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في دينى ولا دين أحد من هذه الملل ‏؟‏

قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين‏:‏ أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئًا،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك‏.‏

فقال له النجاشي‏:‏ هل معك مما جاء به عن الله من شيء‏؟‏ فقال له جعفر‏:‏ نعم‏.‏ فقال له النجاشي‏:‏ فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من‏:‏ ‏{‏كهيعص‏}‏ فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي‏:‏ إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم‏.‏ فقال له عبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه‏.‏

فلما كان الغد قال للنجاشي‏:‏ أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر‏:‏ نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول‏.‏

فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال‏:‏ والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال‏:‏ وإن نَخَرْتُم والله ‏.‏

ثم قال للمسلمين‏:‏ اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي ـ والشيوم‏:‏ الآمنون بلسان الحبشة ـ من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى دَبْرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم ـ والدبر‏:‏ الجبل بلسان الحبشة‏.‏

ثم قال لحاشيته‏:‏ ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فوالله ما أخذ الله منـي الرشـوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس في فأطيعـهم فيه‏.‏

قالت أم سلمة التي تروى هذه القصة‏:‏ فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار‏.‏

هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين‏.‏ ولكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا، ثم إن تلك الأسئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي‏.‏




التصنيفات
منوعات

أسماء بنت أبي بكر و الهجرة

وجود القدوة أمر ضروري يعين الناس على العمل والتشبه بهم، وهو أيضا لإقامة الحجة على الناس، ولذا أمر الله نبيه- وهو قدوة القدوات- أن يتخذ له من النبيين قبله قدوة فقال: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وقال لأمته: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه}، ولابد أن يكون المتخَذ قدوة من جنس من يقتدون به حتى لا يكون لهم على الله حجة؛ ولذلك لما طلب المشركون أن يرسل الله لهم ملكا رسولا بدلا من البشر رد عليهم سبحانه بقوله: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا}.

وقد جعل الله في هذه الأمة وسابقاتها قدوات كثيرين من الرجال وكان النساء في هذا الجانب أندر وأعز، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». ولكن الله لم يحرم نساء هذه الأمة من نماذج تقتدي بهن المؤمنات وهن والحمد لله كثيرات كأمهات المؤمنين، وصحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهن من التابعيات الجليلات.. ونحن هنا نقدم للمؤمنين والمؤمنات واحدة من هؤلاء الفضليات:

إنها أسماء بنت أبي بكر الصديق.. أم عبد الله القرشية التيمية المكية ثم المدنية والدة الخليفة عبد الله بن الزبير وأخت أم المؤمنين عائشة وآخر المهاجرات وفاة، روت عدة أحاديث وعمرت دهرًا وتعرف بذات النطاقين.. الصادقة الذاكرة، الصابرة الشاكرة، أسماء البطولة، أسماء الصدق، أسماء الطهر أسماء الجود أسماء الكرم أسماء الشجاعة أسماء الفداء… وغيرها من المعاني التي تجدها في ترجمتها، وكيف لا تكون كذلك وهي سليلة بيت الخير، ومجاورة بيت النبوة، وأخت عائشة الصديقة الكبرى، والتي كانت تكبرها أسماء بعشر سنين؟!

أسماء العبادة والجود:

يقول ابن الزبير رضي الله عنهما: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسماء، وجُودهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء فكانت لا تدخر شيئا إلى غد.

وعن فاطمة بنت المنذر: أن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها.

ويقول ابن أبي مليكة عنها: كانت أسماء تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفره الله أكثر.

يقول ابنها عروة: دخلت على أسماء وهي تصلي فسمعتها وهي تقرأ هذه الآية: {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم} فاستعاذت فقمت وهي تستعيذ، فلما طال عليّ أتيت السوق ثم رجعت وهي في بكائها تستعيذ.

أسماء الكرامة والإباء:

إنها الكريمة الأبية واضعة قاعدة الكرامة حين قالت لابنها عبد الله بن الزبير، وقد أحاطت به جنود الحجاج: يا بني عش كريما ومت كريما، لا يأخذك القوم أسيرًا.

ولما قتل الحجاج ابنها عبد الله دخل عليها فقال: يا أمه.. إن أمير المؤمنين قد وصاني بك فهل لك من حاجة؟

قالت: لست لك بأم ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، ومالي حاجة.. ولكن أحدثك.. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج من ثقيف كذاب ومبير: فأما الكذاب فقد رأيناه- تعني المختار الثقفي- وأما المبير فأنت.

وقال القاسم بن محمد: جاءت أسماء بنت أبي بكر مع جوار لها، وقد ذهب بصرها، فقالت: أين الحجاج؟ قلنا ليس ههنا، قالت: فمروه فليأمر لنا بهذا العظام فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المثلة.. قلنا إذا جاء قلنا له.. قالت إذا جاء فاخبروه أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن في ثقيف كذابا ومبيرًا.

أسماء والهجرة:

وإذا ذكرت الهجرة فحيهلا بأسماء.. كانت وقتها ما زالت فتاة صغيرة يافعة، ولكنها حملت أمانة أشفق من حملها الرجال، عندما دخل النبي وصاحبه إلى الغار كانت تقطع ثلاثة أميال في جوف الليل ووحشة الطريق بين أسنة الصخر ومساحات الرمال الشاسعة حتى تصل إلى الجبل فتصعد إلى قمته منحدرة إلى الغار لتقوم بمهمة الفدائي وحمل أمانة الإمداد والتموين للرحلة المباركة فبارك الله فيها وعليها:

روى البخاري وأحمد عنها قالت: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى المدينة صنعت سفرته في بيت أبي بكر، فقال أبو بكر: ابغيني معلاقا لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصاما لقربته فقلت ما أجد إلا نطاقي!! قال: فهاتيه.. قالت: فقطعته باثنين فجعل إحداهما للسفرة والأخرى للقربة؛ فلذلك سميت ذات النطاقين.

وانطلق النبي وصاحبه مهاجرين وجاء المشركون للبحث والتنقيب ومعرفة الطريق ولكن أنى لمثل أسماء أن تخبرهم وتفشي خبر النبي صلى الله عليه وسلم!! تقول: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي. قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة خر منها قرطي، قالت ثم انصرفوا.

وبعد درس الصبر هذا وحفظ الدعوة وأهلها يأتي درس آخر أجمل حيث تقول: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة- وقد ذهب بصره- فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه؟! قلت: كلا يا أبت!! إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرا.. فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة في البيت- كان أبي يضع فيها ماله- ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك يا أبت على هذا المال، فوضع يده فقال: لا بأس.. إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، ففي هذا لكم بلاغ.. قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك.

رسالة إلى كل زوجة:

وفي زمان تتفنن فيه الزوجات للتهرب من أداء واجبهن نحو الأزواج تأتي الرسالة إليهن من أسماء ليعرفن ماذا ينبغي أن تفعل الزوجات.. تحكي أسماء عن نفسها فتقول: تزوجني الزبير، وكان له فرسه فكنت أسوسه وأعلفه وأدق لناضحه النوى وأستقي وأعجن، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي- وهي على ثلثي فرسخ- فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر، فدعاني فقال: إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت وذكرت الزبير وغيرته. قالت فمضى، فلما أتيت أخبرت الزبير فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني.

وللأمهات أيضا:

لقد كان موقف أسماء مع ابنها عبد الله بن الزبير شامة في جبينها ورسالة أرسلت بها إلى كل أم مسلمة درسا في كيفية التربية والحث للأبناء على الرفعة ورباطة الجأش وذلك خلال حرب الحجاج له، فما زالت تقف بجانبه تشد أزره وتقوي قلبه وتقول له وقد أحاطت به جنود الحجاج: يا بني عش كريما ومت كريما، لا يأخذك القوم أسيرًا.

قال عروة دخلت أنا وأخي قبل أن يقتل على أمنا بعشر ليال وهي وجعة، فقال عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت وجعة. قال: إن في الموت لعافية. قالت: لعلك تشتهي موتي فلا تفعل. وضحكت وقالت: والله ما أشتهي أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك: إما أن تقتل فأحتسبك، وإما أن تظفر فتقر عيني.. إياك أن تعرض على خطة فلا توافق فتقبلها كراهية الموت. وكان عمرها عند ذلك مائة سنة.

وقتل الحجاج عبد الله بن الزبير وصلبه، فجاءت أمه عجوز طويلة عمياء فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟! فقال المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقا، كان صواما قواما برا. قال: انصرفي يا عجوز فقد خرفت. قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله يقول في ثقيف كذاب ومبير.

وجاء ابن عمر ليعزيها عندما قيل له: إن أسماء في ناحية المسجد، فمال إليها فقال: إن هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله فاتقي الله واصبري. فقالت: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.

قال ابن أبي مليكة: دخلت علي أسماء بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير فقالت: بلغني أنهم صلبوا عبد الله منكسا، اللهم لا تمتني حتى أوتى به، فلم يلبث أن أتيت به فغسلته بيدها وطيبته ثم حنطته ثم دفنته وصلت عليه. بعد ما ذهب بصرها. قال أيوب فحسبته قال فعاشت بعد ذلك ثلاثة أيام.

قال ابن سعد ماتت بعد ابنها بليال وكان قتله لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين.

قال الإمام الذهبي في السير: قلت كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات.

فرضي الله عن أسماء ورضي عنهم جميعا من آل بيت.




