إنَّ المؤمنَ حينما يودِّع مرحلةً من عمُره ويستقبِل أخرى فهو في حاجَةٍ ماسّة لمحاسَبَة نفسِه وتقييمِ مسارِه، فحقٌّ على الحازِمِ الموقن باللهِ واليومِ الآخر أن لا يغفلَ عن محاسبةِ نفسِه ومراجعة ميزانِ حرَكَاتها وسكنَاتها وتقييمِ مسارها في ماضِيها وحاضرِها ومستقبلها، يقول ابن القيّم -رحمه الله-: "وهلاكُ القلب من إهمالِ محاسبَتِها -أي: النفس- ومِن موافَقَتِها واتِّباع هواها"
إِخوة الإسلام، مجامِع الخير ومكامِن السعادةِ في محاسبةِ المؤمن نفسَه، ينهاها عن كلِّ غيٍّ، ويزجُرها عن كلِّ إثم، ويسوقُها إلى مواطِنِ الخير وموارِدِ البرِّ، ويكفُّها عن مواقِع الآثام والشّرورِ، والكيِّس من دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموت، والعاجز من أتبَع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني، وربّنا -جلَّ وعلا- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أخي المسلم، تذكَّر أنَّ نجاتَك من محاسبة نفسِك وفوزَك في معاهدةِ ذاتِك: هل قمتَ بحقوق الخالِقِ كاملةً غيرَ [منقوصة]؟! هل أدَّيتَ حقوقَ المخلوقِ وافيةً غيرَ مبخوسة؟! هل تفقَّدتَ نفسَك وما فيها من الموبقاتِ وعالجتَها عمّا فيها من المهلكاتِ؟! ألا فليكُن لك من تِلك المحاسبةِ ما يكفُّك عن المناهِي والسيِّئات ويسوقك إلى فعل الأوامر والطاعات، ولا تكُن ممّن يرجو الآخرةَ بغيرِ عمل ويؤخِّر التوبةَ بطول الأمل، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
إخوةَ الإسلام، إن المؤمِنون الموفَّقون في زيادةٍ من الخير والتقوى وفي سعيٍ حثيثٍ للفوزِ بالأخرى مهما توالَت عليهم الأعوام، المتَّقون في كلِّ زمنٍ وحين لا يزدادُون بالأعوام إِلَّا خيرًا وبِرًّا، ولا تمرّ بهم السّنون إِلَّا وهم في مسارعةٍ للخيرات واغتنامٍ للصّالحت، فربّنا جل وعلا يذكِّرنا بوصيّةٍ، ألا وهي قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، ورسولُنا -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائِه: (اللهمَّ اجعَل الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خير)، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (خيرُكم من طالَ عُمره وحسُن عملُه).
فكن أيّها المسلم على حذرٍ من تضييعِ الأعمارِ سُدى ومن تفوِيتِ السنواتِ غُثا؛ فربُّنا جلّ وعلا يقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} [فاطر:37]، قال النويّ رحمه الله: "قال ابن عبّاس والمحقّقون معناه: أولَم نعمِّركم ستِّين سنة؟"، وفي البخاريّ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: (أعذَرَ الله إلى رجلٍ أخَّر أجلَه حتى بلَغَ السّتّين) قال النوي: "معناه: لم يترك له عذرًا؛ إذ أمهَلَه هذه المدّةَ".
وجعلة في ميزان حسناتك