علاج الهموم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ، وعلى من سار على هَدْيِهِ واقْتَفى أثرهُ إلى يوم الدين، ثم أما بعد..
إن الله خلق الدنيا وضَمَّنَها الهموم والغموم تصيب الإنسان ، فهي دار الأدواء والشدة والضنك، ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم، قال تعالى {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِين} [الحِجر:48]، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة, قال تعالى " {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا * إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا }[الواقعة:25/26] وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة، كما دل عليه قول الحق تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد} [البلد:4] فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل ، مغموم في الحال.
القلوب تتفاوت في الهم والغمّ كثرة واستمراراً بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان، والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثهم وأحوالهم وما يحمله كل واحد منهم من المسئوليات. فمن الهموم هموم سامية ، ذات دلالات طيبة ، كهموم العالم في حلّ المعضلات التي يحتاج المسلمون ، وهمّ إمام المسلمين بمشكلات رعيته.ومن الهموم همّ الداعية في نشر الدين وحمل الرسالة ، وهمّ العابد في تصحيح عبادته في القصد والأداء، وهم المسلم بما يصيب إخوانه في أقطار الأرض..
ومن الغموم ما يكون بسبب مصائب الدنيا: كالأمراض المزمنة والخطيرة ، وعقوق الأبناء وتسلط الزوجة، واعوجاج الزوج وظلم الآخرين. ومن الهموم ما يكون بسبب الخوف من المستقبل وما يخبئه الزمان كهموم الأب بذريته من بعده وخاصة إذا كانوا ضعفاء وليس لديه ما يخلِّفه لهم ومن الهموم ما يكون ناشئاً عن المعاصي ، كالهموم التي تصيب المذنب بعد ذنبه كما يحدث في هم من أصاب دماً حراماً. وهكذا تتنوع الغموم والهموم.
يتفاوت تأثير هذه الهموم على الناس بتفاوت إيمانهم وقوة يقينهم بالله، فترى كثيراً من الكفار وكذلك ضعفاء الإيمان يُصابون بالانهيار أو يُقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة والحبوط واليأس إذا ما وقعوا في ورطة أو أصابتهم مصيبة. كم ملئت المستشفيات النفسية من مرضى الانهيارات العصبية والصدمات النفسية، وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون. أما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير}[المُلك:14] لقد أوضعت الشريعة الإسلامية أنواعا من الحلول والعلاجات النافعة للهموم والأحزان التي تدفع البلاء ويحصل بها المطلوب بإذن الله تعالى، ومن هذه الحلول والعلاجات ما يلي:-
أولاً : الإيمان بالله والعمل صالح.
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون}[النحل:97] فالمؤمنون بالله الإيمان الصحيح – المثْمر للعمل الصالح المصلح للقلوب – يتلقون النّعم والمسارّ بقبول لها، وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا بهجتها وطمعوا في بقائها وبركتها ورجاء ثواب شكرها. ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لِما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه ، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بُد. وقد عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى في الحديث الذي رواه مسلم بقوله : (عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ) من الخطوات العملية للعلاج أن يحرص المسلم على التزود بالأعمال الصالحة ، وذلك مثل: المحافظة على الصلوات في أوقاتها جماعة، و بر الوالدين، وأداء السن الرواتب، وقراءة القرءان الكريم، وصلة الرحم، وصيام النوافل، والصدقة، وقيام الليل وصلاة الوتر، إلى آخره من الأعمال الصالحة.
ثانياً : النظر في العاقبة.
فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهمّ لا يذهب سدى، بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته، وأن يعلم المسلم أنه لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفاليس كما ذكر بعض السلف، ولذلك كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاه) (رواه البخاري).
ثالثاً : اتخاذ الرسل والصالحين مثلاً وقدوة.
فهم أشد الناس بلاءً في الدنيا ، والمرء يبتلى على قدر دينه ، والله إذا أحب عبداً ابتلاه وقد سأل سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً. قَال:َ(الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) (رواه الترمذي وصحه الألباني)
رابعاً : التعلق بالآخرة والإيمان بزوال الدنيا.