رضى الله عنك يا ذات النطاقين وعن سائر صحابه رسول الله
جزاك اله خيرا اختى
طرح مميز



التصنيفات
منوعات

إن لم تكوني مثلها فتشبهي من أبطال الهجرة أسماء بنت أبي بكر

هي أسماء ابنة أبي بكر الصدِّيق، وأخت عائشة أم المؤمنين لأبيها، زوج الزبير بن العوَّام حواري رسولِ الله وابن عمته، وأم الفارس المغوار الخليفة عبد الله بن الزبير. أسلمت مع السابقين الأولين وكان ترتيبها في الإسلام (الثامن عشر)، وظلَّت في مكَّة تشارك المسلمين لنشر الدعوة، ومرارة الأذى في سبيل الله، حتى كانت الهجرة إلى المدينة، فكان لها ثلاثةُ مواقفَ سجَّلها لها تاريخ السيرة النبوية بفخار وإعزاز.

أسماء وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم

حدَّثت عن أوَّلها، فقالت: صنعت سفرة للنبي حين أراد أن يسافر إلى المدينة فلم نجد لسفرته وسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال شقيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء وبالآخرة السفرة.

وروي أن النبي قال لها حين فعلت ذلك: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة". فقيل لها: (ذات النطاقين).

حدَّثت عن ثانيها: لما خرج رسول الله وأبو بكر t، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا عند باب أبي بكر؟ فخرجت إليهم، فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشًا خبيثًا- فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي.

وحدثت عن الموقف الثالث، فقالت: لما خرج رسول الله إلى الهجرة، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، فالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرًا كثيراً، فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة البيت التي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيد جدي فقلت: يا أبت.. ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه فقال لا بأس، إذا كان ترك لكم ها فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. قالت أسماء: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني لأردت أن أسكن الشيخ بذلك.

أسماء المسلمة

ليست امرأة فارغة همها زينتها، وإنما هي مؤمنة همها رسالتها، فلا عجب أن تكتم السر في شجاعة، وتستقبل أبا جهل وأصحابه في قوة، وتشق نطاقها وهي راضية، وتتحمل لطم خدها وهي صابرة، وتحسن الحيلة لإرضاء جدها، وهي سعيدة بما تصنع من أجل دينها ورسالتها.

أسماء الزوجة

تزوجت أسماء الزبير قبل الهجرة، وكلاهما مسلم خالطت بشاشة الإيمان قلبه، وامتزج الإسلام بلحمه ودمه، فكانا مثال الزوجين المتوافقين ضمهما هدف واحد، وطريقة واحدة، تحت لواء واحد.. هاجر إلى المدينة فهاجرت، وجاهد فشدت أزره، وصبرت في ضرائه، وشكرت في سرائه. لم يمنعها مكان أبيها، ولا شرف قومها، أن تقف إلى جانبه في أيام الشدة والفقر، تعمل وتكدح وتُعَمِّرَ عش الزوجية بكدِّ اليمين، وعرق الجبين.

قالت أسماء: تزوجني الزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، فكنت أخدمه خدمة البيت كله، وأعلف فرسه، وأسوسه وأكفيه مئونته، وأحشُّ له وأقوم عليه، وأدق النوى لناضحه (إبله)، وكنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير، على ثلثي فرسخ، وكنت أعجن وأسقي الماء، وأخزر الدلو.

ولم تطل المدة حتى انتشرت دعوة الإسلام، وفاض الخير على المسلمين، وكان للزبير -فيما له- ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وتمت كلمة ربك على المؤمنين بما صبروا، وصدق الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41].

أسماء الأم

ظل المسلمون بعد الهجرة بمدة لا يولد لهم ولد، وأشاع اليهود أنهم سحروهم فلن ينجبوا، حتى كذبهم القدر، فولدت أسماء ابنها "عبد الله"، فكان أول مولود في المدينة، فاستبشر المسلمون وكبَّروا، ولدت بعد ذلك "عروة" و"المنذر"، وما منهم إلا عالم أو فارس، على أن موقفها مع ابنها عبد الله هو الذي جعل التاريخ يصغي لها سمعه، ويكتبها في سجل الأمهات الخالدات.

محنة ابنها عبد الله بن الزبير

بعد وفاة يزيد بن معاوية بويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة في معظم بلاد الشام: في الحجاز، واليمن، والعراق وخراسان، وظل تسع سنوات ينادى بأمير المؤمنين، حتى شاءت الأقدار -لحظ بني أمية- أن تزول الخلافة من أرض الحجاز.

جاء الحجاج بجند الشام فحاصر ابن الزبير في مكة، وطال المدى، واشتد الحصار، وتفرق عنه أكثر من كان معه، فدخل عبد الله على أمه قبل قتله بعشرة أيام، فقال لها: إن في الموت لراحة. قالت: لعلك تمنيته لي؟ ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت فأحتسبك، وإما ظفرت فتقر عيني. فلما كان اليوم الذي قُتل فيه دخل عليها حين رأى من الناس ما رأى من خذلانه، فقال لها: يا أماه، خذلني الناس حتى ولداي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا، فماذا ترين؟

وهناك أمسك التاريخ بقلمه ليكتب موقف الأم الصبور من ابنها وفلذة كبدها، من لحظة حاسمة من لحظات الخلود: الأم التي شاب رأسها ولم يشب قلبها، وشاخ جسدها ولم يشخ إيمانها، وانحنى ظهرها ولكن عقلها ظل مستقيمًا مسدًا.. قالت أسماء: أنت والله يا بني أعلم بنفسك: إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنت فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟!.. القتل أحسن.

قال: إني أخاف أن يُمَثِّل بي أهل الشام.

قالت: إن الكبش لا يؤلمه سلخه بعد ذبحه.

فدنا ابن الزبير فقبَّل رأسها وقال: هذا والله رأي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحبت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحبت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله.

قالت: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا.

قال: جزاك الله خيرًا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد.

قالت: لا أدعه أبدًا، فمن قتل على باطل فقد قُتِلتُ على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في اليل الطويل، وذلك الظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرَّه بأبيه وبي، اللهم قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين. وذهب عبد الله فقاتل الساعات الأخيرة قتال الأبطال، وهو يتمثَّل صورة أمه في عينيه، وصوتها في أذنيه، مرتجزًا منشدًا:

أسماء يا أسماء لا تبكني

لم يبق إلا حسبي وديني

وصارم لأنت به يميني

وما زال على ثباته حتى قُتل، فكبر أهل الشام لمقتله، فبلغ ذلك ابن عمر فقال: الذين كبروا لمولده خير من الذين كبروا لموته.

مع الحجاج

صلب الحجاج عبد الله بن الزبير مبالغة في التشفي والإرهاب، ثم أرسل إلى أمه أسماء فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول: لتأتيني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك من قرونك. فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليَّ من يسحبني بقروني.

فما كان من الحجاج إلا أن رضخ لصلابتها، وانطلق حتى دخل عليها، فقال: أرأيت كيف نصر الله الحق وأظهره؟

قالت: ربما أُديل الباطل على الحق وأهاه.

قال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله.

قالت: أراك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليك آخرتك.

قال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، وقد أذاقه الله ذاك العذاب الأليم.

قالت: كذبت! كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله وحنَّكه بيده، وكبَّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وكان برًّا بأبويه صوامًا قوامًا بكتاب الله، معظمًا لحرم الله، مبغضًا لمن يعصي الله، أما إن رسول الله حدثني أن في ثقيف كذَّبًا ومبيرًا، فأما الكذاب فقد رأيناه (تعني المختار بن عبيد الثقفي)، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه.

فخرج الحجاج من عندها منكسرًا يتمنى لو لم يكن لقيها، بعد أن دخل عليها مزهوًّا يريد أن يتشفَّى.

هذه أسماء العجوز في سن المائة، وهذا هو الحجاج الجبار في أوج انتصاره وعنفوان طغيانه. إن الإيمان في قلبها جعله في عينها يتضاءل ويتضاءل حتى صار شيئًا صغيرًا كالهباء، وجعلها في عينه تمتد وتستطيل حتى صارت شيئًا كبيرًا كالمارد العملاق.

وبلغ عبد الملك بن مروان ما صنع الحجاج مع أسماء فكتب إليه يستنكر فعله، ويقول: ما لك وابنة الرجل الصالح؟ وأوصاه بها خيرًا. ودخل عليها الحجاج فقال: يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟

قالت: لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة.

وأخيرًا..

آن للفارس المصلوب أن يترجل، وينزل من فوق خشبته ويسلَّم إلى أمه فتحنّطه وتكفنه وتصلي عليه وتودعه جوف الثرى، ليلتقي في دار الخلود بأبيه الزبير وجده أبي بكر، وجدته صفية، وخالته عائشة، y.

وهكذا استقبلت المصيبة الكبيرة بنفس أكبر، وإيمان أقوى!!

دخل عليها عبد الله بن عمر، وابنها مصلوب. فقال لها: إن هذا الجسد ليس بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فاتقي الله واصبري.

فقالت: وما يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل؟

ولم يطل بها المقام بعد ولدها، فما هي إلا مائة يوم -أو أقل- حتى لحقت به عام ثلاث وسبعين للهجرة، وقد بلغت المائة عام، لم تسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل، رحمها الله ورضي عنها.

