فإن العلماء ورثة الأنبياء، وكفى بهم شرفـًا أن يكونوا واسطة بين الله وعباده في تبليغ شرعه وبيان دينه وحلاله وحرامه، ولذا فالعالم يصلـِّي عليه مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض حتى النملة في جحرها، ولولا العلماء لصار الناسُ مثل البهائم.
ولقد ترك لنا علماء الإسلام الأجلاء تراثـًا حافلاً من الاجتهادات والآراء في جميع نواحي الحياة مستمدة من الكتاب والسنة لا يُستغنى عنها، بل لا يُفهم الحق بعيدًا عنها وبدونها، وإن العلماء إذا أجمعوا على حكمٍ ما فهو حُجة على العباد؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ونقصد بالعلماء أولئك الذين حصَّلوا أدوات الاجتهاد؛ فهؤلاء الذي يحقُّ لهم القول في دين الله -تعالى-، ومع ذلك فالعلماء بشرٌ يُصيبون ويُخطئون.
فلا شك أن أقوال العلماء ليست هي الشريعة، وإن كان يوجد ارتباط بينهما، ولكنَّ هناك فرقـًا كبيرًا؛ فالشريعة والدين هما: الوحي المنزل من رب العالمين على نبيه الأمين -صلى الله عليه وسلم-، سواء كان كتابًا أو سنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وهذا الوحي: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42)، فليس فيه خطأ أو استدراك.
ولمَّا كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يكتب كل شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهاه بعض الناس، وقالوا: "رسولُ الله بشرٌ يتكلم في الغضب والرضا"، فقال رسول الله: (اكْتُبْ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلا حَقٌّ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
أما أقوال العلماء فهي اجتهاد منهم في فهم النصوص واستنباط الأحكام، وهذا الفهم وذاك الاستنباط قد يعتريه أحيانـًا ما يعتري البشر من الإصابة أو الخطأ؛ لذا قالوا: "أقوال العلماء يُحتَجُّ لها لا يُحتَجُّ بها"، وإنما يكون قولهم حجة فيما اتفقوا وأجمعوا عليه، والعلماء الأكابر -رحمهم الله- هم الذين قرَّروا ذلك.
فهذا أبو حنيفة -رحمه الله- يقول:
"لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه"، وقال: "فإننا بشرٌ نقول القولَ اليوم ونرجع عنه غدًا"، وقال: "إذا قلتُ قولاً يخالف كتاب الله وخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاتركوا قولي".
والإمام مالك -رحمه الله- يقول:
1- "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه".
2- وقال: "ليس أحدٌ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-".
والإمام الشافعي -رحمه الله- يقول:
1- "ما مِنْ أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعزب عنه فهمها، فمهما قلتُ من قول أو أصَّلتُ من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو قولي".
2- وقال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، فقولوا بسنة رسول الله، ودعوا ما قلت".
والإمام أحمد -رحمه الله- يقول:
1- "لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخُذ من حيث أخذوا".
2- وقال: "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحُجَّة في الآثار".
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-:
"فالواجب على كلِّ مَنْ بلغه أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعرفه أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة؛ فإن أمر رسول الله أحق أن يعظـَّم ويُقتَدي به مِنْ رأي أي معظـَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوبٌ عندهم معظـَّم في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر رسول الله وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يُقدَّم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم مَنْ خالف أمره وإن كان مغفورًا له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يَكره أن يُخالَف أمرُه إذا ظهر أمرُ الرسول بخلافه".
قال أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله-:
"والحجة عند التنازع السنة، فمن أدلى بها فقد أفلح، ومن استعملها فقد نجى، وما توفيقي إلا بالله".
فتبين بهذه النقول أن أقوال العلماء ليست هي الشريعة، وأن نصوص الوحي هي الحجة عند الاختلاف، وأن أقوال العلماء يُستدل لها لا يُستدل بها، فينبغي ألا تنسى هذا الأصل، خاصة في هذه الأزمان التي نجد فيها فوضى علمية خاصة في مجال الدعوة والفتوى، وتجد من يؤصِّل أصولاً بلا أصول، بل تجد من يفتي بلا مبدأ ولا أصل ولا دليل، وإنما المبدأ اتباع الهوى والتشهِّي، وتتبع الرخص والزلات من أقوال العلماء؛ بدعوى التيسير على الناس أو مناسبة الواقع، أو غير ذلك من الدعاوى الباطلة.
