**حديث الإفك **
إن الابتلاء سنة ثابتة لاتبدل ولاتغير … ولكن الابتلاء الذي تعرضت له أمنا عائشة رضي الله عنها كان ابتلاءً يفت الصخور والجبال ويعصف بالقلوب , فقد اتهمت في أعز شيء تملكه المرأه -اتهمت في عرضها – إن هذا لهو البلاء العظيم , تتهم في عرضها , وهي الزهرة النقية التي نبت في حقل الاسلام وسقيت بماء الوحي …
وكان لحديث الإفك وقع أليم على قلب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها … وكان عبدالله بن أبي سلول قد تولد النفاق والحسد في قلبه من أول يوم سمع فيه بالإسلام , وطفق يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم ولإسلام المكيدة تلو المكيدة , ولكن حكمة الله سبحانه كانت له ولمنافقين بالمرصاد , فكانت تلجمهم وتكبتهم ,
** الصديقة وشدة البلاء **
في حادثة الافك كادت تكون فتنة عمياء, فقد أصابت المسلمين هزة عنيفة زلزلت كيانهم , ولم يكن الناس سواسية , ولكنهم كانوا مختلفين في أرائهم تجاه حادثة الافتراء والظلم .
أجل لقد كان في هذا الحدث الجل من خطر الحديث , وشدة البلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالم يعلم مداه إلا العليم الخبير , ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إمام الصابرين , صبر أجمل الصبر, وعالج الأمر بحكمة هادئة , فقد كان همه أن يقي المجتمع المسلم من عواصف الفتن , وهزات المحن , وقواصم المكائد النفاقية المنبثقة عن بعض الرواسب الجاهلية .
لكن الله عزوجل أراد أن يجعل منها خصيصة ليرفع من شأن عائشة رضي الله عنها إظهارا لشرفها الذاتي والاجتماعي وإنافة لمكانتها في أهل البيت طهرا وفضلا وشرفا , وثقلا في ميزان الفضائل والمكارم الإنسانية والإيمانية لمكانتها من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
** المبرأة من فوق سبع سماوات **
تعالوا بنا لمعرفة القصة كاملة ونرى مكانة أمنا عائشة عند الله عزوجل الذي أنزل براءتها من فوق سبع سماوات .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين زوجاته , فأيتهن سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه , فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله بعد مانزل الحجاب فأنا أُحمل في هودجي وأنزل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل , فقمت حين آدنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش , فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي , فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع , فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه .
وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي , فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن الحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه , وكنت جارية حديثة السن , فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولامجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظنت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي , فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني , فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فأدلج , فأصبح عند منزلي , فرأى سواد إنسان نائم , فأتاني فعرفني حين رآني , وكان يراني قبل الحجاب , فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني , فخمرت وجهي بجلبابي , والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه , حتى أناخ براحلته فوطيء على يديها فركبتها , فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد مانزلوا موغرين في نحر الظهيرة , فهلك من هلك , وكان الذي تولى الإفك عبدالله بن أبي سلول , فقدمنا المدينة , فاشتكيت حين قدمت شهرا . والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك , ولاأشعر بشيء من ذلك , وهو يريبني في وجعي أني لاأعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم الطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي , إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول : كيف تيكم , ثم ينصرف , فذاك الذي يريبني ولاأشعر بالشر , حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لانخرج إلا ليلا إلى ليل , وذلك قبل أن نتخذ الكُنف قريبا من بيوتنا , وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز فبل الغائط , فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا .
فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة ابي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة ابي بكر الصديق , فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح , فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ قالت أي هنتاه أولم تسمعين ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازدت مرضا على مرضي . فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني سلم ثم قال : كيف تيكم ؟ فقالت: أتأذن لي أن آتي أبوي قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
** هموم وأحزان تفت الجبال **
قالت: فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس ؟ قالت : يابنيه هوني عليك , فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت: سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت فبكيت تلك اليلة لايرقأ لي دمع ولاأكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي .
** والله ماعلمت على أهلي إلا خيرا **
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : يامعشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلاخيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الانصاري فقال : يارسول الله أنا أعذرك منه إن كان من أهل الأوس ضربت عنقه , وإن كان من اخواننا من الخزرج امرتنا فعلنا امرك . فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لاتقتله ولاتقدر على قتله ,
حتى هموا ان يقتلوا ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا ,
** هكذا نزلت براءتها من فوق سبع سماوات**
قالت : ثم تولت فاضطجعت على فراشي قالت وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وان الله مبراني , ولكن ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في أمري ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرؤني الله بها .
قالت فلما سري عن رسول الله عليه الصلاة والسلام سري عنه وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها : ياعائشة أما الله فقد برأك , فقالت أمي قومي اليه فقلت : والله لاأقوم اليه ولاحمد إلا الله فنزل قوله تعالى : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لاتحسبوه …} العشر الايات كلها .
**يتبع **