اختلاط الجنسين بالعمل..
الشيطان يكمن في التفاصيل..
الرجل و شركاء في الحياة كلها: البيت، والعمل، والدراسة وغيرها..، ومن ثم تتعدد بالضرورة أشكال العلاقات الإنسانية بين الرجل و، والتي قد تتخذ صورًا غير مطلوبة أو مرغوب فيها نتيجة التساهل في تلك العلاقات وإخراجها عن الإطار الشرعي الذي يقنِّنها ما يخلِّف مخاطر عديدة تهدد أصحابها وأسرهم والعمل نفسه حين تتعدى العلاقة حدود الزمالة والتعامل الرسمي لتصل إلى الصداقة أو الإعجاب أو حتى تبادل المشاعر الخاصة، وما خفي كان أعظم!!.
حكايات
حكايات لا تنتهي عن تأثير الاختلاط غير المنضبط في العمل في الحياة الأسرية حيث تقول "أحلام. م": "علاقات زوجي بزميلاته في العمل كادت تدمِّر حياتنا الزوجية، وما زلت إلى الآن أعاني منها، فبعد حديث طويل في المكتب تأتي المكالمات في المنزل بحجة إنهاء العمل والتناقش فيه، وكذلك الخوض في أمور خاصة أمام الزملاء، والتي لا يجب الخوض فيها، وفي إحدى المرات سمعت إحداهنَّ تدلِّل زوجي وهي تكلِّمه في الهاتف مما استفزَّني بشدَّة، فتشاجرت مع زوجي، وشددت على معاملة زميلاته في نطاق العمل فقط، وكان رده أنه يفعل ذلك وأنه غير مسئول عن تجاوزات غيره، ومع ذلك ما زلت أعاني من تجاوز هذه الحدود".
أما حكاية "إيمان. أ" (موظفة) فهي الأوسع انتشارًا في علاقات العمل حيث تقول: "في بداية التحاقي بالعمل كان التعامل مع الزملاء يتم في أضيق الحدود وبشكل رسمي للغاية، ولكن مع الوجود المستمر بدأ الحديث يتطرَّق إلى أمور عامة كثيرة، ولم تعُد صيغة التعامل رسميةً لتفسح المجال لصيغ بها الكثير من الألفة والصداقة بين فريق العمل، ومن ثم الإعجاب وتبادل المشاعر الخاصة التي تحدث حتى بين المتزوجين والمتزوجات، وقد تمادى البعض في علاقات تُغضب الله عز وجل ما دفعني إلى أن أقنِّن علاقاتي وأحاول قدرَ المستطاع وضع حدود لهذه العلاقة بما يقطع خطوات الشيطان".
ويشكو إبراهيم علي (مندوب بإحدى الشركات) من تساهل زميلاته في العمل لدرجة التفريط فيما يخص علاقاتهن بالزملاء ما يسبِّب له المشكلات مع زوجته التي لا يعجبها حالهن "المايل"، ويقول: "في إحدى المرات أخبرت زوجتي بأني أقوم أحيانًا بتوصيل زميلاتي أثناء عودتنا من العمل نظرًا لبعد المسافة وتأخر الوقت ليلاً فاستشاطت غضبًا، وأصرَّت على ألا أقوم بتوصيل إحداهنَّ مجددًا، وظللت بين غيرتها وتساهل الزميلات، حتى اضطررت إلى ترك تلك الوظيفة والبحث عن وظيفة أخرى يعمل بها رجال فقط"!.
إنسان وموظف
في تحليله لهذه القضية يوضح د. علي ليلة (أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس) أن علاقة العمل بين الرجل و من الممكن أن تظل مقبولةً وطيبةً لا تخرج عن الإطار الشرعي والاجتماعي السليم، حين يدرك كلٌّ من الرجل و أنه يتعامل مع الآخر بكونه إنسانًا في بداية الأمر وموظفًا مكلفًا بعمل، وأن التعاون جائزٌ لإتمام تلك الأعمال والمهام على أكمل وجه، وهذا من شأنه أن يُنهي هذا الإشكال، أما إذا تجاوز أحدهما حدود ذلك وتعامل فقط على أساس النوع كذكر وأنثى، فهنا نفتح الباب على مصراعيه أمام الشهوات ولمداخل الشيطان واتباع خطواته خطوةً خطوةً.
ويتابع قائلاً: "كم من المخالفات والتجاوزات تقع تحت مسمَّى الزمالة بين الرجل و لذا على أي من الطرفين أن يوقف أي محاولة لتجاوز الحدود مع الطرف الآخر، فلا تباسط في الحديث، ولا خوض في أمور خاصة، ولا ضحكات غير لائقة، ولا تساهل في المصافحة باليد أو إفشاء الأسرار أو الفضفضة والشكوى من شريك الحياة".
ويحذر الدكتور ليلة من عقد مقارنات ليست في محلِّها بين الزوج والزميل والعكس، وغيرها من الحدود التي لا ينبغي لأي منهما أن يتعدَّاها، وتخصيص وقت العمل للعمل فقط وتنحية الحياة الخاصة جانبًا، فلا يكون هناك أكثر من المجاملات العادية بين فريق العمل كالمباركة عند نجاح الأولاد أو التهنئة بالعيد أو بمناسبة طيبة، وذلك في جوٍّ من الاحترام المتبادل.
على استحياء
ويؤكد د. حاتم آدم (أستاذ الصحة النفسية) أن الاختلاط بين الرجل و موجود منذ قرون، وهو كسائر أمور الحياة حلاله حلال وحرامه حرام بمعنى أن ما يحدث من تعامل في حدود الضرورة والحاجة ويتحقق من خلالها مصلحة كلا الطرفين والمؤسسة التي يعملان بها فهذا خير، فهما جزء من كيان اجتماعي يؤثر بصلاحه أو فساده في المجتمع ككل.
ويضيف: من كان له حاجة عند الطرف الآخر فليطلبها منه بالمعروف ثم ينصرف باحترام ولا يعطي فرصة للشيطان أن يستدرجه إلى خطأ صغير ثم يكبر رويدًا رويدًا، فالاختلاط لغير ضرورة منهيٌّ عنه شرعًا، متابعًا: وقد أجمع علماء النفس على قوة دافع الشهوة والتجاذب بين الجنسين، ولذلك كان لا بد لهذا الأمر من حدود تحكمه وإلاَّ تحوَّل الأمر إلى حالة من الفوضى، وذلك ما أشارت إليه كل الشرائع السماوية والفطرة الإنسانية السليمة.
ويعجب د. حاتم آدم من الدول الغربية التي باتت تنادي بضرورة الفصل بين الجنسين في أماكن الدراسة والعمل لتحدَّ من الاختلاط الذي عانت من شروره، وما زالت تعاني، بعدما زادت الفواحش والمنكرات والفساد بسبب هذا الاختلاط الشائن، والذي لا تمنعه قيود أو تحكمه حدود، مشيرًا إلى أننا أولى الناس بالالتزام بهذا الأمر حتى لا نصل إلى ما وصلوا إليه.
ويروي مثالاً طيبًا في حياة سيدنا موسى عليه السلام، عندما سقى لابنتي سيدنا شعيب عليه السلام، فقد دار بينهما حوار عُرف من خلاله سبب نزولهما إلى هذا العمل، ثم ساعدهما على إتمامه، وجاءته بعد ذلك إحداهما تمشي على استحياء لتخبره برغبة أبيها عليه السلام في رؤيته، وحضر إليه وهو سائر أمامها رغم عدم معرفته بالطريق إلا بالحصى الذي كانت تلقيه أمامه، وهذا التصرف من سمو الأخلاق ونبل الطباع وعدم تعدِّي الحدود والتمسك بشرع الله عز وجل في التعامل بين الرجال والنساء.
ضرورة.. ولكن!
ويوضح د. أحمد العسال (رئيس الجامعة الإسلامية بإسلام أباد بباكستان سابقًا) أن الله عز وجل جنَّبنا فتن الاختلاط وأمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، فقال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)﴾ (النور)،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتبع النظرة النظرة، فإنما الأولى لك والثانية عليك"، فالنظرة سهم من سهام إبليس الذي يحضر عند ثلاث: عند الغضب، وعند الدخول في الصلاة، وعندما يخلو رجل بامرأة.
ويحثُّ على أن يخصِّص أصحاب العمل غرفًا للنساء وأخرى للرجال، وقد خصَّص سيدنا عمر بن الخطاب لسوق النساء امرأةً لتراقب العمل فيه حفاظًا على حرمة النساء وحريتهن، وعدم مزاحمتهن بالرجال عند التسوق.
ويتابع الشيخ العسال: لقد أمر الله بغض البصر لعلمه أن الاختلاط بين الرجال والنساء قائم وموجود حتى في أماكن العبادة، كما نرى في مناسك الحج، من سعي وطواف..، وفي الشوارع والمواصلات وأماكن العمل والدراسة لذا كان غض البصر وقايةً من الوقوع في المحظور، والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم: من الآية 6).
ويضع شروطًا لعمل في مكان به رجال بأن تلتزم أولاً بالحجاب الشرعي، والزي الواسع الطويل، الذي لا يشف ولا يصف، وعليها ألا تتطيَّب أو تطيل الحديث أو تخضع بالقول، وهذا الأمر إن كان لأمهات المومنين فالأحرى بنسائنا الآن التمسك به.
ويكمل قائلاً: وعلى الرجل ألا يطيل النظر إليها، وينهي الحديث بسرعة، وبما فيه ضرورة ومصلحة العمل، وبذلك نسدُّ الباب أمام الذنوب والفتن، وكما قال الإمام مالك: "كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً