ومن قدر الله عز وجل أن هذه الهموم ليست حالة ثابتة مستقرة بل إنها تتناوب على الإنسان بين الحين والآخر..وكل شخص طبيعي لا بد أن يمر بتلك الحالة في فترة أو فترات تطول أو تقصر من حياته..ولكل واحد منا طريقته ومنهجه في التعاطي معها.
وتأتي المشكلة من استعذاب بعض الشخصيات للهموم, حتى لا يكاد يريد أن يفر منها, وينجو إلى حالته الطبيعية..وقد يعود ذلك بالفعل إلى مشكلة عضوية تحتاج إلى علاج طبي, ولكن غالب هذه الحالات تكون مشكلتها في رؤية الشخص لهذه الهموم وقدرته على استنفار همته.
فقد يقدر لشخص ما أن يصاب بهموم متوالية تفقده القدرة على الاستمتاع بالحياة فترة من عمره طويلة, فيظن من فرط طولها أنها الحياة العامة التي يعيشها كل الناس فيستعذب الحياة فيها ولا يرغب في الانتقال عنها..
وقد تأتيه هذه الحالة من هم أكبر من قدراته النفسية وإمكانياته الذهنية فتسبب له صدمه مقعدة عن الحراك إلى حالته الطبيعية ويقضى غالب حياته ملازما لهذا الهم الوافد.
ولهذا الذي يستعذب البقاء في الهموم, رافضا الانتقال عنها, علامات يمكن أن يتميز بها..فهو دائما ما يميل إلى الجدية في كافة مفردات الحياة وتقل إلى حد الندرة مساحات اللهو المباح في حياته..وهو كذلك قليل الاهتمام بذاته ومظهره..يستكثر على نفسه أوقاتا ماتعة سواء في الترفيه أو غيرها,ويسعى دائما إلى شغل وقته بالعمل الشاق والمضني..
وتحتاج هذه الحالة من الشخص إذا ما وقع تحت وطئتها أن يستنفر الهمم ليواجه بها الهموم المتراكمة, ويزيحها عن حياته وينعم بما بقي له من عمر فيها..وليس ذلك يعنى أنه سيعيش بلا هموم, ولكن المراد أن نتعلم كيف نتخلص منها, ومن استعذاب الحياة بداخلها والانتقال إلى الحياة الطبيعة مرة أخرى..
ونجتهد أن نضع بعضا من الإرشادات المفيدة في هذه الحالة, لعل بعضا منها يكون نافعا لإخراج مستعذبي الهموم من همومهم.
أولا: العلم بأن هذه الحالة لا تقرها الشريعة, ولا ترضاها
لابد بداية أن يدرك الشخص أن هذه الحالة التي هو فيها, لا تقرها الشريعة, ولا ترضاها, بل تحث على التخلص منها, وذلك وارد في الحديث الذي رواه أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة التمس غلاما من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر. فخرج بي أبو طلحة مردفي، وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل، فكنت أسمعه كثيرا يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال". (الجامع الصحيح:2893)
فالهم والحزن, ليسا كما يتوهم البعض صفات ملازمة للمؤن, وعلامة يعرف بها, فهذا توهم خلافا للمعهود عن النبي صلى الله عليه وسلم وكونه هاشا باشا بين صحابته, ومع أهله, وذلك شأن صحابته أيضا.
ثانيا: الاستعانة بالله عز وجل للقضاء على ما تبقى من الهموم
وعلى صاحب الهم الملازم الذي لا يبرحه أن يستعين بالله عز وجل ويتذكر قول رسول الله عليه السلام: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله..".(صحيح الجامع:7957)
وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته كيف التخلص من الهموم والأحزان بالدعاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن، فقال:اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن امتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، و أبدله مكانه فرجا قال: فقيل:يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها". (السلسلة الصحيحة:199)
ثالثا: قطع الموارد الجالبة للهموم
تأتي الهموم وتراكم على الإنسان من عدة جوانب منها الحزن على ما قد فاته, والخوف من المستقبل القادم, والتطلع إلى ما عند الآخرين, مما حرم هو منه.
وكل هذه ليس بمقدور المرء التحكم فيها, فليس هو بقادر على استرجاع ما قد مضى, ولاضمان ما قد يأتي, ولا أن ينال من رزق قسمه الله عز وجل لغيره.
فلا عليك إلا أن تدع التفكير في الماضي، فإنه لن يعود مهما حاولت, وتذكر نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: "وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" (مسلم:2664)
ولا تستسلم لعقدة الإحساس بالذنب, إذا ما فاتك بعض الفرص الماضية, ولكن اشحذ همتك لصناعة فرصة جديدة, فربما صرفك الله عن الأولى وادخر لك ما هو خير لك.
وأما عن المستقبل, فهذا في غيب الله المكنون لم يطلع عليه أحد من البشر, قال تعالي: {إِنَّ الَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. (لقمان:34), فليس للإنسا أن يحزن أو أن يعيش في هم ما وجد في يومه ما يكفيه,ولا يشغل قلبه بالدنيا تأتيه تحت قدميه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همة فرق الله عليه شملة وجعل فقره بين عينيه, ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة همة جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه وأته الدنيا وهى راغمة".(صحيح ابن ماجه:3329)
ولا تنشغل بما وهبه الله لغيرك, فلكل رزق معلوم قسمه الله بين عباده,ولن يزيدك الحرص مما في أيدي الناس إلا هما وغما, ولن تنال مما قسمه الله لهم شيئا, قال تعالي موجها الخطاب للنبي الكريم: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(طه:131)
قال السعدي: أي: لا تمد عينيك معجبا، ولا تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها – بقطع النظر عن الآخرة – القوم الظالمون، ثم تذهب سريعا، وتمضي جميعا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارا، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملا".
رابعا: حصنك نفسك من الهموم
وإضافة إلى قطع الموارد الجالبة للهموم, يحتاج الشخص أن يحصن نفسه منها, وأن يحول دون تمكنها منه, والطريق إلى ذلك بالرضا والاطمئنان النفسي.. بأن ترضى بقضاء الله تعالى وتلحظ قوله تعالي: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216), فالمؤمن كل أمره خير كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" (مسلم:2999).
وأن تتذكر ما وهبك الله من نعم إذا ذهبت تحصيها لأعياك الإحصاء وما استطعت إليه سبيلا, قال تعالي: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(إبراهيم:34), بينما الهموم الواردة عليك هي إلى جانب هذه النعم جد قليلة.
خامسا: تذكر حياتك والثمن الفادح
لعل صاحب الهم الذي لا يريد أن يبرحه أن يتذكر كذلك الثمن الفادح الذي يدفعه..الثمن هو حياته كلها..فإذا آثر الإنسان البقاء خلف قضبان الهموم مكبلا بقيود الغم والحزن تسربت من بين يديه حياته يوميا بعد يوم, ولن يحصد إلا العض على أصابع الندم حينما تنقضي حياته دون أن يعيشها على وجهها الصحيح.
فلا تجعل الهم يسلبك حياتك, ولا تعط الأمور أكثر مما تستحق، واستنفر همتك لتعيش حياتك على وضعها الطبيعي الذي فيه الكدر والحزن وفيه السعادة والفرح..فالماء الراكد آسن لا ينتفع به صاحبه, وكذا إذا بقي الإنسان على حالة واحدة لفقدت الحياة متعتها..فكر دوما كيف تجعل حياتك متناغمة مع ما يطرأ عليك من حوادث, ولا تقضيها كلها على وتيرة واحدة.
تقبلي تقييمي ..