خلق الله لنا من أنفسنا أزواجًا لنسكن إليها, وجعل بيننا مودة ورحمة, وجعل هذا الخلق والتكوين من الآيات الداعية للتفكير والتأمل, فقال تعالي: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة, إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون ّ[الروم: 21]» ذلك أن الأسرة -كما جعلها الله وأراد لها أن تكون- هي محل السكن والسكينة, والدفء الاجتماعي والنفسي, ووسيلة المودة والإيثار, وموطن الرحمة والتراحم والإحسان, والأرض المناسبة لزراعة بذور مستقبل حياة الإنسان السلوكية, وميدان التدريب علي هذه المعاني الإنسانية الرفيعة, لتصبح سجية وخلقًا.
والتفكير في الأسرة وحمايتها, إنما يتطلب الكثير من التأمل والتخطيط لجميع وسائل التشكيل الثقافي والتربوي حتي لا تخرج عن مراد الله لها وحتي لا تتحول البيوت إلي حظائر لا يهمها إلا طعامها وشرابها ونكاحها, وتتحول المجتمعات إلي غابات, والاجتماع البشري إلي ساحة من الإباحية -باسم الحرية الشخصية والحقوق الإنسانية- هي أشبه بحدائق الحيوان, حيث أصبح الكثير من أناس اليوم لا يبصر إلا حقه الذي لا حدود له, وغريزته التي لا يهمه إلا إشباعها, دون أن يفكر ولو للحظة في أبعاد مسئوليته وواجبه.
لقد غاب إنسان الواجب, إنسان الفطرة, المنتج, باني الحضارة, وراعي الأسرة.. وبرز إنسان الغريزة, المستهلك للحضارة, المستهتر بالقيم.. وهذا دليل الوهن الحضاري حيث يسيطر حب الدنيا (الاستهلاك) وكراهية الموت (الإنتاج).
ولعل من أبرز سمات شخصية حضارة العصر: غياب إنسان الفكرة, إنسان الإيمان.. وبروز إنسان الغريزة, إنسان كفر النعمة, عديم المسئولية والشعور بالتبعة, الأمر الذي يذكرنا بقوله تعالي" بل يريد الإنسان ليفجر أمامه, يسأل أيّان يوم القيامة " { القيامة : 5 ـ 6 }.لقد تجسدت في سيرة المصطفي -صلي الله عليه وسلم- وهو القدوة, الأب والزوج, والصديق, والجار, والقريب… تجسدت في سيرته القيم والمعاني الإسلامية, لتكون أنموذجًا للحياة والعلاقات الأسرية الإنسانية جميعًا.
لكننا نري أن الفجوة لاتزال تتسع بين القيم الإسلامية والضوابط الشرعية وما أراده الله لجو الأسرة, من شيوع السكينة, والتمتع بالمودة والرحمة.. وبين الواقع المحزن الذي صار إليه حال الأسرة المسلمة اليوم. ولابد من الاعتراف أن الأسرة في عالم اليوم أصبحت أثرًا تاريخيًا, وأن الاستهداف والجراءة يزحفان علي الواقع الاجتماعي, ومقررات المؤتمرات أو المؤامرات تصاغ في غاية الخبث والذكاء والدهاء.. فمؤتمرات هنا ومعاهدات هناك, وجميعها تحاول تأكيد أن شكل الأسرة هو نمط اجتماعي تاريخي وتقليدي يمكن تغييره.. وتطرح مصطلحات وعناوين قد توحي بالمضامين, وعناوين تتفنن في إخفاء المضامين ومعظمها ظاهره فيه الرحمة والإنسانية وباطنه من قبله العذاب والشقاء والضياع.
والحقيقة أن الاستهداف يتمركز حول " الأسرة المسلمة " لأنها الحصن الباقي, أو البقية الاجتماعية الباقية, بعد أن انتهت الأسرة في الحضارات الأخري, وتحاول هذه الحضارات أن تدخل إلي الأسرة من أكثر من منفذ, شاءت الأسرة أم أبت.. فإلي أي مدي يمكن أن ندرك الحال, ونفكر في كيفية التعامل معه?