عندما يوقن المسلم بأن الدنيا ليست دار قرار، وأنها زائلة وأن مردَّه إلى الموت، وأن الآخرة هي دار القرار، فأصبحت هي همه، فإن الله يجمع له شمله، لِما رواه أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ ) (رواه الترمذي وصحه الألباني)
قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: "إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه، حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها وكَلَه إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبَّته بمحبّة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشْغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره".
خامساً : ذكر الموت.
هو علاج مفيد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أكثروا ذِكرَ هادِمِ اللَّذاتِ : الموت، فَإنَّه لم يَذكُره أحدٌ في ضيقٍ منَ العيْشِ إلا وسَّعه عليه، ولا ذَكَِره في سِعة إلا ضيَّقها عَلَيْه) (رواه البزار عن أنس وحسنه الألباني)
سادساً : دعاء الله تعالى.
هو سلاح المؤمن في كل أحواله، وملجؤه عند كل شدَّة و كرب وضرٍّ، ومن الدعاء ما هو وقاية ومنه ما هو علاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويدعوه متضرعاً إليه بأن يُعيذَه من الهموم ويباعد بينه وبينها ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول 🙁 اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) (رواه البخاري) فإذا وقع الهم وألمّ بالمرء، فباب الدعاء مفتوح غير مغلق، والكريم عز وجل إن طُرق بابه وسُئل أعطى وأجاب.. يقول جلّ وعلا : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}[البقرة:186]
ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمّ والغم قَولَهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجا) قَالَ: فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا نَتَعَلَّمُهَا. فَقَالَ: ( بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا ) (رواه الإمام أحمد وصحه الألباني)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) (رواه البخاري)
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمر قال : ( يا حَيُّ يا قَيومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغيث ) (رواه الترمذي وحسنه الألباني)
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ، اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ). (رواه أبو داود صحه الألباني)
ومن الأدعية النافعة كذلك قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ، اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ) (رواه أبو داود وحسنه الألباني)
فالدعاء إذا سَلِم من الموانع من أنفع الأسباب في دفع الكرب والبلاء، وخاصة مع الإلحاح فيه، وعدم التعجل في الإجابة. فإن اجتهد في الدعاء، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له، وانقلب همه فرحاً وسروراً.
سابعاً : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الإكثار من الصلاة على النبي من أعظم ما يفَرِّج الله به الهموم ويغفر به الخطايا، روى الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ، اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ). قَالَ أُبَيٌّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي فَقَالَ: (مَا شِئْتَ) قَالَ: قُلْتُ الرُّبُعَ قَالَ: (مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك) قُلْتُ : النِّصْفَ. قَالَ: (مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) قَالَ: قُلْتُ فَالثُّلُثَيْنِ قَالَ: (مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا. قَالَ: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ) (رواه الترمذي وحسنه الألباني)
ثامناً : التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمر إليه.
قال ابن القيم في الفوائد " فمن علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المُتَفَرِّدُ بالاختيار والتدبير. وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحة العبد من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنْصَحَ للعبد لنفسه وأرْحم به منه بنفسه، وأبرّ به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر، فألقى نفسه بين يديه وسلَّم الأمر كله إليه، وانْطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر له التصرف في عبده بما شاء ، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه ، فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات".
و قال ابن السعدي في الوسائل المفيدة للحياة السعيدة " فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام ، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له ، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفَّل لمن توكَّل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده ، فيزول همه وقلقه ، ويتبدل عسره يسرا ، وتَرَحَه فرحا، وخوفه أمنا, فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير".