المصدر: موقع إسلام أون لاين، الرابط:

http://www.islamo.net/Arabic/NewHijr…eroes/05.shtml




مشكوره



خليجية



خليجية



خليجية
أخواتي <أصعب دمعة/ أم ورد /قلب ناعم>



التصنيفات
منوعات

دروس وعبر من حادثة الهجرة

قبل ألف وأربعمائة عامًا -تزيد قليلاً- هاجر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، من موطن الكبت والقهر والظلم والحصار إلى موطن الحرية والعدالة والمساواة والعز والتمكين، وكان ذلك بصحبة الصديق رضي الله عنه وكانت هناك الكثير من العبر والدروس المستفادة من هجرته ، ومنها:

– معية الله لأوليائه المؤمنين ونصرته لهم، ويتجلى هذا في حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار من أن تناله أيدي المشركين ثم نجاته من سراقة بن مالك.

– الثقة المطلقة بالله وبنصره وتأيده، ويتجلى هذا الدرس في قوله : "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". الهجرة دروس وعبر ثم في عدم تلفته عندما لحقه سراقة، وكأن الأمر لا يعنيه ، ثم في إعطائه سراقة كتاب أمان، وهو الذي يخرج من بلده مهاجرًا، لكنه كان يرى نصر الله له ويرقبه ويتيقنه كما يتيقن الشمس في رابعة النهار.

– الأخذ بالأسباب المادية لا ينافي التوكل، فها هو حال هجرته يأخذ شتى الوسائل المادية المتاحة له، فيستخفي بالظهيرة ثم بسواد اليل ثم بتجويف الغار، ويسلك طريقًا غير معتادة، وينطلق جهة الجنوب ومقصده الشمال، ويستعين بكافر قد أمنه… لكن ذلك كله لم ينسه أن يتوكل على ربه ويعتمد عليه.

وهذه الأسباب التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن كافية لإبعاد قريش عنه، فقد وصلت قريش إلى غار ثور، لكن الله عز وجل حجبه عنهم فلم يصلوا إليه بسوء.

يقول ابن حجر: "فالتّوكّل لا ينافي تعاطي الأسباب؛ لأنّ التّوكّل عمل القلب وهي عمل البدن، وقد قال إبراهيم عليه السّلام: {وَلَكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. وقال عليه الصّلاة والسّلام: "اعقلها وتوكّل"[1].

وقال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة رحمه الله: "مهما أمكن المكلّف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكّل إلا بعد عملها؛ لئلاّ يخالف الحكمة, فإذا لم يقدر عليه وطّن نفسه على الرّضا بما قدّره عليه مولاه، ولا يتكلّف من الأسباب ما لا طاقة به له".

قال ابن حجر: "الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي"[2].

وقال بعد أن ذكر أقوال العلماء في العلاقة بين الأسباب والتوكل: "والحقّ أنّ من وثق بالّه وأيقن أنّ قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكّله تعاطيه الأسباب اتّباعًا لسنّته وسنّة رسوله, فقد ظاهر في الحرب بين درعين, ولبس على رأسه المغفر, وأقعد الرّماة على فم الشّعب, وخندق حول المدينة, وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة, وهاجر هو, وتعاطى أسباب الأكل والشّرب, وادّخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السّماء, وهو كان أحقّ الخلق أن يحصل له ذلك, وقال الّذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: (اعقلها وتوكّل)، فأشار إلى أنّ الاحتراز لا يدفع التّوكّل, والّه أعلم"[3].

– جواز استخدام المعاريض في دفع الشر والبلاء، كما صنع الصديق رضي الله عنه حين كان يخبر من قابله في طريق الهجرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم دليله في الطريق، فيفهم المخاطب أنه طريق السفر، وهو يقصد الطريق إلى الجنة.

قال ابن تيمية في بيان جواز استخدام المعاريض في بعض المواطن، بل وجوبها: "وقد يكون واجبًا إذا كان دفع ذلك الضر واجبًا ولا يندفع إلا بذلك، مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك، وتعريض أبي بكر الصديق t قد يكون من هذا السبيل"[4].

وبيّن -رحمه الله- الفيصل بين ما يحل وما يحرم من المعاريض فقال: "والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على الإنسان والعقود بأسرها، ووصف العقود عليه والفتيا والتحديث والقضاء إلى غير ذلك، وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب"[5].

قال ابن حجر: "ومحلّ الجواز فيما يخلّص من الظّلم أو يحصّل الحقّ, وأمّا استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحقّ أو تحصيل الباطل فلا يجوز"[6].

وقال النوي: "استعمال المعاريض عند الحاجة … وشرط المعاريض المباحة ألا يضيع بها حقّ أحد"[7].

– العفة والزهد فيما عند الناس رغم الحاجة إليه؛ درس آخر من دروس الهجرة، حيث عرض سراقة بن مالك عليه الزاد والعون وهو أحوج الناس يومذاك إليه، يقول سراقة: وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: "أخف عنا"[8].

وفي الصحيح عنه أنه قال: "ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله"[9].

– جواز الاستعانة بالمشرك إذا أمن شره ومكره؛ فقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط فكان دليله في سفره وكان "هاديًا خرّيتًا (والخريت: الماهر بالهداية) قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه"[10].

– بذل الصحابة رضوان الله عليهم أنفسهم وأموالهم وأهليهم فداء لنبي الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد نام عليٌّ رضي الله عنه في فراشه ليلة خروجه، وكان الصديق رضي الله عنه شريكه في أهوال رحلة الهجرة، فيما جهد ولداه عبد الله وأسماء رضي الله عنهم ومولاه عامر رضي الله عنه في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا من علامات الإيمان وضروراته، قال : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ولده والناس أجمعين"[11].

– دلائل صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك ثباته في الغار، وحين دهمهم سراقة، وذلك لا يتأتى إلا لمن علم أن ربه لا يسلمه إلى عدوه.

ومنه أيضًا معجزاته -عليه الصلاة والسلام- فقد ساخت يدَا فرس سراقة لما همه بالسوء، كما حلبت شاة أم معبد وهي عجفاء لم يطرقها فحل -كما جاء في بعض الروايات- لما مسّ ضرعها.

– الاستفادة من الطاقات المختلفة، وكل حسب نوعه وسنّه، فقد كان الصديق بحكمته خير رفيق للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما تولى الشاب عبد الله بن أبي بكر مهمة تحسس أخبار قريش، وتولى عامر بن فهيرة الخدمة، وتولت أسماء إعداد الجهاز والطعام لهذا الركب.

– استحباب الرفقة في السفر، وأن يكونوا أكثر من واحد، وقد قال : "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب"[12].

قال الخطابي: "والمنفرد في السّفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه, ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله ويورد خبره إليهم, ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة, فإذا كانوا ثلاثةً تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة وصلّوا الجماعة وأحرزوا الحظّ فيها"[13].

– فضل عبادة الهجرة وعظم ثواب المهاجر؛ حيث قال مخاطبًا مكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"[14]. وفي بيان ما فيها من بلاء قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ قْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ خْرُجُواْ مِن دِيَرِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} [النساء: 66]، فجعل ترك الديار والأوطان قرين القتل والموت.

– فضل الصديق رضي الله عنه وشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان له أنيسًا وصاحبًا في الهجرة وخادمًا، فقد كان يحرسه ويخاف عليه ويبرد له البن ويؤثره على نفسه ويظله إذا قامت الشمس.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار، أترى لم يسمع الروافض الكفار: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ…} [التوبة: 40]؟!

دعا إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على المحبة فما زلَّ ولا كبا، وصبر في مدته من مدى العدى على وقع الشبا، وأكثر في الإنفاق فما قل حتى تخلل بالعبا[15].

تالله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار، {ثَانِيَ ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي لْغَارِ} [التوبة: 40].

من كان قرين النبي في شبابه؟! من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟! من الذي أفتى بحضرته سريعًا في جوابه؟! من أول من صلى معه؟! من آخر من صلى به؟! من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟! فاعرفوا حق الجار.

نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ، فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ، حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟!.

كم وقى الرسول بالمال والنفس! وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس، فضائله جلية وهي خلية عن البس، يا عجبًا! من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارًا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال الرسول: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث، فزال القلق وطاب عيش الماكث، فقام مؤذن النصر ينادي على رءوس منائر الأمصار {ثَانِيَ ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي لْغَارِ}.

حبه -والله- رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية، فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية، لولا صحة إمامته ما قيل: ابن الحنفية، مهلاً مهلاً، فإن دم الروافض قد فار.

والله ما أحبناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانًا، ولكن أخذنا بقول عليٍّ وكفانا: (رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟!).

تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر، تالله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السني عينًا، فمن كان رافضيًّا فلا يعد إلينا وليقل: لي أعذار[16].

– اختلف العلماء في توجيه شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الراعي في الطريق، قال المهلّب بن أبي صفرة: "إنّما شرب النبي من لبن تلك الغنم؛ لأنّه كان حينئذ في زمن المكارمة, ولا يعارضه حديثه: (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه)؛ لأنّ ذلك وقع في زمن التّشاحّ, أو الثّاني محمول على التّسوّر والاختلاس، والأوّل لم يقع فيه ذلك بل قدّم أبو بكر سؤال الرّاعي: هل أنت حالب؟ فقال: نعم. كأنّه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك؟ فقال: نعم، أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك، والإذن في الحلب على المارّ ولابن السّبيل, فكان كلُّ راع مأذونًا له في ذلك.

وقال الدّاوديّ: "إنّما شرب من ذلك على أنّه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج, ولا سيّما النبي "[17].

– أهمية المسجد ودوره في الإسلام؛ حيث حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه أينما حل، فقد بنى مسجد قباء قبل وصوله المدينة، وكان بناء المسجد النبوي أول أعماله حين وصل المدينة.