لقد دلت الشواهد التاريخية ولاتزال على أن التربية الأسرية هي الباقية, وهي القادرة على تنمية القيم والاحتفاظ بها وتجاوز كل حالات الظلم واليأس والفساد لذلك لا يتم السيطرة وإحكام الاختراق والهيمنة إلا باستهداف الأسرة لأنها المحضن التربوي الأقوى.
لقد حاول فرعون تدمير الأسرة وإلغاء دورها ورسالتها, والقضاء على إنتاجها, ضمانًا لاستمرار فساده, ولكنه في العواقب النهائية أتي من قبل الأسرة.
قال تعالى: { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } [القصص: 4].
ومن هنا ندرك بعض أبعاد دور أم موسى وأخته وموسي الذي تربي في بيت فرعون, الأنموذج المتصاعد في الظلم, ومن ثم كيف قوّض حكم فرعون وخرج عليه من خلال القصر الذي عاش فيه.. وكيف أن الله أوحي إلى أخته لتقصه, وكيف رده إلى أمه كي تقر عينها, ولتعلم أن وعد الله حق, وأن نقل هذا الحق وتشربه إنما يتم مع امتصاص اللبن ونمو الجسم.. قال تعالى: { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين, فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } [القصص: 7, 8].
وهكذا ندرك أن الاعتداء على الأسرة, ومحاولة إلغاء رسالتها ودورها, لم يتوقف تاريخيًا, ولكل عصر أساليبه, وليست قصة فرعون -كأنموذج متصاعد للظلم الإنساني, في تقتيل الأبناء واستحياء النساء- إلا نافذة تمكن الإطلالة منها على دور الأسرة وقدرتها على الصمود, والأمل المتجدد في أداء وظيفتها, مهما اشتدت التحديات.. إنه الأمل الخالد, ذو الدلالة المستمرة على أن الاعتداء على سنة الله في الخلق – بالعمل على تدمير الأسرة – سوف يبوء بالفشل, وينقلب السحر على الساحر.
إن تذبيح الأبناء, وتدمير الأسرة لايزال مستمرًا ولكن بأسلحة جديدة, من مثل أسلحة التعليم والإعلام والثقافة.. إلخ . فهل تعيد الأسرة اليوم التفكير برسالتها, وتطور وسائلها في التعامل مع هذه الأسلحة المصوبة إليها, وتستشعر التحدي وتكون تلك الأسلحة المشرعة حافزًا على العودة إلى الذات, والتشبث بالقيم الإسلامية, وتحقيق الانكسارات لهذه الأسلحة والسهام الموجهة لتعود إلى صدور أصحابها?
يقول الله تعالى: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين, ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } [القصص: 5, 6]. ولعل في فعل الاتحاد السوفيتي سابقًا, ومحاولاته المتعددة لجعل الحياة – ابتداءً من الأسرة – شيوعية منفلتة من كل الضوابط حيث لم يدخر وسعًا في بعثرة الأسرة ونشر الإباحية, وخلط الأنساب, وجعلها لقضاء الشهوة الجنسية كانسكاب كأس الماء, وما تكشّف عنه الحال بعد سقوط الاتحاد السوفيتي, خير شاهد على استعصاء الأسرة عن التذويب والإلغاء, وقدرتها على التجاوز والاستئناف.