تاسعاً : الحرص على ما ينفع وعدم الحزن على ما مضى.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ) (رواه مسلم) قد علَّق ابن السعدي في الوسائل المفيدة للحياة السعيدة على هذا الحديث فقال: " والحديث المذكور يدلّ على السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرو، وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال ، وأن ذلك حمق وجنون ، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله ، مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر وآمال وآلام ، وأنها بيد العزيز الحكيم ، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها، ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره ، واتكل على ربه في إصلاحه ، واطمأن إليه في ذلك صلحت أحواله ، وزال عنه همه وقلقه".
عاشراً : المداومة على ذكر الله.
فإن لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته ، وزوال همه وغمه ، قال الله تعالى " (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب) [الرعد:28] ولهذا يشرع للمسل أن يكون لسانه رطبا بذكر الله تعالى في كل زمان ومكان، ومن أنواع الذكر التي يجب على المسلم المحافظة عليها :
(1) أذكار الأحوال و المناسبات، كأذكار دخول البيت والخروج منه، والأكل والنوم وأذكار الصباح والمساء وأذكار ما بعد الصلوات
(2) الأذكار ذوات العدد، كالتهليل عشر مرات، ومائة مرة، وسبحان الله مائة مرة.. الخ
(3) الذكر المطلق، كسبحان الله ، والحمد لله، و لا حول و لا قوة إلا بالله.
الحادي عشر: الجهاد في سبيل الله.
كما قال عليه الصلاة والسلام : ( عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ ) (صحيح رواه أحمد عن أبي أمامة عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنهما)
الثاني عشر : معرفة القيمة الوقت.
فالعاقل يعلم أن حياته قصيرة جداً ، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال مع الأكدار، فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة ، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهباً للهموم والأكدار
الثالث عشر : عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات.
ذكر ابن السعدي في الوسائل المفيدة بأنه " يجب حسم الأعمال في الحال والتفرغ للمستقبل ، لأن الأعمال إذا لم تُحسم اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة ، وان ضافت إليها الأعمال اللاحقة ، فتشتد وطأتها ، فإذا حسمت كل شيء في وقته تفّرغت للأمور المستقبلة بقوة تفكير وقوة عمل. وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم، فالأهم ويُمَيِّز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر ، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة ، فما ندم من استشار ، وادرس ما تريد فعله درساً دقيقاً ، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ".
الرابع عشر : طلب النصح والمشورة من أهل العلم والدين.
فإن نصائحهم وآراءهم من أعظم المثبتات في المصائب، ومن أعظم ما يخف آلام الهموم و الغموم.
الخامس عشر: اليقين بأن بعد العسر يسراً.
حسن الظن بالله وإنه سبحانه جاعل للهم فرجاً ومخرجاً وأنه كلّما استحكم الضيق وازدادت الكربة قَرُبَ الفرج والمخرج وقد قال الله تعالى في سورة الشرح {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }[الشَّرح: 5/6]
فذكر عسراً واحداً ويسرين، فالعسر المقترن بأل في الآية الأولى هو العسر في الآية الثانية، أما اليسر في الآية الثانية فهو يسر آخر غير الذي في الآية الأولى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: ( النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) (رواه أحمد وصحه الألباني).
السادس عشر : ومن علاجات الهموم ما يكون بالأطعمة.
روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ وَكَانَتْ تَقُول:ُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: ( إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ) و تُجِمَّ : أي تريح وتنشط وتزيل الهمّ والتَّلْبِينَةَ : تطبخ من دقيق الشعير ويجعل فيه عسل. قال ابن القيم في زاد المعاد: " وهذا الأمر – استغراب الناس من أن التَّلْبِينَةَ تذهب الهم – هو حق وصدق ما دام قد ثبت من طريق الوحي عن المعصوم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، والله خلق الأطعمة وهو أعلم بخصائصها، وبالتالي فإن حساء الشعير المذكور هو من الأغذية المفرحة "
وختاماً نسأل الله تعالى أن يعافينا من الهموم وأن يفرج عنا الكروب ويزيل عنا الغموم، إنه هو السميع المجيب، وهو الحي القيوم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه