عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره"
وهذا الخطاب موجه لمن يضحي وليس لمن ضحي عنه، وعلى هذا فالعائلة الذي يضحي عنهم قيم البيت لا يحرم عليهم أخذ شيء من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب من يضحي، وكان عليه الصلاة والسلام يضحي عنه وعن أهل بيته، ولم يأمرهم أن يمسكوا عن شعورهم وأظفارهم، فدل هذا على أن الحكم خاص بمن يضحي، وأما قول بعض أهل العلم: من يضحي ومن يضحى عنه فهذا لا دليل عليه]
طاعات وحمد وذكر
في هذه الأيام العشر
قال تعالى: {والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر * هل في ذلك قسم لذي حجر} [الفجر:1-4]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (التبيان في أقسام القرآن): [إن الفجر في الليالي العشر زمنٌ يتضمنُ أفعالاً معظمةً من المناسك، وأمكنةً معظمةً وهي محلها وذلك من شعائر الله المتضمنةِ خضوعَ العبد لربه، فإن الحج والنسك عبودية محضة لله، وخضوع لعظمته، وذلك ضد ما وصف به عادا وثمود وفرعون؛ من العتو والتكبر والتجبر، فإن النسك يتضمن غاية الخضوع لله؛ وهؤلاء الأمم عتوا وتكبروا عن أمر ربهم، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء". فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال؛ أهلٌ أن يقسم الرب عز وجل به.
{والفجر} إن أريد بالفجر فجر مخصوص؛ فهو فجر يوم النحر وليلته، التي هي ليلة عرفة، فتلك الليلة أفضل ليالي العام، وما رؤي الشيطان في أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه فيها، وذلك الفجر؛ فجر يوم النحر الذي هو أفضل الأيام عند الله، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عن عبد الله ابن قُرْطٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر، ثم يوم القَرِّ". قال عيسى: قال: ثَوْرٌ: وهو اليوم الثاني. رواه أبو داود بإسناد صحيح، وهو آخر أيام العشر، وهو يوم الحج الأكبر؛ كما ثبت في صحيح البخاري وغيره، وهو اليوم الذي أذن فيه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بريء من المشركين ورسوله، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريَان"، ولا خلاف أن المؤذن أذن بذلك في يوم النحر لا يوم عرفة، وذلك بأمر رسول صلى الله عليه وسلم، امتثالاً وتأويلاً للقرآن.
وعلى هذا فقد تضمن القسم المناسك والصلوات وهما المختصان بعبادة الله، والخضوع له، والتواضع لعظمته، ولهذا قال الخليل عليه السلام: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}، وقال لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم: {فصل لربك وانحر}، بخلاف حال المشركين المتكبرين، الذين لا يعبدون الله وحده، بل يشركون به، ويستكبرون عن عبادته، كحال من ذكر في هذه السورة؛ من قوم عاد وثمود وفرعون].
وقال في زاد المعاد: [ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض، فخير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر، ثم يوم القَرِّ".
وقيل: يوم عرفة أفضل منه، وهذا هو المعروف عند أصحاب الشافعي قالوا: لأنه يوم الحج الأكبر، وصيامه يكفر سنتين، وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة، ولأنه سبحانه وتعالى يدنو فيه من عباده، ثم يباهي ملائكته بأهل الموقف. والصواب القول الأول؛ لأن الحديث الدال على ذلك لا يعارضه شيء يقاومه، والصواب أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر لقوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله يوم الحج الأكبر}. [التوبة:3]. وثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما أذَّنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحج التي حج بهذا، وقال: "هذا يوم الحج الأكبر".
ويوم عرفة مقدمةٌ ليوم النحرِ بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع، والتوبة والابتهال والاستقالة، ثم يوم النحر؛ تكون الوفادة والزيارة، ولهذا سُمِّيَ طوافه طواف الزيارة، لأنهم قد طُهِّرُوا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم ربهم يوم النحر في زيارته، والدخول عليه إلى بيته، ولهذا كان فيه ذبح القرابين، وحلق الرؤوس، ورمي الجمار، ومعظم أفعال الحج، وعمل يوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم.
