في بستان العم مهدي ورود كثيرة كثيرة..
يعرف العم مهدي كل وردة من هذه الورود، ويسمي كل واحدة منها باسم مختلف.. يعاملها مثل أولاده.. يحدثها، يسقيها الماء بيديه.. ويسألها إن كانت قد ارتوت؟ يتوقف العم عن سقايتها عند شعوره أن الوردة التي يسقيها قد ذهب ظمأها.. يربت على أوراقها الناعمة بلطف.. فتهتز له شاكرة: أنها تحبه، وتقول بصمت: بارك الله بك يا عم مهدي.. كم أنا محظوظة بوجودي في هذا البستان..
* * *
العم مهدي يدعو الأصدقاء لزيارة البستان من حين لآخر..
يأتي الأصدقاء للسلام على العم مهدي، وللتمتع بمنظر البستان الجميل والحصول على بعض الورود ليزينوا بها بيوتهم وحدائق منازلهم..
يقول العم مهدي لزواره: أنا أعرف كل وردة من هذه الورود، أمكث معها أكثر مما أمكث مع أولادي وأحفادي، منذ أن ماتت زوجتي وأنا أقضي في البستان ساعات النهار فليس لي عمل أخر، وكل حياتي في الورود والبستان..
ويضيف مبتسماً: لا تظنوا أنني أعامل الورود كشيء جامد.. لا أبداً فهي تحمل روحاً طيبةً.. أليس كل مخلوق يسبح الله تعالى؟
أنا متأكد أن الورود كلها تعرفني وتعرف ما أريد وتشعر بي كما أشعر بها يوميا.. هي تحادثني وأنا أحادثها، تفهمني وأفهمها..
يضحك العم مهدي ضحكة من أعماق قلبه حتى يظهر بعض ما تبقى من أسنانه، وهو يقول بصوت تقطعه الضحكات: قريباً سترون العجب.. سأصدر قاموساً أضخم من لسان العرب أسميه لسان الورد.. يحوي كل لغات البساتين حول العالم، وسوف أطبع منه ملايين النسخ وأوزعها على كل بساتين الدنيا..
يضحك العم مهدي ويضحك معه كل من يسمعه..
* * *
العم مهدي حياته ورود.. منذ ماتت زوجته قبل سنوات لم يعرف غير هذا البستان..
هو يحلم بالورد في كل مكان.. في بستانه.. في بيته.. في حيه.. في مدينته.. في بلاده.. في العالم كله..
عندما تصاب وردة بمرض، يصاب هو بحزن وألم.. يقوم بمعالجتها بما اكتسبه من خبرة وإحساس بالورود..
كان يقضي أحياناً وقتاً طويلاً أمام وردة مريضة، ما أن يلاحظ تغييراً في لونها وشكلها.. يمسح أوراقها يناجيها.. يغني لها.. كأنها ولد صغير من أولاده..
وإذا ماتت وردة.. يبكي من أعماق قلبه كأن عزيزاً على نفسه قد توفي.. صنع للورود مظلةً كبيرةً ليحميها من مطر الشتاء القوي وبرده، ومن أشعة الشمس وحرها صيفاً..
لم تكن المظلة تشبه غيرها من المظلات.. كانت مثل الأزهار.. واحدة منها.. بألوانها بإشراقها .. بروحها..
وضع العم مهدي في البستان كراسي كثيرة.. وصنع ممرات ضيقة ليمر بها الضيوف كيلا يؤذون الورود ويدوسونها..
قضى العم مهدي كل أوقاته في البستان، لم يكن يعود إلى المنزل إلا عند المساء ليرتاح، وقد سمى أولاده وأحفاده بأسماء الزهور.. فلة، ياسمين، قرنفلة، زهرة، جورية، ورد، بيلسان، أقحوان، شقائق النعمان…
وعندما يزور قريباً أو صديقاً ولد له ولد جديد، يقترح عليه اسماً من أسماء الورود..
أحب العم مهدي الورود..
أحب بستانه حباً لا يوصف، فقد كان له نعم الأنيس بعد وفاة زوجته وزواج جميع أولاده..
قام بإحضار ورود غريبة جميلة من كل مكان في العالم، وبات أصدقاؤه وأهل الحي عندما يسافرون يحضرون له وروداً جميلة من البلاد التي يسافرون إليها..
