إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْده لا شريك له، وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الَّهَ إِنَّ الَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْر الهدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
إتمامًا للخطبة الماضية فيما يتعلق بحقوق الزوجين، حيث يأمر الله – عز وجل – الرجال بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
فمن حقوق على زوجها: أن تُعاشَر بالمعروف، فيجب على الزَّوج أن يُحسن صحبَتَها ومُخالطتها، ومن ذلك طِيب القول لها، وحُسْن الفعل والهيئة معها بحسب القدرة، كما يحب ذلك للزوج عليْها، فافعلْ أنت بِها مثله؛ كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].
وكان من أخلاق النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – مع أهلِه: أنَّه جميل العِشْرة، دائمُ البِشْر، يداعب أهله، ويتلطَّف بِهم، ويوسعهم نفقةً، ويضاحك نساءَه، حتَّى إنَّه كان يسابق عائشةَ أمَّ المؤمنين – رضي الله عنْها – يتودَّد إليْها بذلك، ومن حسن المعاشرة: الدعاء للزَّوجة، والثناء عليها إذا رأيتَ منها ما هو حسن، في حُسْن المعاشرة هناء العيش، وهدوء النَّفس.
ومن حقوقها: النَّفقة والكِسْوة والسُّكنى؛ {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، ولم يرِدْ في الشَّرع تقديرُها؛ لاختِلاف ذلك باختِلاف الزمان والمكان، فردَّ الأزواج فيها إلى عرف النَّاس، من غير إسراف ولا تقْتير، لا يكلف الرَّجل منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته، لا ما يشقُّ عليه ويعجِز عنه؛ وفي حديث جابر، في صحيح مسلم قوله – صلى الله عليه وسلَّم – في خطبة حجَّة الوداع: ((اتَّقوا الله في النِّساء؛ فإنَّكم أخذتُموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجَهن بكلمة الله، ولهنَّ عليْكم رزقهن وكِسْوتُهن بالمعروف)).
وعن معاوية بن حيدة: أنَّ رجُلا سأل النَّبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ما حقُّ على الزَّوج؟ قال: ((أن يُطْعِمها إذا طعم، وأن يَكْسُوَهَا إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبِّحْ، ولا يهجرْ إلا في البيت))؛ رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن.
وإذا قصَّر الزَّوج في النفقة والكِسوة الواجبة، أباح الشَّارع للزَّوجة الأخْذ من مالِه بقدر الحاجة بغير علمه ورضاه، فهو حقٌّ أثْبته الشَّارع لها ولأولادِها؛ فرِضا الشَّارع وإذنُه مقدَّم على رضا الزَّوج؛ فعن عائشة قالت: دخلتْ هند بنت عتبة، امرأة أبي سفيان على رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ شحيح، لا يُعْطِيني من النَّفقة ما يَكفيني ويكفي بنيَّ؛ إلا ما أخذت من مالِه بغير عِلْمِه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم -: ((خذي من ماله بالمعروف ما يَكفيك ويكفي بَنِيك))؛ رواه البخاري ومسلم.
فأفتاها النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بِجواز أخْذِ كفايتِها، بالقدْر الذي عُرِف بالعادة أنَّه الكفاية، وهذا الحكم يَجري في كل امرأة أشبهتْها.
ومن حقوقها: طلب الولَد، فمن مقاصد النكاح طلب الذرِّيَّة؛ فهو حق مشترك للزوجين، فلا يحلُّ للرَّجُل أن يَحول بيْنها وبين الحمل من غيْر عُذْر إلا برضاها، لا سيَّما إذا كان للرَّجُل أولاد من غيرها، وكذلك يَحرم عليْها التسبُّب بِمنع الحمْل بغيْر رضا الزَّوج.
ومن حقوقِها: الوفاء بما اشترطتْه على زوجِها؛ فعن عقبةَ بن عامر – رضي الله عنْه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحقُّ الشُّروط أن تُوفوا به: ما استحللْتم به الفروج))؛ رواه البخاري ومسلم.