وليس هذا آخر الدروس والعبر المستفادة من حادثة هجرة النبي .

المصدر: موقع المنبر، الرابط:

http://www.alminbar.net/malafilmy/ahdathhijra/3.htm




خليجية

خليجية




خليجية



خليجية



جزاكي الله خيرا



التصنيفات
منتدى اسلامي

الهجرة والتخطيط لعام جديد الجمعة

مع تتابع الأيام، ومرور الشهور والأعوام، يأتي حادث هجرة الرسول من مكة المكرَّمة إلى المدينة المنورة ليذكرنا دائمًا بمجموعة من الدروس والعبر غاية في الأهمية، وقد أبدع العلماءُ والكتّابُ قديمًا وحديثًا في استخراج هذه الدروس وتلك العبر.

ولا أدَّعي أني قرأت كلَّ ما كتبه سادتنا وعلماؤنا حول هذا الحدث العظيم والجليل، وإنما قبسًا منه، ورأيتُ مما أفاض الله به عليهم من نور الحكمة ودقة الفهم ما تقرُّ به العين ويسعد به القلب. ولكني أردت أن أقف على ملمحٍ مهم للغاية -وقد عالجه العلماء بتوسع أيضًا- غير أني أردت أن أربطه بواقع كلٍّ منا، ألا وهو الهجرة والتخطيط لعام جديد.

ورغم أن خطة الرسول للهجرة وما بعدها، لم تكن خطة عام واحد، وإنما كانت لمرحلة كاملة من الدعوة إلى الله ، ولم تكن لفرد واحد أو أسرة واحدة أو قبيلة بمفردها، وإنما كانت لأمة ممتدة زمانًا ومكانًا -رغم هذا كله- إلا أننا نعرض هنا إمكانية أن كلاًّ منَّا يستطيع أن يضع خطة لنفسه وأسرته وعائلته بل وأمَّته أيضًا.

سؤال وسؤال !

إن السؤال الذي يطرح نفسه كل يوم، بل كل ساعة هو ماذا أفعل خلال هذه الساعة أو هذا اليوم؟ ويزاد الأمر إلحاحًا مع مرور الشهور تباعًا، ويبلغ الأمر ذروته مع قرب انتهاء العام وبداية عام جديد، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12].

فماذا ستفعل خلال عام قادم ؟!

إن هذا السؤال يقودنا إلى سؤال أصعب منه، وهو ماذا فعلت خلال عام بل أعوامٍ مضت؟!

لا شك أن البعض أحسنَ، ولا شك أيضًا أن الكثير نادم لشعوره أنه لم يحسن، وأن الأمور كانت لتسير بشكل أفضل لو أحسن التخطيط لها.

وحتى لا ندور في فلك ما مضى، دعونا نبدأ معًا صفحاتٍ بيضاء نقية صافية، وحتى تكون تلك الصفحات ناصعة البياض دعونا نملأ سطورها الأولى بالاستغفار وحسن التوجُّه إلى الله أن يوفقنا إلى تدبُّر أمرنا، وأن يصلح حالنا.

نقاط خطتنا عشر فأتقنوها !!

عشر خطواتمذ كنت في الثانوية، ومع بداية كل عام هجري أو ميلادي بل ومع تاريخ ميلادي الهجري والميلادي أيضًا، كنت مع كل مناسبة من هذه المناسبات أحاول وضع خطة للعام اللاحق لكلٍّ منها، وكانت الخطة تخرج بسيطة لكنها كانت تعبر عن حاجاتي وما أريده في تلك المرحلة، وأذكر من بنود تلك الخط متابعة مجلات كذا وكذا (إسلامية شهرية)، وشراء كتب كذا وكذا (ثقافية عامة)، وتوفير بعض المصروف اليومي لتنفيذ عناصر الخط.

ورغم أن الكثير من القراء يفوقون كاتب هذه السطور في مجال وضع الخط ومتابعة تنفيذها، إلا أني أرى أن بنود أو عناصر هذه الخطة البسيطة الهادفة ينبغي ألاَّ تخلو من محورٍ من هذه المحاور:

أولاً: الجانب الإيماني

كيف حالك مع الله الآن وفيما مضى؟ وهل تريد أن تظل على هذه الحال أم تريد أن ترتقي؟

إذن فضع في خطتك في هذا الجانب حالك مع تدبر القرآن، ومع قيام اليل والتهجد والذكر، فضلاً عن صلاة الجماعة، والسن الراتبة، وابدأ يومك دائمًا واختمه بالاستغفار.

ثانيًا: الجانب الدعوي

وهو ثمرة الجانب الإيماني، فالإناء -كما يقولون- لا يفيض إلا إذا امتُلِئ، فلن تكون داعية بحق إلا إذا امتلأ قلبك إيمانًا وصدقًا مع الله ، ومن ثَمَّ تشعر بمسئولياتك تجاه إصلاح الناس، وسَلْ نفسك دائمًا هل تقوم بالدور المطلوب منك تجاه دعوتك أم لا؟

ثالثًا: الجانب العلمي

وأقصد به هنا التخصص العلمي، سواء كان دراسة في إحدى دور العلم (معهد أو جامعة …)، أو كان عن طريق التلقي عن أحد العلماء، فماذا حصَّلت من علمٍ في تخصصك؟ وماذا تنوي أن تحصِّل؟ وهل أعددت العدة لذلك من وقت وجهد ومال؟ فكما قال يحيى بن معين: لا يستطاع العلم براحة الجسم.

رابعًا: الجانب الثقافي

وهو أوسع دائرة من الجانب العلمي، لكنه أقل تخصصًا، وهو المشهور بقولهم: اعرف شيئًا عن كل شيء. فماذا تتابع من أخبار؟ وأيُّ كتب عامة تقرأ؟ وكيف علمك بما على الساحة الآن من طرح لمختلف القضايا؟ ثِقْ أن هذا الجانب سيساعدك كثيرًا في اتخاذ قرارات مناسبة.

خامسًا: الجانب الصحي

الكشف الطبي وإجراء التحاليل حتى ولو لم تعانِ من أي أمراض، وقد يرى البعض هذا الأمر مبالغةً، غير أن الواقع يشهد بأن الكثير من الأمراض قد تنشأ بسيطة بحيث لا يظهر لها أعراض، وتستفحل بعد ذلك -عافانا الله جميعًا- خاصة في عصر الإشعاعات والتلوث بكافة أصنافه. ومن هنا أرى هذا لزامًا على كلٍّ منا، وإن كان مرتفع التكلفة إلا أنها في محلها. وكذلك يدخل في هذا الجانب الاعتناء بالنظافة العامة، والتجمُّل، وغير ذلك من هذا الباب.

النجاحسادسًا: الجانب المالي

ما هي خطتك وخطواتك في تنمية مالك إن كان لك، أو إيجاده إن لم يكن؟ فكثرة المال ليست عيبًا، ف "نعم المال الصالح للرجل الصالح"[2] كما قال . ولا يتنافى هذا مع الزهد، ما دامت الدنيا في يدك وليست في قلبك، فلا بأس بوضع خطة لتنمية مالك لتطعم وتنفق مما وسع الله عليك.

سابعًا: الجانب المهني أو الوظيفي

لا بُدَّ أن تتضح لدى كل منا أهدافه وطموحاته المهنية والوظيفية، ولا بدّ أن يطّور نفسه من خلال الدورات التدريبية المتخصصة في مجال عمله أو مهنته، وأن يراعي في ذلك ميوله ومهاراته لينميها، ويصقل ما لديه من قدراتٍ، حتى يكون إنتاجه وفيرًا وذا جودة عالية، وينعكس ذلك -دون شك- على حياته فيعيش راضيًا مطمئنًا.

ثامنًا: الجانب الأسري

مما ينبغي ألاَّ يغيب عن ذهن كل منا أثناء وضع خطته؛ أسرته (الزوجة والأولاد)، وكيف يرتقي بهم علميًّا وتربويًّا، وينتقل بهم من حَسَنٍ إلى أحسن. وأما غير المتزوج فسيكون هذا الجانب في خطته في طور الإعداد؛ حيث البحث عن الزوجة الصالحة، أو إتمام مراحل الخطوبة والعقد، وأن تكون خطواته واقعية وملائمة لأحواله المعيشية.

الجوانب العقليةتاسعًا: الجانب العائلي

وهو أوسع دائرة من الجانب الأسري، وهذا الجانب يشمل الأهل والأصهار، وهو جانب من الأهمية بمكان، حيث تتصدر صلة الرحم في الإسلام مكانة عظيمة، ولا أخفيكم سرًّا فأنا أضع صلة الرحم كأحد الموارد المالية، يقينًا بحديث رسول الله : "من سره أن يُبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه"[3].

عاشرًا: الجانب الاجتماعي

وهو أكثر اتساعًا من الجانبين السابقين (الأسري والعائلي)، فهو يشمل كافة المعارف والأصدقاء والجيران وزملاء العمل، وكلٌّ له خصوصية في التعامل. ويشمل أيضًا من نتواصل معهم عبر الإنترنت وغيره من الوسائل الحديثة، وهؤلاء لا بدّ أيضًا من وضع النقاط على الحروف في التواصل وحسن التعامل معهم لحتمية التأثير والتأثر بهم.

التوكل على الله تعالىبين التخطيط والتوكل على الله

مما لا شك فيه أن مثل هذه النقاط -رغم بساطتها- إلا أنها تستوعب حياة الإنسان، وتحتاج عند وضعها في خطة عملية واقعية إلى بعض الوقت والجهد، حتى تؤتي ثمارها المرجوّة بإذن الله.