القضية التي لا بد أن نسارع إلى طرحها وتأكيدها أن الأسرة في الحضارة الغربية تكاد تكون انتهت تقريبًا, وتحللت من كل القيود والضوابط الخلقية, والروابط الاجتماعية, والعلاقات الأسرية والزوجية على حد سواء… حتى إنها قد وصلت إلى مستويات ترقي عنها وتأنف منها بعض فصائل الحيوانات غريزيًا, إلى درجة يمكن معها أن ينال سجل الفضائح الجنسية أكبر الرءوس وأعلي المناصب, حتى بات الاعتراف بالزنا والخيانات الزوجية, والتبجح بذلك في التلفاز وأجهزة الإعلام, على مرأى ومسمع من الناس… أمرًا طبيعيًا أو أكثر من طبيعي. وأصبح لتجارة الجنس ومقاولات الدعارة مؤسسات عالمية, تجاوزت البالغين والمراهقين والشاذين من الجنسين, بسبب ما ألحقته بهم من إصابات مرضية رهيبة, أصبحت من الجوائح التي تهدد البشرية, لتدخل عالم الاعتداء على الأطفال, الذين لا يحملون هذه الإصابات, حماية من الأمراض.
أما عن قضية ملايين المرضي وملايين الشواذ, الذين أثمرتهم مجتمعات الإباحة والقيم الديمقراطية الغربية في المجال الاجتماعي باسم الحرية الشخصية, فحدث ولا حرج, حتى لقد اعتبر مؤلف كتاب: «أمريكا التي تخيف لا تخيف» أن أحد الألغام الاجتماعية الكبرى الثلاثة, التي سوف تنفجر, عاجلاً أم آجلاً, فتقضي على كل شيء هي قضية الجنس, التي تعتمل في داخل المجتمع الأمريكي بقوة, وتقترب به من حافة الانفجار, حيث آثارها الاجتماعية أصبحت ماثلة أمام العيان.
إن التوجه صوب الأسرة لإعادة بنائها وفق المعايير الإسلامية, واسترداد جو المودة والرحمة, وحمايتها من التفكك والانهيار, ودراسة المشكلات التي تعانيها على مستوي الذات, والاستهداف القادم من (الآخر), والذي مكن له تفريطنا الكبير… أصبح مطلوبًا من جميع الفعاليات السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية على حد سواء. ذلك أن الكلام عن نهاية مرحلة الأسرة, وتجسيد ذلك في أفعال وقرارات ومؤتمرات ومعاهدات دولية تُنتقي ألفاظها ومصطلحاتها بدهاء وخبث وتلغيم باطني, حتى لا تستثير ولا تثير ردود الفعل والاستفزاز والتحدي فتؤدي إلى عكس مفعولها, وإرسال جيوش من الخبراء والمستشارين باسم مساعدة الدول النامية على النهوض… كل ذلك بات يملأ المواقع جميعًا, ويلتقي كله في نهاية المطاف عند الأسرة» فليس المطروح عولمة الثقافة وعولمة المجتمعات ونهاية التاريخ, وإنما إنهاء الأسرة أو نهاية الأسرة, أو الاستنساخ الثقافي.
إن عمليات الاستهداف ورياح السموم تهب علينا من كل جانب, وتستنبت في أرضنا, وتأخذ أشكالاً متنوعة, حيث يراد للأسرة المسلمة أن تتحول حياتها من جو المودة والرحمة والطهر والعفة والاحتساب والتضحية والتوازن في العلاقات والحقوق والواجبات والمتأتية من الالتزام بشرع الله, إلى لون من الثنائية المتناقضة التي تؤذن بالصراع بين الرجل والمرأة, والأبناء والبنات, والصغار والكبار, وهكذا.. قال سبحانه وتعالي: ( ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) [النساء: 89].