ومضت الأيام حتى عرف الناس في الحي والمدينة هذه البستان، وبات العم مهدي صديقا للورود يحكي عنه الناس دائماً، وأصبح مثالاً لتجميل الحي والمدينة، وكان الجميع يأتي إليه ليحصل منه على نصيحة أو ليستأذنه بوردة أو ببذرة وردة ليزرعها في مكان آخر..
لم يكن العم مهدي منزعجا من ذلك، بل كان سعيداً سعيداً، يحرص على تزويد من يريد بالنصائح والورود التي يريدها…
* * *
قرب بستان العم مهدي يوجد بيت مطلٌّ على البستان لجار اسمه نمّار..
نمّار هذا لم يكن يشبه العم مهدي بشيء..
كان قلبه قاسياً، لا يحب أحداً، ولم يكن لديه أصدقاء ولم يكن يزور بيته أحد من الناس..
نمّار رجل حقود، وقد أصيب بالحقد الشديد على العم مهدي، فقد كان يغار منه ومن كثرة زواره ومحبيه..
ولم يسعد قلب نمّار المنظر الجميل الذي كان يطلّ عليه من شرفة منزله كل يوم حيث تنتشر الورود الرائعة وتفوح منها الروائح العطرة البديعة..
الحقد سيطر على جوارحه ولم يعد يرى غير نفسه الحاقدة..
وغلب الحقد على كل إحساس جميل يمكن أن يوفره هذا المنظر البهيج الممتع..
وقرر نمّار أن يقدم على عمل سيء تدفعه إليه مشاعره الحاقدة والغيرة الشديدة..
وهل هناك أسوأ من الحقد الذي يدفع صاحبه إلى الإساءة وعدم رؤية الأشياء الجميلة الرائعة في الكون، فتنقلب أمام الحاقد كل الصور ويغدو الجمال قبحاً، والضوء ظلمة، والحلو مراً…
* * *
قرر نمار أن يطلق ما في نفسه من حقد في ليلة ظلماء..
تسور حائط الحديقة..
اقترب من صنبور الماء.. فتح الصنبور وأطلق الماء على آخره.. رفع الخرطوم ووضعه وسط البستان ليغرقه كله وتموت الورود اختناقاً بالماء..
اندفع الماء من الخرطوم بقوة، غمر الماء البستان كله ولم تبق وردة واحدة بأمان.. جرفت المياه الورود، وتحول التراب إلى وحول متحركة.. وأضحت الأرض وحشاً مفترسا ابتلع في هنيهات قليلة كل ما بناه العم مهدي في سنين طويلة..
* * *
في الصباح التالي.. وعند مطلع الشمس، جاء العم مهدي كعادته كل يوم ولكن قبل موعده المعتاد..
كان الجار الحقود جالساً في شرفته ينتظر مجيء العم مهدي..
يتأمل جريمته الشنعاء بحق الورود المسكينة، وبحق الرجل الطيب المسالم الذي لم يرد الأذى لأحد يوماً..
نمّار كان مسروراً بما لحق البستان الغريق من ضرر..
سعيداً بما أحدثه من خراب بجنة العم مهدي..
وكان من شدّة حقده يريد أن يرى بنفسه ما سوف تحدثه صدمة المفاجأة في نفس العم مهدي، عندما يصل ويرى الماء وقد ابتلع بستانه ووروده، وحول المكان إلى منطقة منكوبة.. كأن طوفاناً هائلاً افترسها..
* * *
وصل العم مهدي أبكر من الوقت المعتاد بقليل.. كأن أمراً دفعه للمجيء مبكراً..
قلبه كان يشعر أن أمراً جللاً قد حدث..
لاحظ الماء يسيل من كل جوانب السور.. ويملأ الطريق..
أدرك فوراً أن كارثة قد حصلت..
ركض العم مهدي مباشرة نحو باب بستانه.. فتح الباب بصعوبة..
كاد يموت من الحسرة وهو يرى حديقته غرقى بالكامل.. وقد امحت معالمها واختلطت الأوحال بكل شيء..
هرع نحو مصدر الماء.. أغلق صنبور الماء.. جلس قرب باب بستانه صابراً محتسباً.. يسأل الله العافية..
كان الألم يعتصر فؤاده.. رفع رأسه وعيناه تدمعان.. لاحظ جاره نمّار يقف في شرفة منزله مبتسماً سعيداً بما يرى.. كأنه يشاهد حفلة تنكرية أو مسرحية ضاحكة..
لاحظ العم مهدي سعادة الجار بدلاً من أن يواسيه في مصيبته..