ومع الأخذ بكل الأسباب -قدر الإمكان- إلا أننا يجب ألا ننسى دائمًا الاعتماد الكامل والتوكل على الله ، والارتباط به دائمًا وأبدًا، والإكثار من الدعاء بالتوفيق لما يحب ويرضى.

وأختم بقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:

"وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان.. ثم تستقر أخيرًا وفق مقتضيات الحكمة العليا، وفي حدود قوله تعالى: {وَالَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21][4].

[2] رواه أحمد (17798)، وصحه شعيب الأرناءوط.
[3] رواه البخاري (1961).
[4] محمد الغزالي: فقه السيرة ص127، ط2 الشروق، 2022م.

بقلم: حسين العسقلاني




خليجية



خليجية



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ام ورد خليجية
خليجية

خليجية




التصنيفات
منتدى اسلامي

الهجرة ضرورة شرعية وتاريخية

بقلم: م. محمد إلهامي[1]

الهجرة ضرورة شرعية وتاريخيةترى هل كان التأريخ بالهجرة كما جرى في عهد عمر t وحيًا؟ أم كان ثمرة العقل العمري الألمعي الجبار؟ ذلك الذي بلغ من الشفافية والعبقرية أن نزل وحي السماء يوافق رأيه في غير مرة. الحقيقة أن الإجابة غير يقينية، وقد تكون غير مفيدة على المستوى العملي، رغم أن السؤال يمثل إغراء نظريًّا مثيرًا لعقول الفلاسفة والمنظرين؛ لأن ذلك القرار حمل المسلمين -على مدى القرون التالية- لأن يقفوا كل عام أمام حادث الهجرة يتأملونه ويستنطقونه، وفي كل مرة يعطيهم ذات الحدث الواحد دروسًا تبدو بلا نهاية.

(1)

كان قيام الدولة الإسلامية ضرورة شرعية، وضرورة تاريخية أيضًا؛ فعلى المستوى الشرعي كان لا بد لرسالة الله الأخيرة للبشر على هذه الأرض أن تستكمل فصولها لتخبرهم كيف يديرون حياتهم في دولة، وكيف ينظمون لأنفسهم طرق السياسة والإدارة والحرب والقانون، فكان لا بد من وجود صورة للدولة الإسلامية التي هي بمنزلة النموذج الذي يظل يُلهم الناس ويحثهم على الارتفاع لمثاله وتقليده. وهذه صورة لا يستفيد منها المسلمون وحدهم بل هي أيضًا من وسائل الدعوة لكل العالمين، فإن تحقيق الفكرة للنجاح على الأرض يدفع ويُغري من لم يقتنع بالفكرة ذاتها إلى أن يقتنع بها حين يرى آثارها وثمارها.

وذلك قانون تاريخي لا يُجادل فيه، فكل فكرة في التاريخ لم تستطع صناعة دولة مات في مهدها أو في صباها، أو ظلت –في أحسن الأحوال- حلمًا يراود الخيال، وينفر منه الواقعيون، ويطرحه السياسيون والقادة وصناع التاريخ.

فكان لا بد للرسالة الخاتمة أن تُنشئ الدولة لتحقق ثمرة الفكرة، ولتثبت الفكرة أنها عملية قادرة على الحياة وقابلة للتطبيق، بل هي النموذج الأمثل والأنجح من بين كل الأفكار. هذا على مستوى الضرورة الشرعية.

وأمَّا على مستوى الضرورة التاريخية، فيبدو الأمر واضحًا لو حاولنا تخيل مسار التاريخ الإنساني بدون الرسالة الإسلامية، إن الصورة تبدو كارثية بكل الوجوه؛ فإن القفزة الحضارية التي صنعها المسلمون وضعت بصمتها على كل التاريخ الإنساني وعلى مختلف أنشطة السلوك الإنساني، حتى ليبدو المفكر الإنجليزي الكبير مونتجمري وات مذهولاً إذ يقول: "إننا لنجد شيئًا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو أمر يخلب البَّ، حين نقرأ عن كيف تحوَّلت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية"[2]. هذا مع اعتراف المستشرق الإنجليزي الشهير ألفريد جيوم بأن تأثير الحضارة الإسلامية لم تدرك أبعاده بشكل كامل إلى الآن، يقول: "وعندما ترى ضوءَ النهار جميعُ الموادِّ النفيسة المختزنة في مكتبات أوربا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عُرِفَ عنه حتى الآن"[3].

(2)

وحيث كانت الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وتاريخية، فإن مسار سيرة النبي الكريم كان مسار رجل يبحث عن القلوب ليهديها ويعطيها الإيمان، وكان -في ذات الوقت- مسار رجل يبحث عن الأرض لإقامة الدولة؛ فالمرحلة المكية كانت غرسًا للعقيدة الإسلامية في النفوس، ونشرًا لهذا النوع الجديد من الوعي ولهذه النظرة الجديدة إلى الإنسان والناس والكون وطبيعة الحياة وهدف الوجود.

ولكنها -بزاوية نظر أخرى- كانت أيضًا مرحلة البحث عن الأرض التي تقوم فيها الدولة الإسلامية، ويبدو هذا الهدف (البحث عن أرض لإقامة الدولة) واضحًا في كل خطوات النبي ؛ فمبكرًا جدًّا كان حريصًا على إيمان سادات قريش وكبرائها، وكان حرصه عظيمًا إلى الحد الذي عوتب فيه بقرآن يصفه بأنه "يقتل نفسه" من الغم لعدم إيمانهم، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

ثم عوتب حين عبس لأعمى شغله عن جلسة مع كبار القوم، فنزل قول الله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 5-10].

بل تروى بعض الآثار -وفيها ضعف- أنه همَّ بالاستجابة لطلب سادات قريش بأن يجعلوا لهم مجلسًا غير مجلس العبيد؛ لئلاَّ تسقط بينهم المقامات، فنزل قول الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].

ولكن اللافت للنظر، والجدير بالتأمل والاعتبار أنه -وقد واجه إصرارهم على ما هم فيه واستكبارهم عن الإيمان- لم يقعد جالسًا منتظرًا أن يحوِّل الله قلب أحدهم إلى الإيمان، أو منتظرًا تغيُّر الظروف والأحوال وموازين القوى في مكة، بل جدَّ في البحث بعدما بدا أن الأحوال في مكة لا تبشِّر بخير في المدى المنظور.

فكان أن خرج النبي إلى الطائف -وهي القوة المنافسة لقريش في الجزيرة- باحثًا عن هذه الأرض وعن هذه الحماية التي تمكِّنه من الانطلاق في دعوة الناس إلى الإسلام، وحين وُجِه هناك بأقسى مما توقع فأُوذي وأُهين وهو الكريم النسب والخلق وبعد أن تجاوز الخمسين -بأبي وأمي ونفسي!- لم يقعد ولم ينتظر، بل لقد وسَّع دائرة البحث حتى كان يعرض نفسه (وكم توحي هذه العبارة بالحال والإصرار على الهدف! كما توحي بالهوان على الناس) على القبائل في موسم الحج. وكان شعار هذه الفترة معبرًا عن طبيعة الهدف "أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي"[4].

وذكر أصحاب السِيَر أسماء خمس عشرة قبيلة[5] كلها رفض دعوته، حتى أعثره الله في آخر الأمر على النفر الستة من يثرب، فأيده الله بهم.

وأخيرًا تحقق الهدف، وجدت الأرض التي تستعد لإقامة دولة الفكرة، دولة الإسلام.

وعبر بيعتي العقبة الصغرى والكبرى، وسفارة مصعب بن عمير -الذي جمع بين علم يستوعب به الرسالة ودبلوماسية يستوعب بها الواقع وأهداف المرحلة- تم الإعداد لدولة الإسلام في المدينة، وفي هذه الحظة انتهت المرحلة المكية وبدأت المرحلة المدنية.

(3)

إن مما يلفت النظر هو أن النبي قَبِل بالحد الأدنى من شروط إقامة الدولة في المدينة، وقبل بأدنى درجات الحماية والنصرة، وهي الحماية داخل المدينة فقط[6]؛ في بيعة العقبة الثانية كان النص يقول: "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم"[7]. فعبّر عن الحماية داخل المدينة بلفظ "تمنعوني".

ومن ثَمَّ حين خرج لاعتراض عير لقريش في بدر، فكان أن الله قد قدّر أن يفلت العير، وتصير الثلة القليلة أمام جيش قريش وعن غير استعداد، احتاج النبي إلى ما نستطيع أن نسمِّيه "بيعة جديدة" تشمل بند "القتال والنصرة خارج المدينة"، وهو ما وافق عليه الأنصار على لسان سيدهم سعد بن معاذ.

محمد صلى الله عليه وسلم وهذا دليل آخر يثبت ضعف رواية تفاوض النبي مع بني شيبان، والتي تقول بأنهم قبلوا حمايته فيما يخص جهة العرب، أما من جهة الفرس فإنهم لا يستطيعون، وحينها قال : "إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه"[8].

إن السيرة تثبت أن المرحلة المكية كانت مرحلة غرس العقيدة والإيمان، ولكنها كانت أيضًا -وفي الوقت ذاته- مرحلة البحث عن "استقلال" أو عن "أرض تقوم عليها الدولة".

(4)

فالهجرة تتويج لحركة النبي الفعالة طوال المرحلة المكية، وهو درس ينبغي أن يستوعبه المسلمون، لا سيما القائمين على الإصلاح والنهضة في الأوطان الإسلامية، ولم يعد من المفيد أن يركز كثير من العلماء والدعاة على سبب ضعف التربية وقلة الوعي لدى الشعوب العربية والإسلامية؛ ولذا يسيرون في طريق تكثيف الدروس المعنية بتعليم العقيدة (وفرق كبير بين التعليم النظري والتشرب الروحي)، أو دروس الرقائق والروحانيات.

كثيرًا ما يبدو الغضب والانزعاج على العلماء والدعاة والمربين والقائمين بالإصلاح تجاه وقوع تقصير من الأفراد في الأوراد التعبدية أو في السن والنوافل، أو باتجاه ارتكاب بعض الذنوب وجُلّها من الصغائر. وكثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام خطابًا يُحمِّل الذي يسمع الأغاني أو المتبرجة أو المتعلق بالكرة أو غير المقيم على تلاوة القرآن (وكل هذا مرفوض قطعًا)، مسئولية ما صارت إليه الأمة من الضعف والهوان.

ونرى أن هذا من تحميل الأمور فوق طاقتها، وفي سيرة النبي وطوال المرحلة المكية لم نر أسلوبًا كهذا، وقد أتى خباب بن الأرت t وبدا منه جزع لما لحقه من تعذيب شديد، وكان أن غضب النبي لما بدا من خباب، وقال قولته الشهيرة: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَالَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ الَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"[9].

كما أن عمار بن ياسر وأمه سمية وصهيب والمقداد y لم يتحملوا التعذيب الشديد فنطقوا بكلمة الكفر، كما في حديث ابن مسعود قال: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال"[10].

وأتى عمار للنبي حزينًا، فقال له النبي : "ما وراءك؟" قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: "كيف تجد قلبك؟" قال: مطمئن بالإيمان. قال: "إن عادوا فعد"[11].

ثم نزل فيه قول الله يستثنيه من العذاب {مَنْ كَفَرَ بِالَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ الَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].

ولم ير النبي في أزمة الرسالة وقتها أن هذا بسبب أن بعض من أصحابه -كخباب وعمار- لم ينجح في اختبار الثبات والصمود، وبالتالي فتلك الفئة ما زالت في حاجة لمزيد من التربية والاحتضان والرعاية.

لم يعتمد النبي هذا التفسير، ولم يعتبر أن هذا هو سبب تأخر النصر والتمكين، بل تعامل مع الأمر تعامل الطبيب الذي أعطى دواء مرًّا لخباب، ورفض أن يتخلى عن صفة الصبر، وأعطى دواء حلوًا لعمار الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. ثم استمر في مسيرته لمعالجة سبب الأزمة الحقيقية وهو عدم "الاستقلال" في أرض تعيش عليها الفكرة الإسلامية في أمان، وفيها تثمر.

(5)

والهجرة درس في البحث عن الحل العملي الواقع، الذي يهتم بتغيير الواقع أكثر مما يهتم ب "الاتهامات الإعلامية" -لو صح التعبير- التي تستطيع التشويش وإثارة المشكلات لمن يهتم لها كثيرًا. وأكاد أتخيل أن الهجرة النبوية لو تسلط عليها إعلام مثل إعلام العصر الحالي، فسيستطيع رميها بكل نقيصة، وحينها ستتحول إلى "الهروب الكبير"، و"التخلي عن مشكلات الوطن"، و"لقد ترك محمد المسلمين الضعاف في مكة يعذبون وذهب ليعيش ملكًا منعمًا في المدينة"، وإنه "يمارس من المدينة جهاد الميكروفونات والمستضعفون في مكة يعذبون". إن "الهروب إلى المدينة دليل على الفشل في مواجهة المشكلات الداخلية"، وهو كذلك "استعانة بالدول الأجنبية"… إلخ.

ستتحول الهجرة المجيدة إلى "خيانة عظمى" لو تسلط عليها مثل إعلام العصر الحالي، الذي يُدار معظمه -سرًّا أو علنًا- من القوى التي تعادي الأمة وتفترسها وتريدها عاجزة ضعيفة بلا جهاد ولا مقاومة ولا ذاتية ولا هوية.

ولا بد من حسن التصرف والتعامل مع الإعلام من قبل العلماء والمجاهدين والقائمين على الإصلاح، وهذا الجانب يحوي خللاً كبيرًا، فلا يكاد يمهر في هذا الجانب من بين الحركات الإسلامية الحالية إلا القليل.

غير أن الأهم من المهارة الإعلامية لدى حركات المقاومة والإصلاح ألاَّ تعيش تحت "القصف الإعلامي المتواصل" لخطواتها وحركاتها ومشاريعها، خصوصًا وأن رضا الناس غاية لا تدرك، فكيف لو كان هؤلاء الناس (الإعلام) -في معظمهم- لا يرضون عن المجاهدين ولا المصلحين إلا أن يتبعوا ملتهم، وهي غربية أو أمريكية أو إسرائيلية؟!

لقد كان الواجب العملي والحل الواقعي أن يهاجر النبي إلى المدينة ثم يعود بجيش يحرر المستضعفين من المسلمين في مكة، لا أن تتوقف الحياة في سبيل "الواجب الأخلاقي الذي يقتضي -على الأقل- مشاركة القائد للمستضعفين الذين يعذبون بسببه في المحنة، لا تركهم في الأسر والبحث عن نعيم الملك في المدينة".

(6)

والهجرة -أيضًا- درس في البحث عن الحل الجوهري، وترك الحلول الجزئية التوفيقية أو التلفيقية التي تعطل المسيرة الإصلاحية وتمتص حماستها وزخمها، وتعمل على حصارها أو تخديرها أو تنويمها.

ويبدو هذا الدرس عظيمًا في كل العصور وأمام كل المشكلات، إلا أنه في "عصر المفاوضات" يبدو أشد عظمة وأكثر إبهارًا، فكم من الثورات التي قامت بها الشعوب العربية والإسلامية دخلت في نفق الحلول التوفيقية! فوضعت على طاولة المفاوضات حتى انتهت وتلاشت.

إن المرء ليتذكر كثيرًا من هذه الثورات بحسرة، كما يتذكر وبحسرة أشد كثيرًا من الخِدَع التي انطلت على مجاهدين وثائرين وإصلاحين حتى اغتالت أحلامهم وأحلام شعوبهم وأتباعهم، والأمثلة كثيرة ولا أشك أن من يتأمل التاريخ والواقع سيخرج بالكثير من هذه الأمثلة.

إن سيرة النبي تخبر أنه لم يرض أبدًا بحل توفيقي طوال مرحلة الاستضعاف، لكنه ربما فاوض وبحث عن حلول وسطى في المرحلة المدنية، وذلك بالرغم من أن هذه الحلول التوفيقية كانت تتسع يومًا بعد يوم، ويزيد فيها الإغراء بعد كل نجاح إسلامي يتحقق.

لقد بدأت منذ أن عُرض عليه أن يعبد إلههم عامًا ويعبدون إلهه عامًا، ولئن كان هذا عرضًا مرفوضًا حتى في وجدان قارئ هذه السطور الآن بعد 1443 سنة، فإن العروض تطورت حتى وصلت إلى ذروتها مع عتبة بن أبي ربيعة "يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفًا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك، طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه… "[12].

والحقيقة أن هذا العرض بالملك والنفوذ والسيادة لا يزال يبدو مغريًا بعد 1443 سنة، فقط إذا وضع القارئ نفسه مكان النبي محمد المستضعَف في مكة، الحريص على إيمان السادة والكبراء، الباحث عن حماية ونصرة.

غير أنه رفض كل حل يخمد حماسة المؤمنين أو يعكر صفاء الفكرة، وظل يجاهد ويُؤذى ثم يجاهد ويؤذى، حتى أقام الدولة الحق بالحق. ولو أن هذا الدرس وعاه أبناء الأمة لما وجدنا واحدًا يكتب رحلة حياته -التي فشلت- في مذكرات بعنوان "الحياة مفاوضات".

(7)

والهجرة دليل على أن ثمة حلاًّ لكل مشكلة، وإني لأحاول أن أتصور نبي الله يجلس وهو في عمر الخمسين، بعد عشر سنوات من الجهاد والأذى يستعرض كيف قام بالدعوة منذ سنين، وكيف أوذي وكيف عُذِّب هو وأصحابه، وكيف حوصر في شعب أبي طالب حتى كادوا أن يهلكوا من الجوع، ثم كيف ذهب إلى الطائف وعاد منها مُهانًا، ثم كيف يعرض نفسه على القبائل فترده القبائل كلها كأنما دبروا هذا بليل.

ثم أتصوره وهو عازم لم يثنه كل هذا، وما يزال يحاول ويجاهد، ويبحث عن أرض تقله وعن بشر يحمونه، حتى يُظفره الله بنفر الأنصار الذين كانوا بداية النصر والتأيد {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].

وهنا يكمن الدرس، إن لكل مشكلة حلاًّ، لكن لا يصل إلى هذا الحل إلا من أخذ في البحث والتقصي واجتهد، قد يتعثر مرة ومرات لكنه سيجده. في سيرة النبي كلها لم توجد مشكلة لم يكن ثمة حل لها. وحيث إن النبي قدوة للمسلين جميعًا، فذلك دليل على أن المسلمين قادرون على إيجاد الحل لكل مشكلاتهم لو اقتدوا بالنبي وتعلموا منه .

صحيحٌ، قد يكون الحل صعبًا، وهي صعوبة تبلغ أن يقف النبي ناظرًا خلفه إلى مكة التي يعانقها اليل ويقول دامعًا: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"[13].

