حديث ابن عمر: إذا خلق الله النسمة، قال ملك الأرحام: أي رب ذكر أم أنثى؟ قال: فيقضي الله أمره، ثم يقول: أي رب شقي، أم سعيد؟ فيقضي الله أمره، ثم يكتب بين عينيه، ما هو لاق، حتى النكبة(1) ينكبها().
أخرجه ابن وهب(2)، وعثمان بن سعيد الدارمي(3)، وابن أبي عاصم(4)، والفريابي(5)، وأبو يعلى(6)، وابن حبان(7)، والآجرى(8)، واللالكائي(9)، كلهم من طرق عن الزهري، عن عبدالرحمن بن هنيدة، عنه، مثله، إلا أن عندهم جميعاً لفظة زائدة، هي عند بعضهم كما يلي: قال ملك الأرحام [معرضاً] وعند بعضهم الآخر [معترضاً](10).
وإسناده صحيح، إلا أن أصحاب الزهري قد اختلفوا في وقفه ورفعه، والراجح رفعه، بل إنه لو لم يرد إلا موقوفاً لكان له حكم الرفع فمثله لا يقال بالرأي.
وقد روى من وجه آخر عن ابن عمر، نحوه مرفوعاً، بزيادة: أي رب، أحمر أم أسود. أخرجه ابن عدي(11)من طريقين عن علي بن حرب الطائي:ثنا عبدالرحمن بن يحيى: ثنا مالك، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر.
وقال:هذا حديث منكر عن مالك بهذا الإسناد، ولا أعلم رواه غير عبدالرحمن، ولا أعلم روى هذه الأحاديث عن عبدالرحمن بن يحيى، غير علي ابن حرب. اهـ.
وعبدالرحمن بن يحيى هو العذري، وهو علة هذا الحديث، قال فيه العقيلي: "مجهول، لا يقيم الحديث من جهته"(12)، وقال الدار قطني: "ليس بقوي". وفي موضع آخر قال: "ضعيف". وذكره الأزدي فقال: "متروك، لا يحتج بحديثه"، وقال أبو أحمد الحاكم: "لا يعتمد على روايته"(13)، ولذا قال ابن عدي ما قال.
2 – وله شاهد من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة، أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب في راحته، فيقول: أي رب، عبدك هذا، ذكر أم أنثى؟ فيقضي الله إليه ما هو قاض، ثم يقول: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيكتب بين عينيه ما هو لاق، وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات.
رواه ابن وهب(14)، عن ابن لهيعة، عن بكر بن سودة الجذامي، عن أبي تميم الجيشاني، عنه، نحوه، وأخرجه أيضاً عثمان بن سعيد الدارمي(15) – واللفظ له – والفريابي(16)، والطبري(17)، كلهم من طرق عن ابن لهيعة، به.
ورجاله ثقات، إلا ابن لهيعة فهو (صدوق، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه، أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض الشيء مقرون) (18)، وهو مدلس أيضاً من الخامسة(19)، لكنه قد صرح بالسماع عند الطبري، وابن وهب من رواة هذا الحديث عنه، فإسناده لا بأس به إن شاء الله، وهو موقوف عند الفريابي والطبري، وقد رفعه ابن وهب، وروايته عن ابن لهيعة أعدل من غيره، كما مر آنفاً.
ولكن ينبغي التنبيه على أن لفظة: فعرج به إلى الرب، منكرة لمخالفتها للأحاديث الصحيحة، التي تفيد أن الملك يُنَفِّذُ أمر الله في النطفة وهي في الرحم(20).
الاستدلال :
استدل بهذا الحديث الدكتور/ محمد علي البار، في كتابه (خلق الإنسان…)(21)، فعرض صورة لجنين يبلغ من العمر أربعة أشهر ونصف تقريباً، على جبينه خطوط تشبه بصمات الأصابع(22).
ثم قال: "ألا ترى إلى هذا الكتابة المنقوشة، بدقة بارعة على جبينه، ووجهه إنها شعيرات دقيقة، مرسومة بمهارة فائقة، والغريب أنه لا يوجد اثنان على وجه الأرض، تتشابه فيهم هذه الكتابة، حتى ولو كانا توءمين". ثم ذكر الحديث.