نعتقد أن الفساد في داخل مجتمعاتنا وأسرنا اليوم إنما هو يمتد بمقدار ما نُحدثه من فراغ وجنوح عن القيم الإسلامية, ولقد أصبح من المسلمات الحضارية القول بأن كل ما يلحق بنا من إصابات علي الأصعدة المتعددة إنما هو بسبب منا, قال تعالي: { قل هو من عند أنفسكم } [آل عمران: 165]. لذلك, فالواقع الأسري اليوم يقتضي الكثير من المراجعة والشجاعة في النقد, وتحرير التعاليم الشرعية من التقاليد الاجتماعية الفاسدة التي تمارَس باسم الدين, واسترداد دور المرأة التي تعتبر أم الأسرة وركيزتها, وإعطاءها ما أعطاها الله وبيّنه رسوله صلي الله عليه وسلم, وإعادة تعليمها وتثقيفها لتمارس مهمتها الأساسية في التربية والتنمية الاجتماعية عن وعي وبصيرة» إذ كيف يمكن أن تربي أبناءها دون معرفة وعلم?! وكيف تستطيع أن تعدّهم لمجتمع لا تدركه?!
واللافت للنظر حقًا أن التفكك الأسري يزداد اتساعًا, ورسالة الأسرة ودورها يزداد انكماشًا, والإقدام علي بناء الأسرة بدأ يتضاءل.. فهل المشكلة حقًا في غياب الأب, أم في عدم أهلية الأب وإدراكه لمهامه? فقد يعيش الأب في غيبوبة أسرية وهو حاضر يعيش بين أفراد الأسرة.. وقد نجد أسرًا متماسكة متعاونة, اعتبرت غياب الأب محرضًا علي التماسك والشعور بالمسئولية!
وهل المشكلة حقًا في غياب الأم لساعات طويلة عن البيت, أو عمل الأم وعدم تفرغها للتربية? وهل تفرغها للتربية يقتصر علي البقاء في المنزل دون مؤهل? وهل وجود المرأة غير المؤهلة للتربية وغير المدركة لطبيعة المشكلات والظروف الاجتماعية, التي تعد أبناءها للتعامل معها, يحول دون التفكك الأسري? وهل الطلاق الذي شُرع حلاً وعلاجًا يتحول عند التعسف في استعماله ليصبح مشكلة وسببًا في التفكك?!
الحقيقة أن أسباب التفكك الأسري ليست ثابتة ولا جامدة وإنما متحركة في أثرها وتأثيرها حسب الظروف والتطورات» ذلك أن التقنيات الحديثة, من فضائيات, وفيديو, وكمبيوتر, وإنترنت أوجدت لكل فرد في الأسرة جوه الخاص, أو الجو البديل والمناخ البديل عن مناخ الأسرة, وإن كان ضمن الأسرة نفسها» فلكلي مجتمعه, ولكلي موارده التربوية والثقافية, ولكلي خياراته.. والأسرة بدأت تتحول شيئًا فشيئًا إلي مجمع سكني, أو مبني فندقي, أو مطعم متعدد الوجبات والزبائن..
إضافة إلي التقاليد والعادات والمسلسلات التي تحمل معها نماذج رديئة للعلاقات الزوجية, والخيانات الزوجية, وتغري بالاقتداء بها, عدا ما يقدم للأطفال ويشكّل خيالاتهم, ويعبث بعواطفهم.. والأمور إذا استمرت في الانحدار عما هي عليه فإنها تنذر بسوء العاقبة, والعياذ بالله.. فعلي الرغم من التقدم التقني والارتقاء بوسائل المعرفة, فإن ذلك مازال يترافق بانهيارات وتراجعات وتصدعات في البناء الأسري, وارتفاع نسبة الطلاق, والعزوف عن الزواج, إلي بدائل من العلاقات الاجتماعية غير المشروعة. ومن هنا تتبين خطورة النقل الثقافي والاغتراف الأعشي من حضارة (الآخر), أو من أمراضها, وتتأكد من جديد خطورة التهاون بالقيم الإسلامية في البناء الحضاري.
أسباب التفكك الأسري :
أومأت في مستهل هذه الدراسة الموجزة إلى أن الأسرة المسلمة في العصر الحاضر تعاني الضعف والتفكك, وأن الروابط التي ظلت تميز هذه الأسرة عبر تاريخها الطويل, وكذلك التقاليد الطيبة التي تضفي عليها هالة من التوقير والتقدير والعطف والحنان والمشاعر القلبية الصادقة.. لم تعد كما كانت قوية وحية في حياة الأسرة.