ولكن الذي أعثره على الحل يقول له: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، وقد حصل ودخل النبي إلى مكة فاتحًا ومتواضعًا. فمن ذا الذي يردُّ أمر الله وهو غالب على أمره؟!
[1] باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية، القاهرة (http://melhamy.tadwen.com).
[2] مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ترجمة حسين أحمد أمين، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى – القاهرة، مصر، 1403ه = 1983م، ص19.
[3] ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام) بإشراف توماس أرنولد، تعريب جرجيس فتح الله، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية – بيروت، 1972م، ص401.
[4] رواه أبو داود (4734)، والترمذي (2925) وقال: حديث غريب صحيح، وابن ماجه (201)، وأحمد (15229)، والحاكم (4220) وقال: صحيح على شرط الشيخين وافقه الذهبي. وصحه الألباني في التعليق على أصحاب السن، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد: صحيح على شرط البخاري.
[5] يرجع أصحاب السير في أسماء القبائل وعددها إلى الواقدي، وهو حجة في مثل هذه الأخبار وإن كان متروكًا في الحديث.
[6] د. أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة السادسة 1415ه = 1994م، ص358.
[7] رواه أحمد (14496)، وابن حبان (6274)، والحاكم (4251) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه وصحه الذهبي. وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد وصحيح ابن حبان: إسناده صحيح على شرط مسلم. وصحه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (63).
[8] وهي جزء من حديث طويل يحكي قصة دعوة النبي مفصلة مع كل قبيلة. رواه الديلمي (897، 7920)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5747)، وقال السيوطي في جامع الأحاديث (جمع الجوامع): ابن إسحاق في المبتدأ، والعقيلي في الضعفاء، وأبو نعيم، والبيهقى معًا في الدلائل، والخطيب في المتفق والمفترق، قال العقيلي: ليس لهذا الحديث بطوله وألفاظه أصل، ولا يروى من وجه يثبت إلا شيء يروى في مغازي الواقدي، وغيره مرسل. وضعفه الألباني، انظر: السلسة الضعيفة (6457).
[9] رواه البخاري (3416).
[10] رواه ابن ماجه (150)، وحسنه الألباني.
[11] رواه البيهقي (18215)، والحاكم (3362)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وافقه الذهبي. وخالفهما الشيخ الألباني في تخريجه لأحاديث كتاب (فقه السيرة) للشيخ محمد الغزالي في كون الحديث على شرط الشيخين، ولكنه صح نزول الآية في عمار لطريق أخرى ساقها ابن جرير الطبري في تفسيره. انظر: هامش ص81 من كتاب فقه السيرة. طبعة دار الشروق.
[12] رواه أبو يعلى (1818)، وابن إسحاق في السيرة، وحسّن سنده الألباني في تحقيقه لفقه السيرة للغزالي. انظر: هامش ص84.
[13] رواه الترمذي (3925) وقال: حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه (3108)، وأحمد (18737)، والحاكم (4270) وقال: على شرط الشيخين وافقه الذهبي. وصحه الألباني في التعليق على الترمذي وابن ماجه، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد: إسناده صحيح.




خليجية



خليجية



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ام ورد خليجية
خليجية

خليجية




التصنيفات
منوعات

من أبطال الهجرة أبو بكر الصديق رضي الله عنه

هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التميمي، كنيته: أبو بكر، ولقبه الصِّدِّيق، وكنية أبيه أبو قحافة.

كان أبو بكر t يسمَّى أيضًا: عتيقًا، وقيل إن سبب هذه التسمية أن النبي قال له: "أنت عتيق من النار". وقيل: إنه سُمِّي كذلك لحسن وجهه وجماله، ولقب بالصديق لتصديقه بكل ما جاء به النبي ، وخاصة تصديقه لحديث الإسراء وقد أنكرته قريش كلها. وأبو بكر الصديق أفضل الأمة مكانة ومنزلة بعد رسول الله ، فهو أول من أسلم من الرجال، وهو رفيق الرسول في هجرته، وخليفته على المسلمين.

هجرته:

لما أذن الله لنبيه بالهجرة إلى المدينة أمر النبي أصحابه أن يهاجروا، وجعل أبو بكر يستأذنه في الهجرة والنبي يمهله ويقول له: "لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبًا". حتى نزل جبريل u على النبي وأخبره أن قريشًا قد خطت لقتله، وأمره ألا يبيت ليلته بمكة وأن يخرج منها مهاجرًا، فخرج النبي وفتيان قريش وفرسانها محيطون بيته ينتظرون خروجه ليقتلوه، ولكن الله أخذ أبصارهم فلم يروه، وتناول النبي حفنة من التراب فنثرها على رءوسهم وهم لا يشعرون، وذهب إلى بيت أبي بكر وكان نائمًا فأيقظه، وأخبره أن الله قد أذن له في الهجرة. تقول عائشة: "لقد رأيت أبا بكر عندها يبكي من الفرح"، ثم خرجا فاختفيا في غار ثور، واجتهد المشركون في طلبهما حتى شارفوا الغار، وقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال له النبي :

"ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!". وأقاما في الغار ثلاثة أيام ثم انطلقا، وكان أبو بكر أعرف بالطريق، وكان الناس يلقونهما فيسألون أبا بكر عن رفيقه فيقول: "إنه رجل يهديني الطريق"، وبينما هما في طريقهما إذ أدركهما سراقة بن مالك، وكان قد طمع في النياق المائة التي رصدتها قريش لمن يأتيها بمحمد، ولما اقترب سراقة رآه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، ودنا سراقة حتى ما كان بينه وبينهما إلا مقدار رمح أو رمحين فكرر أبو بكر مقولته على النبي وبكى، فقال له النبي : "لِمَ تبكي؟". فقال أبو بكر: "يا رسول الله، والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك".

فدعا النبي وقال: "اللهم اكفناه بما شئت". فساخت قوائم الفرس وقع سراقة وقال: "يا محمد، إن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمّينَّ على مَن ورائي". فأجابه النبي إلى طلبه، ودعاه إلى الإسلام وعده إن أسلم بسواري كسرى. واستمرا في طريقهما حتى بلغا المدينة، واستقبل الصحابة مهاجرين وأنصار رسول الله وصاحبه بسرورٍ وفرحٍ عظيمين، وانطلق الغلمان والجواري ينشدون الأنشودة الشهيرة: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع…

اضطهاده:

كان أبو بكر ذا مكانة ومنعة في قريش، فلم ينله من أذاهم ما نال المستضعفين، ولكن ذلك لم يمنع أبا بكر من أن يأخذ حظه وقسطه من الأذى، فقد دخل النبي الكعبة واجتمع المشركون عليه وسألوه عن آلهتهم وهو لا يكذب، فأخبرهم فاجتمعوا عليه يضربونه، وجاء الصريخ أبا بكر يقول له: أدرك صاحبك فأسرع أبو بكر إليه وجعل يخلصه من أيديهم وهو يقول: "ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله". فتركوا رسول الله وجعلوا يضربونه حتى حمل أبا بكر أهل بيته وقد غابت ملامحه من شدة الأذى.

أعماله:

لأبي بكر الصديق t مواقف وأعمال عظيمة في نصرة الإسلام، منها:

– إنفاقه كثيرًا من أمواله في سبيل الله؛ ولذا قال النبي : "ما نفعني مال قط مثلما نفعني مال أبي بكر". فبكى أبو بكر وقال: "وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله"[1]. وقد أعتق أبو بكر من ماله الخاص سبعة من العبيد أسلموا وكانوا يعذبون بسبب إسلامهم منهم بلال بن رباح وعامر بن فهيرة.

– عندما مرض النبي قال لمن حوله: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت عائشة: يا رسول الله، لو أمرت غيره. فقال: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره". وقال عليّ بن أبي طالب: "قدّم رسول الله أبا بكر فصلى بالناس، وإني لشاهد غير غائب، وإني لصحيح غير مريض، ولو شاء أن يقدمني لقدمني، فرضينا لدنيانا من رضيه الله ورسوله لديننا".

– عندما قبض النبي فتن الناس حتى إن عمر بن الخطاب قال: "إن رسول الله لم يمت ولا يتكلم أحد بهذا إلا ضربته بسيفي هذا"، فدخل أبو بكر وسمع مقالة عمر فوقف وقال قولته الشهيرة: "أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت…".

– بعد مبايعة أبي بكر بالخلافة أصر على إنفاذ جيش أسامة الذي كان النبي قد جهّزه ولّى عليه أسامة بن زيد، وكان فريق من الصحابة منهم عمر قد ذهبوا لأبي بكر وقالوا له: إن العرب قد انتفضت عليك، فلا تفرق المسلمين عنك. فقال: "والذي نفسي بيده لو علمت أن السباع تأكلني بهذه القرية لأنفذت هذا البعث الذي أمر الرسول بإنفاذه، ولا أحلّ لواءً عقده رسول الله بيده". واتخذ الجيش سبيله إلى الشام تحت إمرة أسامة.

– واجه أبو بكر في بدء خلافته محنة كبرى تمثلت في ردة كثير من قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي ، ومنعت بعض القبائل زكاة أموالها، وأمام هذه الردة جهز أبو بكر الجيش، وقرّر حرب المرتدين جميعًا، واعتزم أن يخرج بنفسه على قيادة الجيش غير أن علي بن أبي طالب لقيه وقد تجهز للخروج فقال له: "إلى أين يا خليفة رسول الله؟ ضم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فوالله لئن أصبنا بك ما يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا".