فتجد أحدهم على سبيل المثال: يُفتي بوقوع طلاق الحائض على قول جماهير أهل العلم، وهُو هُو يفتي آخَرَ بعدم وقوعه بحسب إرادة المستفتِي، فتصير المرأة حلالاً حرامًا في نفس الوقت! وينسب إلى الشريعة التناقض، ولا تحسب هذا من تغيُّر الاجتهاد؛ فالرجل ليس من أهله، وإنما من تغيُّر الهوى!!
وقديمًا قال العلماء: "من تتبَّع الرخص اجتمع فيه الشر كله"، وقالوا: "من تتبع زلات العلماء تزندق".
فتخيَّل معي رجلاً يشرب بعض أنواع الخمور على مذهب الأحناف، ويأكل الربا على قول بعض أهل المدينة، ويسمع الموسيقى والغناء على مذهب ابن حزم، فيرتكب الموبقات متتبعًا زلات العلماء!
إن تأصيل هذه الطريقة يؤدِّي إلى الترخـُّص والتميُّع والتلاعب بالدين وشعائره، وإنما يلجأ إلى ذلك من قلَّ علمه وورعه، وقلـَّت بضاعته من الكتاب والسنة وتحقيق أهل العلم.
وقد كان المُفتون سابقـًا قسمين:
– قسم مقلـِّد لمذهب معين، لا يرى الخروج عنه، ولا الفتوى بخلافه، ويتمسك به في أصوله وفروعه.
– وقسم أعلى وأشرف من العلماء المحققين الذين يرجِّحون بين أقوال العلماء، ويُفتون بما أيَّده الدليل، ولا شك أن هذا القسم هم أهل الفتوى والعلم؛ لأن العلم: "معرفة الحق بدليله"، والتقليد ليس علمًا.
أما طريقة التلفيق والانتقاء بالهوى والتشهي؛ فهذا طريق فساد وإفساد، ثم إنه يَنسب إلى الدين ما ليس منه، بل ما الدين منه براء من الأقوال الضعيفة والشاذة والمنكرة: كنكاح التحليل والمتعة، وحل أنواع من الخمور والربا، أو أقوال يكذبها العلم الحديث كقول: "إن مدة الحمل لا آخر لها، أو تمتد إلى أربع أو ست سنين"، و"إن الأرض لا تدور"، و"إن الولد قد يكون لأبوين"!!
وهذا المنهج الباطل مما يجعل لأعداء الإسلام على المسلمين سبيلاً، فيطعنون في الدين عن طريق تصيُّد مثل هذه الأقوال، وإثارة الشبهات حول الإسلام، زاعمين أنها من تعاليمه وأحكامه! فنقول: "أقوال العلماء ليست هي الشريعة"، ولذا تجد أهل العلم قديمًا وحديثـًا يُنكرون الأقوال التي تخالف الدليل، وهاك أمثلة:
فهذا ابن الزبير -رضي الله عنهما- لما بلغه أن ابن عباس -رضي الله عنهما- يفتي بحل نكاح المتعة؛ يخطب قائلاً: "إن رجلاً أعمى الله بصيرته كما أعمى بصره يُفتي بنكاح المتعة".
والإمام النووي -رحمه الله- يقول عن مذهب أبي حنيفة في وجوب الزكاة في قليل الزرع وكثيره: "مذهب باطل".
وأبطل العلماء قول الأحناف في القصاص بين المسلم والكافر، وقول المالكية في كراهية صوم ست من شوال وعدم خيار المجلس في البيع إلى غير ذلك من الأمثلة، بل إن مِن كبار علماء المذاهب مَنْ يُخالف مذهب إمامه ويرجح خلافه؛ إنصافًـًا وإجلالاً للدليل، واتباعًا لإمامه أيضًا في تقديم الدليل على قول كل أحد.