وقد تتفاوت ظاهرة التفكك الأسري في المجتمعات المسلمة, من حيث حدتها ودرجة خطورتها, ولكن الذي لا مراء فيه أن هذه الظاهرة لا يكاد يخلو منها مجتمع مسلم في الوقت الحاضر. وأما أسباب هذا التفكك فعديدة.. من أهمها:
عدم الالتزام بالضوابط الشرعية في الزواج.. فلقد فرضت التقاليد والأعراف في بعض المجتمعات الإسلامية أنماطًا متنوعة في الزواج, تخالف بعض ما دعا إليه الإسلام.. من ذلك إجبار الفتي أو الفتاة على الاقتران بمن لا يأنس إليه ولا يرغب في العيش معه, وقد نهي الرسول صلي الله عليه وسلم عن مثل هذا الزواج وبيّن أن من حق المرأة أن تعترض على زواجها إذا زوّجها أبوها أو وليها دون رضاها.. كذلك يدخل في باب عدم الالتزام بالضوابط الشرعية والخضوع للأعراف أن يتم الزواج دون الرؤية التي أمر بها الرسول -صلي الله عليه وسلم- قبل العقد, وتفاجأ المرأة أو الرجل بعد العقد أو الدخول أنه تزوج بمن لا يسرّه أن ينظر إليه, أو يجد الراحة النفسية حين لقائه والحديث معه.
ومن صور الزواج التي لا تلتزم بالآداب والضوابط الشرعية, ألا يرغب الرجل في المرأة لذاتها, وإنما يسعى إليها لغرض زائل ومتعة فانية, وفي ذلك قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: «لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن, ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن, ولكن تزوجوهن على الدين, ولأَمَة خرماء سوداء ذات دين أفضل» أخرجه ابن ماجة بإسناد ضعيف, وأخرجه ابن حبان في صحيحه بإسناد آخر. فالاهتمام بأعراض الدنيا في الزواج مجلبة للشقاء والتعاسة.. والأسرة التي لا تؤسس على الآداب والضوابط الشرعية لا تعرف الاستقرار والاستمرار, وتهب عليها غالبًا رياح الشقاء والتمزق والتفوق.
ومن أسباب التفكك الأسري: الأمية الدينية في فهم الحياة الزوجية» إذ إن عقد الزواج ينشئ بين الرجل والمرأة علاقة خاصة متميزة لا تتحقق بين الرجل وأقرب الناس إليه رحمًا, كما لا يمكن أن تكون بين المرأة وأقرب الناس إليها أيضًا. وقد اقتضى هذا العقد -الذي يقوم على التأبيد- أن تكون هناك حقوق وواجبات متبادلة بين الزوجين, وقوام كل هذه الحقوق والواجبات: حسن العشرة بمفهومها الشامل الذي يستوعب الحاجات المادية والنفسية على السواء, والذي يتجاوز عن بعض الهنّات ويتخذ المواقف العملية لكسب الود والاستعلاء فوق مشاعر الكراهية والنفور أو الإعراض والنشوز.
ولكن عدم فهم الزوجين لطبيعة الحياة الزوجية وعدم ودراكهما لما يجب عليهما حفاظًا على هذه الحياة واستمرارها وعدم انتهائها إلا بوفاة أحد الزوجين أو كليهما, وأيضًا عدم فهم الزوجين لما يجب على كل منهما نحو الآخر من الحقوق والواجبات, وأن كلاً منهما راعي ومسئول عن رعيته.. إن عدم الفهم هذا أو الأمية الدينية في فهم الحياة الزوجية يهدد الأسرة بالقلق الذي ينتهي بها إلى التفكك أو التفرق.