فالشَّرط الصَّحيح الذي لا يُخالف مقتضى العقْد يَجب الوفاء به، فبعْضُ النِّساء حين العقْد يَشترطْنَ على أزواجهنَّ شروطًا؛ كإكْمال الدراسة، أو الاستِمْرار في العمل ونَحوه، فيُوافق الزَّوج حين العقْد، وما يلبث حتَّى يبدأ في مساومة على ما اشترطتْه عليْه، ويلح عليْها بالتخلِّي عمَّا اشترطتْه، وربَّما ماطل وسوَّف، أو هدَّدها بالطَّلاق، أو التزوُّج بأُخْرى أو غير ذلك، فيجْعلها تَختار أحلى الأمَرّين، فمَن هذه أفعالُه، فليتَّق الله في نفسه وفي زوجه، وليَفِ بما شرطه على نفسه، وليعلم أنَّه بإخلافه وعدَه تلبَّس بصفة من صفات المنافقين العمليَّة، وهي إخْلاف الوعْد، ولمرْأة الحقُّ في فسْخ النِّكاح من غير أن تردَّ له من المهْر شيئًا.
إخواني:
على مَن يتعامل مع النِّساء أن ينتبه لأمرين:
الأوَّل: ترْويض النَّفس على أنَّ الكمال في النِّساء عزيز، فمهما بلغت من علم ودين وخلُق، فإنَّها تبقى محكومةً بعوامل لها أثر على تصرُّفاتها وأحكامها، فلا تنتظِر من التَّناهي في جَميع الفضائل، وخصال البرِّ والتَّقوى، ورجاحة العقْل، ومخالفة هوى النفس لمصلحتِها ومصلحة أوْلادها؛ فعن أبي موسى الأشْعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كَمَل من الرجال كثير، ولم يكمُل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون))؛ رواه البخاري ومسلم.
فعلى الزَّوج ألا يُبالِغ في العمل على تقْويم بعض العيوب التي في زوجته، وليغضَّ الطرف عنها؛ فهذا من المروءة، وبكثْرة النَّقد والتعنيف يَحصل النِّزاع والشقاق، الذي ربَّما حدا بالزَّوج إلى الطلاق؛ فعَن أبي هُرَيْرَةَ – رَضي الله عنْه – قال: قالَ رَسولُ اللهِ – صلَّى الله علَيْهِ وسلَّم -: ((اسْتَوْصوا بالنِّسَاءِ؛ فإنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وإنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لمْ يَزَلْ أعْوَجَ؛ فاسْتَوْصُوا بِالنِّساءِ))؛ رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((إنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فإن اسْتَمْتَعْتَ بهَا، اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وبِهَا عِوَجٌ، وإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا، وكَسْرُهَا طَلاقُها)).
فمع بيان النبيِّ – صلى الله عليه وسلَّم – لحال ، فهو يوصي بِها، فالوصيَّة بِها آكدُ لضعْفِها وحاجتِها إلى مَن يقوم بأمْرِها.
الأمر الثاني: النظر إلى الجوانب الحسنة في ، فهي لا تخلو من جوانب حسنة في دينها أو عملها، في بيتها أو لسانها، أو جسدها أو غير ذلك؛ فعَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ الَّهِ – صَلَّى الَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا، رَضِيَ مِنْها آخَرَ))؛ رواه مسلم.
والفَرْك: البُغْض والكراهة، فنَهى النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – الرجُل عن بغض امرأتِه بسبب أمرٍ فيها لا يحبه ولا يرتضيه، فإن وجد فيها خلُقًا يكرهه، وجد فيها أمورًا حسنة، فعلى الرَّجُل أن يُقارن بين حسنات وسيِّئاتِها حين الحكم عليْها، واتِّخاذ موقفٍ منها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابِه أجمعين، وبعد:
اعتنى الشَّرع بِعلاج ما يقع بيْن الزَّوجين من خِلاف، وتدرَّج في علاجِه داخل مُحيط الزَّوجيَّة مُحاطًا بالسِّرِّيَّة، وعدم تدخُّل الآخرين في هذا النزاع، إلا بعد استفحال الأمر، وإخْفاق الزوج في احتواء المشكلة؛ قال – تعالى -: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].
ف الناشز المترفِّعة على زوْجِها، المستعلية عليه، التي تعصيه فيما افترض الله عليْها من طاعته، شرع الله – عزَّ وجلَّ – أوَّلاً موعظَتَها وتخويفها بالله، وبيان مغبَّة هذا النُّشوز، وأثره على بيْتِ الزَّوجيَّة وتشتُّته، لا سيما إذا كان هناك أولاد، فإمَّا أن يعيشوا مع فقْد أحد الأبويْن وهو حيٌّ، وهذا أشد عليهم من موته، أو يعيشون في بيتٍ تعْصِف به المشاكل والخلافات؛ مِمَّا يؤدِّي إلى نفْرتِهم من هذا البيْت وانزعاجهم منه.
ولكنَّ العظة قد لا تنفع؛ لغلبة الهوى، أو عدم تقْدير المسؤوليَّة، أو قلَّة بُعْد النَّظر، فشرع ثانيًا الهجر في المضاجع، مِنْ ترك المضاجعة في الفِراش والكلام والجماع، فإذا لم يفلح هذا الإجْراء، شرع الضَّرب للتأدِيب، لا للتَّعذيب والانتِقام والتشفِّي، فهو ضربٌ يسيرٌ، الهدف منه تقويم الاعْوِجاج، كضرْب الأب ولدَه، والمعلِّم تلاميذه، شرع ذلك من خلق الإنسان وهو أعْلم بنفسِه وما يُصْلِحها؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ الَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وإذا لم يُجْدِ ذلك، يخرج الأمرُ من مُحيط البيْت إلى محيط أهْل الزَّوج وأهْل الزَّوجة لمعالجة الأمر.
فإذا أدَّت ما تستطيع، فيَحْرُم التعرُّض لها بضرْبٍ أو سبٍّ، أو غير ذلك من صنوف الإذْلال والإهانة؛ {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34]، ويعظم الأمر إذا كان ذلك بِحضرة أحدٍ من ولدٍ أو غيرِه، قريبٍ أو بعيدٍ، فيه إذْلال للزَّوجة، وامتهان لكرامتها.
فالشَّارع أباح ضرْبَ الزَّوجة ضربًا غير مبرح، في نطاق محدود، أمَّا أن يتحوَّل الرَّجُل إلى جلاَّد؛ بحجة أنَّ الشَّارع أباح ذلك، فإذا تأخَّر الطَّعام أو الشَّراب، أو لم يعْجِبْه، أو لم تُبادر الزَّوجة في قضاء حاجته، أو لم يَرَ بيتَه على ما يُحبُّ من ترتيب وتنظيم، أو غير ذلك، ولو كانت معذورة – صبَّ جامَ غضبِه عليْها وأسْمعها ما لا تُحبُّ من القوْل، وربَّما استطال بيَدِه عليْها، فهذا مفهوم خاطئٌ، فالذي أذِن في الضَّرب عدَّ هذا عيْبًا، تردُّ به ُ الخاطبَ، فحين استشارت فاطمةُ بنت قيْس النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – حينما خطبها أبو جهْم، قال النبيُّ – صلى الله عليْه وسلَّم -: ((أمَّا أبو جهْم، فلا يضعُ عصاه عن عاتِقِه))، فجعل ضرْبَ الرَّجُل لامرأته عيبًا في الخاطِب يُرَدُّ به، ويُرْغب عن نكاحه، ثم قال: ((انكحي أسامة))؛ رواه مسلم.
ومع ذلك، تَجد بعْضَ مَن هذه حالُه حسنَ المعاشرة مع مَن يُخالطُهم في السوق والعمل، يبشُّ في وجوهِهِم، يُقابلهم بالابتِسامة، يتحمَّل أذاهُم، يعفو عن أخطائِهم، يقبل اعتِذارَهم، أليس الأهلُ أوْلى بذلك من غيرِهم؟! لا سيَّما وقد صحَّ عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال: ((خيرُكم خيركُم لأهلِه، وأنا خيركم لأهْلي)).
وهُنا وقفةٌ أخيرة معَ مَن هذه حالُه مع أهله، سواءٌ بطول اليد أو بذاءة السان، أقول له: ما رأيُك لو بلغك أنَّ زوْج ابنتِك، أو زوْج أُخْتِك يذلُّهما بالضَّرب، أو سلاطة السان ويُهِينُهما؟ ستقول: لو بلغني ذلك، لتكدَّر صفْو حياتي، واستشطت غضبًا.
إذاً؛ كيف ترضى ذلك لأُخْتِك المسلمة، ولا ترضاه لبِنْتِك وأُختك من النَّسب؟! ألم يقل النبيُّ – صلى الله عليه وسلَّم -: ((لا يؤمِنُ أحدُكُم حتَّى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه))، فبادِر في تصحيح الخطأ، واستدراك ما فات.