فرجع أبو بكر، ولّى خالدًا على الجيش، وسار خالد فقضى على ردة طليحة الأسديّ ومن معه من بني أسد وفزارة، ثم توجه إلى اليمامة لحرب مسيلمة بن خسر ومن معه من بني حنيفة، وكان يوم اليمامة يومًا خالدًا، كتب الله فيه النصر لدينه وقتل مسيلمة وتفرق جنوده ومضى المسلمون يخمدون نار الفتنة والردة حتى أطفأها الله تعالى، ثم استمر جيش خالد في زحفه حتى حقق نصرًا عظيمًا على الروم في معركة اليرموك.

– لما أحس أبو بكر بقرب أجله شاور بعض كبار الصحابة سرًّا في أن يولي عمر بن الخطاب الخلافة من بعده فرحبوا جميعًا، غير أن بعضهم اعترض على غلظة عمر، فقال أبو بكر: "نعم الوالي عمر! أما إنه لا يقوى عليهم غيره، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد، إن عمر رأى لينًا فاشتد، ولو كان واليًا لَلاَنَ لأهل الين على أهل الريب". ثم أمر أبو بكر عثمان فكتب كتابًا باستخلاف عمر.

من أقواله:

– كان أبو بكر إذا مدحه أحد قال: "اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون".

– لما بايعه الناس خليفة للرسول خطب فيهم فقال: "أما بعد، أيها الناس فإني قد ولِّيت عليكم -ولست بخيركم- فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ألا إن الضعيف فيكم هو القوي عندنا حتى نأخذ له بحقه، والقوي فيكم ضعيف عندنا حتى نأخذ الحق منه طائعًا أو كارهًا، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".

– عندما امتنع بعض المسلمين عن أداء الزكاة قرّر أبو بكر قتالهم فذهب عمر إليه وقال له: "كيف تقاتلهم وقد قال النبي : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: "والله لأقاتلَنَّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة من حق الله، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه". قال عمر: "فلما رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفت أن الحق معه".

من مواعظه:

– "إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا، مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة".

– "وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد".

– "اعلموا -عباد الله- أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه فصدقوا قوله، وانصحوا كتابته، واستضيئوا منه ليوم الظلمة".

– قبل موته دعا عمر بن الخطاب وقال له: "إني مستخلفك على أصحاب رسول الله، يا عمر: إن لله حقًّا في اليل لا يقبله في النهار، وحقًّا في النهار لا يقبله في اليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تُؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقله عليه، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا.

يا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا، فلا ترغب رغبة فتمنى على الله ما ليس لك، ولا ترهب رهبة تلقي فيها ما بيديك.

يا عمر، إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء، وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم؛ لأنه تجاوز لهم ما كان من سيئ، فإذا ذكرتهم قلت: أي عمل من أعمالهم أعمل؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه".

وفاته:

توفِّي أبو بكر t في شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة قيل: يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى، وقيل: مساء ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة. وصلّى عليه عمر بن الخطاب، وكان أبو بكر قد ولد بعد النبي بسنتين وأشهر، ومات بعده بسنتين وأشهر مستوفيًا ثلاثة وستين عامًا وهو نفس العمر الذي مات عنه النبي ، واستمرت خلافة أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا.

وقال عمر في حقه: "رحمة الله على أبي بكر! لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا".

رثاه علي بن أبى طالب وهو يبكي بكاء عظيمًا يوم موته بكلام طويل منه: "رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله وأنيسه ومكان راحته، وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هديًا وسمتًا… سمّاك الله في تنزيله صدِّيقًا فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]. فالذي جاء بالصدق محمد ، والذي صدَّق به أبو بكر. واسيته حين بخل الناس، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة، وخلفته في دينه أحسن الخلافة، وقمت بالأمر كما لم يقم به خليفة نبي…".

المصدر: موقع إسلام أون لاين.
[1] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.




مشكوره



خليجية



خليجية



اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اصعب دمعه خليجية
مشكوره
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ام ورد خليجية
خليجية
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قلب ناعم خليجية
خليجية

خليجية




التصنيفات
منوعات

أعظم أنواع الهجرة

الحمد لله ذي الفضل والإحسان، شرع لعباده هجرة القلوب، وهجرة الأبدان، وجعل هاتين الهجرتين باقيتين على مر الزمان، وليكن لنا في سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم خير أسوة، وذلك بترسم خطاه والسير على نهجه والإقتداء به في أقواله وأفعاله وأخلاقه كما أمركم الله بذلك فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].

في أول شهر المحرم يكثر الناس من التحدث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم في الخطب والمحاضرات وسائل الإعلام، ولا يعدو حديثهم في الغالب أن يكون قصصاً تاريخياً يملؤون به الفراغ في أيام معدودات ثم يُترك وينسى دون أن يكون له أثر في النفوس أو قدوة في الأعمال والأخلاق، بل لا يعدو أن يكون ذلك عادة سنوية تت على الألسنة دون فقه لمعنى الهجرة وعمل بمدلولها.

إن الهجرة معناها لغةً:

مفارقة الإنسان غيره بدنه أو بلسانه أو بقلبه.

ومعناها شرعاً:

مفارقة بلاد الكفر أو مفارقة الأشرار أو مفارقة الأعمال السيئة والخصال المذمومة.

وهي من ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] أي مهاجر من أرض الكفر إلى الإيمان، وقد هاجر عليه الصلاة والسلام بعض ذريته إلى الشام حيث البلاد المقدسة والمسجد الأقصى، والبعض الآخر إلى بلاد الحجاز حيث البلد الحرام والبيت العتيق، كما جاء في دعائه لربه: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37].

والهجرة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

حيث أمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة لمّا اشتد عليهم الأذى من الكفار في مكة فخرجوا إلى أرض الحبشة مرتين فراراً بدينهم، وبقى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى الله ويلاقي من الناس أشد الأذى، وهو يقول: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} [الإسراء:80]، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة وأذن لأصحابه بالهجرة إليها، فبادروا إلى ذلك فراراً بدينهم وقد تركوا ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، وقد أثنى الله عليهم ومدحهم وعدهم جزيل الأجر والثواب، وصارت الهجرة قرينة الجهاد في كتاب الله عز وجل، وصار المهاجرون أفضل الصحابة حيث فرّوا بدينهم وتركوا أعزّ ما يملكون من الديار والأموال والأقارب والعشيرة، وباعوا ذلك لله عز وجل وفي سبيله وابتغاء مرضاته.

وصار ذلك شريعة ثابتة إلى أن تقوم الساعة فقد جاء في الحديث: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها»، فكل من لم يستطع إظهار دينه في بلد فإنه يجب عليه أن ينتقل منها إلى بلد يستطيع فيه إظهار دينه.

وقد توعد الله من قدر على الهجرة فلم يهاجر قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].

فهذا وعيد شديد لمن ترك الهجرة بدون عذر، وهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، وأنه ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي يترك الهجرة {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} أي لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض، وهذا اعتذار منهم غير صحيح لأنهم كانوا يقدرون على الهجرة فتركوها، ولهذا قالت لهم الملائكة توبيخاً لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}.

فمن لم يستطع إظهار دينه في بلد وجب عليه الخروج إلى بلد يستطيع فيها ذلك، فإن بلاد الله واسعة ولا تخلو من بلاد صالحة، قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] أي مكاناً يتحصن فيه من أذى الكفار، وسعة في الرزق، ويعوضه الله بها عما ترك في بلده من المال، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41-42].

ومن أنواع الهجرة هجر المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة، قال تعالى لنبيه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، الرجز: الأصنام. وهجرتها: تركها والبراءة منها ومن أهلها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم والسماع، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها.

ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالإبتعاد عنهم، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10] أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من سفهاء قومك: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10] أي اتركهم تركاً لا عتاب معه.

ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العباده له في السر والعلانية، حتى لا يقصد المؤمن بقوله وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعه وتقديم طاعته والعمل بما جاء به.

وبالجملة فهذه الهجرة هجرة إلى الكتاب والسنة من الشركيات والبدع والخرافات والمقالات والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة.

فتبين من هذا أن الهجرة أنواع هي:

هجر أمكنة الكفر… وهجر الأشخاص الضالين… وهجر الأعمال والأقوال الباطلة.. وهجر المذاهب والأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة.

فليس المقصود التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي، أو تقام لمناسبتها طقوس واحتفالات ثم تنسى ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك، فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة على رأس السنة لا يفقهون معناها ولا يعلمون بمقتضاها بل يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم؛ فهم يتحدثون عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتركهم أوطان الكفر إلى وطن الإيمان، وهم مقيمون في بلاد الكفر أو يسافرون إليه لقضاء الإجازة أو للنزهة أو لقضاء شهر العسل كما يسمونه بعد الزواج!!

يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عبادة القبور والأضرحة، بل يعبدونها من دون الله كما تعبد الأصنام أو أشد. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المذاهب الباطلة والآراء المضلة بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرذيلة. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عادات الكفار وتقاليدهم بل يتشبهون بهم، فأين هي معاني الهجرة وأنواعها من تصرفات هؤلاء؟

فاتقوا الله عباد الله، واقتبسوا من الهجرة وغيرها من أحداث السيرة النبوية دروساً تنهجونها في حياتكم، ولا يكن تحدثكم عن الهجرة مجرد أقوال على الألسنة أو حبراً على الأوراق.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

صالح بن فوزان الفوزان




شكرلكم



بارك الله فيك



جزاك الله خير



شكرلكم