وتتجلي الأمية الدينية في موضوع الحياة الزوجية في صور متعددة منها:
(أ) إهمال الأم رسالتها الأولي فقد:
اقتضت حكمة الله أن تنفرد المرأة بخصائص فطرية تجعل رسالتها الأولي في الحياة, والتي خُلقت لها, هي أن تكون أماً وربة بيت, وهي لن تنهض بهذه الرسالة على أحسن وجه إلا إذا تفرغت لها ولم يشغلها عنها أمر آخر. والخطأ الفادح هو أن تهجر المرأة بيتها وتهمل رسالتها السامية, وتحرص على العمل خارج البيت, معتقدة أن هذا العمل ضرورة لمشاركتها الإيجابية في الحياة» وذلك لأن عمل المرأة في البيت هو الأصل, وهو عمل له خطورته وأهميته.. أما عمها خارج البيت فهو استثناء من هذا الأصل, والإسلام لا يمنعها منه مادام لا يطغي على عملها في البيت أو يكون على حسابه.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هناك تخطيطاً دوليًا يتغيا أن تتخلي المرأة عن رسالتها الأولي, بحجة حقها في مشاركة الرجل في معترك الحياة, وأن تخرج من بيتها إلى عمل لا يتفق مع فطرتها وطبيعتها, الأمر الذي نشأت عنه ظاهرة الحيرة والتمزق التي تواجه الأسرة المسلمة الآن.
على أن إهمال الأم رسالتها الأولى ليس مقصورًا على حرصها على العمل خارج البيت, وإنما قد يكون هذا الإهمال بسبب بعض التقاليد الضارة, كالإسراف في العلاقات الاجتماعية مثل الزيارات التي تمتد فترة طويلة دون فائدة من ورائها, ويترتب على هذه الزيارات أن تهمل المرأة في رعاية أبنائها, وتجعل من بيتها مجلسًا للزيارات, وتنسى أنه مقر للراحة والسعادة للزوج والأولاد. كما تدع مهمة الرعاية والعناية بالبيت والزوج والأبناء إلى الخدم.. وهؤلاء أصبح لهم في الأسرة الخليجية حضور مستمر, جعل منهم ركائز أساسية لهذه الأسر, وكانوا من ثم من عوامل ضعف العلاقات بين أفراد الأسرة.
آثار التفكك الأسري :
ما دام التفكك الأسري حقيقة لا جدال فيها, ومادامت له أسبابه العديدة, وهذه الأسباب بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي, وقد أوجزنا الحديث عن أهمها آنفًا, فإن له آثارًا خطيرة على الأسرة والمجتمع. فالحياة الأسرية بين الزوجين يسودها القلق وعدم الاحترام المتبادل, وكذلك عدم صيانة الأسرار الزوجية» لانهيار القيم الأخلاقية, وعدم إدراك الرجل والمرأة أن الحياة الزوجية شركة اجتماعية رأسمالها السكينة والود والألفة والرحمة والرعاية وليست ميدانًا للمبارزة والعناد أو السيطرة والتحكم.
وقد يمثل التفكك بين الزوجين مظهرًا سلبيًا, يعبَّر عنه بامتناع كل منهما عن الحياة الزوجية الطبيعية, فهما متخاصمان لا يكلم أحدهما الآخر, أو أن الزوج يهجر فراش زوجته فلا يعاشرها بالمعروف, وإن كانا أمام الناس غير ذلك, وهذا الامتناع هو ما يُعرف بالهجر أو الطلاق الصامت, أو فقدان لغة الحوار.
وقد يتجاوز الأمر حدود السلبية ويتحول التفكك إلى عنف قد يصدر من الرجل ضد المرأة أو العكس. وليس العنف إلا رد فعل لتصرفات الآخرين فالرجل الذي يمارس العنف مع زوجته يثير لديها غريزة العنف.. وكذلك ممارسة العنف ضد الأبناء تثير لديهم غريزة العنف ضد الآباء مستقبلاً. والعنف يبدأ بالكلمة النابية أو الاستهانة التي تحمل الآخر على التمرد ورد الإساءة بمثلها أو أشد منها, وقد يتطور الأمر إلى الضرب وإلحاق الأذي المادي الذي يبلغ أحيانًا درجة الإقدام على ارتكاب جريمة القتل.
ومن آثار التفكك الأسري المدمرة: كثرة الطلاق دون سبب مشروع.. والطلاق يؤدي إلى التمزق العاطفي للأبناء بسبب الحيرة في الانحياز لأي طرف, الأب أم الأم, فضلاً عن فقدهم الشعور بالأمن نتيجة للاضطراب والتفرّق اللذين حلا بالأسرة, ويؤثر هذا على تحصيلهم العلمي وتفوقهم الدراسي.
والأطفال بعد الطلاق قد يُستخدمون أحيانًا كوسيلة للانتقام والإيذاء المتبادل بين الزوجين فالأم تحرم الأب من رؤية أولاده, والأب يحاول أن يضم الأولاد إلى حضانته, ويعيش الأبناء تجربة نفسية قاسية تترك في وجدانهم انطباعًا سيئًا عن الجو الأسري والعلاقات الزوجية, وتدفع المرأة المطلقة ثمنًا غاليًا لطلاقها, فهي تُحرَم من الإعالة والإشباع العاطفي, وتتعرّض لقيود على تصرفاتها, وينظر إليها المجتمع نظرة فيها الكثير من التوجس, وهذا يجعلها تنظر إلى الحياة بمنظار قاتم, وقد تنجرف في تيار الانحلال إذا لم تجد زوجًا تعيش في كنفه.
ولا يقتصر أثر التفكك الأسري على الأبناء على تخلفهم الدراسي وحسب، فالأبناء الذين ينشأون في أسرة مفكّكة لا تعرف بين أفرادها غير النفور والكراهية لا تكون نشأتهم طبيعية, وتترسب في أعماقهم مشاعر الكراهية نحو الحياة والأحياء.
لقد أثبتت الدراسات أن ظواهر الإجرام والعنف وانحلال الأخلاق وتوتر العلاقات بين الدول, وظهور القيادات التي كانت سببًا في الحروب المدمرة, وحدوث القلاقل والمجاعات المهلكة, مردها إلى أن الروابط النفسية في الأسر ضائعة, وأن أجيالاً تربت وترعرعت بعيدًا عن مشاعر الحنان والمودة والرحمة فانتكست فطرتها, وانغمست في بؤر الفساد, واستحوذ عليها حب الانتقام وإراقة الدماء والاستهانة بكرامة الإنسان.
إن الأبناء الذين لا ينشأون في أسر, ولا يذوقون حنان الأبوين, ولا يتمتعون بما يتمتع به سواهم ممن شبوا في رعاية الوالدين, مهما توفر لهم دور الرعاية الاجتماعية وملاجئ اللقطاء أسباب الصحة الجسمية.. يشكلون خطرًا على المجتمعات. وإذا كان للتفكك تلك الآثار على الزوجين والأبناء, فإن آثاره على المجتمع أخطر؛ فالأسرة قاعدة الحياة البشرية وقوام المجتمع, فإذا تعرّضت للاضطراب والتصدع والصراع, ولم تقم برسالتها في التربية والتوجيه, فإنها بدلاً من أن تكون قوة دفع في المجتمع للخير والإصلاح, تتحول إلى قوة جذب للوراء, ولا يكون لها عطاء نافع, فيخسر المجتمع بذلك خسارة فادحة, خسارة أجيال تدمر ولا تعمر, أجيال تعوق مسيرة التنمية والتقدم.
من هنا كانت حماية الأسرة من التفكك حماية للمجتمع من مشكلات شتي تمتص الطاقات, وتشغل عن العطاء والتعمير, وتكون عامل هدم وتدمير.