وكذلك تفضيل عشر ذي الحجة على غيره من الأيام، فإن أيامه أفضل الأيام عند الله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء". وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: {والفجر * وليالٍ عشر}. [الفجر:1-2].
ولهذا يُسْتَحَبُ فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد". ونسبتها إلى الأيام كنسبة مواضع المناسك في سائر البقاع].
وفي (مدارج السالكين):
[والأفضل في أيام عشر ذي الحجة؛ الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين].
وقال ابن حجر في الفتح (2/460):
[والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام، والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره].
فأول ما يجب عليك –أخي في دين الله- المحافظة على الفرائض في الجماعة، ثم تجتهد في السنن الرواتب، وقيام الليل، وسنة الضحى، وسائر النوافل، …
والتبكير للمساجد، والإكثار من قراءة القرآن …
والصدقة، وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر …
وبر الوالدين وطلب العلم والحج والعمرة …
وتصوم الأيام التسع إن استطعت، أو بعضها، وأهمها يوم عرفة لغير الحاج. لما روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة؛ أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده".
وكثرة ذكر الله لقوله تعالى: {ويذكروا الله في أيامٍ معلوماتٍ}. [الحج: 27].
وقال ابن عباس: ( … معلومات؛ أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق). [رواه البخاري تعليقا (1/329).]
وقال البخاري: [وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما].
ومن ذكر الله تعالى؛ (التكبير)، قال في دليل الطالب (ص:55): [يسن التكبير المطلق والجهر به في ليلتي العيدين … وفي كل عشر ذي الحجة، والتكبير المقيد في الأضحى عقب كل فريضة صلاها في جماعة، من صلاة فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، أما المحرم (الحاج) فيكبر من صلاة ظهر يوم النحر، ويكبر الإمام مستقبل القبلة، وصفته:
شفعا: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.
وقد ورد في الحديث الشريف: "أفضل ما قلت أنا والنبيون عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". [الصحيحة:1503].
أما الصوم فقد قال ابن عثيمين: [لأن الصوم من أفضل الأعمال الصالحة، حتى فيه الرب عز وجل في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". فهذا دليلٌ واضحٌ أنَّ الصوم من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل، فيكون داخلاً في هذا العموم، سواءً ثبت الحديث الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامها ولم يدع صيامها أو لم يثبت، لأن الصوم من العمل الصالح، هذا بالنسبة للعمل الصالح فيها عموما ..
=الأضحية والإمساك عن الشعر والظفر=
أما موضوع الأضحية؛ فإن الأضحية من نعمة الله سبحانه وتعالى؛ ومن رحمته ومن حكمته أن شرع لأهل الأمصار الذين لم يقدر الله لهم أن يحجوا، ويهدوا إلى البيت ما يشاركون به إخوانهم الحجاج، فشرع لهم الأضاحي، وشرع لهم إن دخلوا في العشر الأول من ذي الحجة؛ ألا يأخذوا شيئاً من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم، أي جلودهم، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره"
وهذا الخطاب موجه لمن يضحي وليس لمن ضحي عنه، وعلى هذا فالعائلة الذي يضحي عنهم قيم البيت لا يحرم عليهم أخذ شيء من شعورهم وأظفارهم وأبشارهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب من يضحي، وكان عليه الصلاة والسلام يضحي عنه وعن أهل بيته، ولم يأمرهم أن يمسكوا عن شعورهم وأظفارهم، فدل هذا على أن الحكم خاصٌ بمن يضحي، وأما قول بعض أهل العلم: من يضحي ومن يضحى عنه فهذا لا دليل عليه]
وفي صحيح الترغيب (1150):
وعن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل أيام الدنيا العشر". يعني عشر ذي الحجة، قيل : ولا مثلهن في سبيل الله؟! قال: "ولا مثلهن في سبيل الله؛ إلا رجل عفر وجهه التراب". الحديث.
رواه البزار بإسناد حسن وأبو يعلى بإسناد صحيح ولفظه قال: (صحيح لغيره): "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة"
قال: فقال رجلٌ: يا رسول الله! هنَّ أفضلُ أم عدتهنَّ جهاداً في سبيل الله؟ قال: "هن أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله؛ إلا عفيرٌ يعفرُ وجهه في التراب". الحديث [ورواه ابن حبان في صحيحه].