التعليق :
اعترض الدكتور/ مأمون شقفة على ما ذهب إليه الدكتور/ البار – من أن الخطوط التي تظهر على جبين المولود، هي كتابة الملك – بل توقف في قبوله لأنه لا يشعر أنه مقتنع به.
وذكر أن الأسلوب العلمي، الذي يقضي بقبول ما قال الدكتور/ البار، يرتكز على أمرين:
1 – التأكد من صحة الحديث، فبعض الأطباء والباحثين يوردون الأحاديث ويربطون بينها وبين معلوماتهم، دون التأكد من صحتها، كما قال.
2 – التأكد بدليل نقلي، أو عملي تجريبي، من أن هذه الخطوط على جبين الجنين، هي المعنية بهذا الحديث لأن نص الحديث لا يفيد ذلك بالضرورة، فقد يكون المراد كتابة لا ترى، ككتابة رقيب وعتيد.
ثم تساءل: هل هذه الخطوط هي كتابة الملك؟
فأجاب على نفسه بأن الجواب بـ (لا) ممكن، والجواب بـ (نعم) ممكن.
ثم قال: "وكلاهما يفتقر إلى الدليل"(23).
وكذلك أقول لأن كتابة الملك غيب، ولا نعلم كيفيتها، لكن تَمَيُّز جبين الجنين بهذه الخطوط، دون سائر جسده، ربما جعل الجواب بنعم أقرب. والله أعلم.
وقد نقل الدكتور/ البار عن ابن حجر أنه قال: "وجمع بعضهم أن الكتابة تقع مرتين، ويحتمل أن تكون إحداهما في صحيفة، والأخرى على جبين المولود".
وهذا مختصر من كلام ابن حجر، على الجمع بين حديث حذيفة وحديث ابن مسعود، وتمام كلامه هو: "وجمع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين: فالكتابة الأولى في السماء، والثانية في بطن ، ويحتمل أن تكون إحداهما في صحيفة، والأخرى على جبين المولود، وقيل يختلف باختلاف الأجنة، فبعضها كذا، وبعضها كذا، والأول أولى"(24). اهـ.
والصواب – عندي – أن الثاني هو الأولى، بل هو المتعين، فكتابة ما يتعلق بالجنين في صحيفة، ثابت في صحيح مسلم وغيره من حديث حذيفة(25).
والكتابة على جبين المولود، ثابتة بحديث ابن عمر هذا، وحديث أبي ذر، ويحمل عليهما ما ورد في حديث أنس – المتفق عليه(26)–: …فيكتب كذلك في بطن أمه. وهل الجنين إلا في بطن أمه، وهذا يقوي موقف الدكتور/ البار، والله أعلم.
() خلق الإنسان بين الطب والقرآن (ص358).
(2) القدر (ص 137ح30).
(3) الرد على الجهمية (ص80).
(4) السنة (1/81، 82ح 182 – 185).
(5) القدر (ق 27، 28).
(6) مسند أبي يعلى (10/154، 155ح 5775).
(7) الإحسان (8/19، 20ح 6145).
(8) الشريعة (ص84).
(9) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/594، 595ح 1050، 1051).
(10) قال ابن الأثير في باب عرض: "يقال: عرض الشيء، وأعرض، وتعرض، واعترض، بمعنى". اهـ. النهاية (3/215).
(11) الكامل (4/290).
(12) الضعفاء (2/351).
(13) لسان الميزان (3/443، 444).
(14) القدر (ص 149ح 36).
(15) الرد على الجهمية (ص 30، 31).
(16) القدر (ق24).
(17) تفسير الطبري (جامع البيان…) (28/119، 120).
(18) تقريب التهذيب ص (319).
(19) طبقات المدلسين ص (54).
(20) انظر أحاديث المبحث السابق.
(21) خلق الإنسان بين الطب والقرآن ص (358 – 363).
(22) انظر شكل (10) من الملحق.
(23) القرار المكين ص (187).
(24) فتح الباري (11/486).
(25) تقدم تخريجه في المبحث الرابع عشر برقم (2).
(26) انظر تخريجه في أول حديث في المبحث الرابع عشر