فإن التفكر من أعمال القلوب العظيمة وهو مفتاح الأنوار ومبدأ الإبصار و شبكة العلوم والفهوم وأكثر الناس قد عرفوا فضله ولكن جهلوا حقيقته وثمرته و قليل منهم الذي يتفكر ويتدبر وقد أمر الله تعالى في التفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى و أثنى على المتفكرين فقال:{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً }.
وقال عطاء انطلقت يوماً أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : {زر غبّاً ؛ تزدد حبّاً}، قال ابن عمير: فأخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فال فبكت، وقالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي ثم قال: ذريني أتعبد لربي عز وجل فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتاه بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر..فقال: لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبر فيها أو كما قال عليه الصلاة والسلام {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. [الحديث صححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة].
وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت : "كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر".
قال الحسن:" تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
قال الفضيل:" الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك".
قيل لإبراهيم إنك تطيل الفكر فقال:" الفكرة مخ العقل".
وكان سفيان بن عيينة كثيراً ما يتمثل بقول القائل: "إذا المرء كانت له فكرة؛ ففي كل شيء له عبرة" .
وقال الحسن: "من لم يكن كلامه حكمة فهو لهو، و من لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو".
وفي قوله تعالى : {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال : أمنع قلوبهم التفكر في أمري .
وكان عدد من أهل العلم والحكمة يطيلون الجلوس والتفكر.
وقال عبد الله بن المبارك يوماً لسهل بن عدي لما رآه ساكتاً متفكراً: أين بلغت؟قال: الصراط!
وقال بشر :" لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل".
وقال ابن عباس: "ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".
وبينما كان أبو شريح يمشي إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي فقيل له ما يبكيك؟ قال:" تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي".
وقال أبو سليمان: "عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر".
وقال:" الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة و عقوبة لأهل الولاية، والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحي القلوب. ومن الذكر يزيد الحب ومن التفكر يزيد الخوف".
وقال ابن عباس: "التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه. وإذا كان هم العبد وهواه في الله عز وجل جعل الله صمته تفكراً وكلامه حمداً" .
وقال الحسن:"إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر ، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة".
وكان داود الطائي رحمه الله على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السموات والأرض وهو ينظر إلى السماء ويبكي حتى وقع في دار جار له، فوثب صاحب الدار من فراشه وبيده سيف ظن أنه لصّ، فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف وقال من ذا الذي طرحك من السطح ، قال: ما شعرت بذلك.