دخل نمّار إلى بيته وأغلق باب شرفته راضياً بفعلته..
هنا أدرك العم مهدي أن نمّاراً هو من فعل هذا العمل القبيح..
تذكر حقد نمّار عليه ونظراته التي كانت دائما تعبر عن غضب منه..
تذكر أنه كان يرمي نفايات بيته على البستان، ولطالما أزعج الورود وأمرضها بقذفه أعقاب سجائره نحو بستانه العامر..
ترى ماذا سيفعل العم مهدي؟؟
كيف سيواجه هذه المصيبة والإساءة البالغة؟
فكر أن يقفز إلى بيت نمار ويمزق ثيابة ويشبعه ضرباً..
فكر أن يدخل بيته ويحطم أثاثه..
أن يكسر سيارته ..
أن يقذف حجارة على نوافذ منزله..
أن يحمل خرطوم المياه ويوجهه نحو شرفة بيته ويغرقه كله بالماء كما أغرق وروده وبستانه..
فكر أن يستنجد بالشرطة، ويسجل محضراً ويطلب من رجال الشرطة أن يقبضوا عليه ويسجنوه.. وأن يرفع عليه قضية بالمحكمة حتى يحكم عليه بالسجن ويعاقب على عمله..
فكر.. وفكر.. وفكر..
وفي النهاية اقفل باب بستانه.. ومضى قاصداً بيته منكس الرأس دون أن يفعل شيئاً مما فكر به…
* * *
وبعد أيام عاد العم مهدي متفقداً بستانه..
فوجد الماء قد خف.. ورأى الورود القتيلة ممدة على التراب المشبع بالماء..
لقد قرر العم مهدي البدء من جديد..
ومن حسن الحظ، أنه كان يحتفظ ببعض شتلات الورود وبذورها في بيته.. وكان يهدي وروداً كثيرة لأصدقائه ومعارفه..
وعندما عرف الناس بما حدث جاؤوا ومعهم كثيرا من الورود التي أهداها إليهم من قبل.. وساعدوا العم مهدي ليبني بستانه من جديد, بصورة أجمل مما كانت عليه..
اجتمع الأصدقاء وأبناء الحي لمساعدة العم مهدي..
وعلموا جميعاً أن الجار نمّار هو الذي فعل ذلك العمل السيء..
لم يخبرهم العم مهدي لكنهم عرفوا ذلك من مواقفه السابقة، وكذلك لأنهم رأوا في عينيه شماتة وسعادة وابتسامة ماكرة..
ولم يكن يمد إليهم يد المساعدة..
وعندما أرادوا الانتقام منه نهاهم العم مهدي فهو لا يحب أن يؤذي أحداً من الناس، ويصفح عمن يؤذيه..
وبعد أيام من العمل الجاد المتواصل… عاد البستان إلى حالته السابقة وبدأت الورود تشرق في البستان من جديد..
* * *
بعد أسابيع كبرت الورود، وكان نمّار يراقب كل ذلك بغضب، خاصة أنه علم أن عمله أصبح مكشوفاً ولا يستطيع هذه المرة أن يعيد الكرة، فقد ينقلب عليه أهل الحي ويردون إساءته..
وبعد ذلك، وبعد أن أورد البستان وأزهر، وأصبح بهيجاً رائعاً من جديد..
قام العم مهدي بجمع أجمل ورود بستانه..
وضعها في زهرية جميلة..
لم يكن أحد يعرف ماذا سيفعل العم مهدي بهذه الورود؟
رآه نمّار يقترب من بيته..
كان مندهشاً.. خائفاً.. يظن أن العم مهدي قرر الانتقام منه أخيراً..
وخاف أن يفتح له الباب.. وكان قد استغرب من قبل كيف أن العم مهدي لم يعامله بقسوة.. ولم يطلب من أهل الحي أن يؤذوه كما آذاه..
فلام نمّار نفسه.. فكر بخطئه…
سمع طرقاً على الباب..
عرف أن العم مهدي على الباب..
لم يقدر على فتح الباب..
سمع صوت العم مهدي هادئاً طيباً كعادته: افتح يا جاري العزيز.. افتح الباب.. أحمل إليك هدية لطيفة..
فوجئ نمار بالهدية..
علم سكان الحي بما فعل العم مهدي..
فوجئ السكان..
فوجئ أصدقاء العم مهدي..
الورود وحدها لم تفاجأ..
كانت سعيدة سعيدة سعيدة..
النهاية