الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
يا رب هذا ذلنا ظاهر بين يديك، وهذا ضعفنا لا يخفى عليك، فعاملنا بالإحسان إذ الفضل منك وإليك، نطلب منك الوصول إليك، ونستدل بك عليك، اهدنا بنورك إليك، وأقمنا بصدق العبودية بين يديك.
يا رب علمنا من علمك المخزون، واحفظنا بسر اسمك المصون، وحققنا بحقائق أهل القرب، واسلك بنا مسالك أهل الحب، وأغننا بتدبيرك عن تدبيرنا، وباختيارك عن اختيارنا، وأخرجنا من ذل معصيتك إلى عز طاعتك، وطهرنا من الشرك، اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تخيبنا، ومن فضلك نرغب فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
يا رب لقد خاب من رضي من دونك بديلاً، ولقد خسر من ابتغى عنك متحولاً.
يا رب لا يطيب الليل إلا بمناجاتك، ولا يطيب النهار إلا بخدمة عبادك، ولا تطيب الدنيا إلا بذكرك، ولا تطيب الآخرة إلا ببرك، يا ذا العزة والجبروت، ويا مالك الملك والملكوت، ويا من أمنت يونس في بطن الحوت، ونجيت موسى في التابوت، وحفظت الحبيب محمداً بنسيج العنكبوت، سبحانك أنت الحي الذي لا يموت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول في الحديث القدسي: ((ليس كل مصلٍ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب؛ كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل له الجهالة حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم عليَّ فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس، لا يُمس ثمرها، ولا يتغير حالها)).
وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، خير نبيٍ اجتباه، وللعالمين أرسله، زكَّى الله عقله فقال:
((مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى))(لنجم:2)، وزكى لسانه فقال: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى))(لنجم:3)، وزكى شرعه فقال: ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى))(لنجم:4)، وزكى جليسه فقال: ((عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى))(لنجم:5)، وزكى فؤاده فقال: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))(لنجم:11)، وزكى بصره فقال: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى))(لنجم:17)، وزكاه كله فقال: ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ))(القلم:4).
قال – عليه الصلاة والسلام: (ألا يا ربَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم، ألا يا رب متخوض ومتنعم فيما أفاء الله على رسوله، ما له عند الله من خلاق، ألا وإن عمل الجنة حَزْن بربوة، ألا وإن عمل النار سهل بسهوة، ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً).
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الهداة المهديين، الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا، يقول الإمام علي – كرم الله وجهه -: "إنه ليس شيء شر من الشر إلا العقاب، وإنه ليس شيء خير من الخير إلا الثواب، وكل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر، واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة، خير مما نقص في الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح، وكم من مزيد خاسر.
واعلموا أن الذي أمرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع، وقد تُكفِّل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم، فبادروا بالعمل وخافوا بغتة الأجل".
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
أيها الإخوة المؤمنون في كل مكان يقول الله – عز وجل – في سورة الحجر: (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))(الحجر:85).
فالسماوات والأرض تعبير قرآني يطابق مفهوم الكون، والذي يبدو لعلماء الفلك من خلال المراصد العملاقة أن هذا الكون لا
تحدُّه نهاية، ولا تحيط به دراية، ففي كل يوم تُكتشف مجرَّة جديدة، ونجوم بعيدة، فهناك مئات ألوف الملايين من المجرات، وفي المجرة الواحدة مئات ألوف الملايين من النجوم والكواكب، ويكفي أن نذكر أنه تم اكتشاف مجرة بعدها عن أرضنا يزيد عن ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية، علماً بأن الضوء يقطع ما يقارب ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، قال تعالى: ((فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ))(الواقعة:75 – 76 ).
فلا يعرف ما تعنيه مواقع النجوم إلا العلماء، ومن عرف ما تعنيه مواقع النجوم خشع قلبه، وخشعت جوارحه، وخر لله ساجداً، قال الله تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:28)
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ".
نعود إلى الآية الكريمة: (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ))(الحجر:85) فالحق لابَسَ خلق السماوات والأرض، فماذا تعني كلمة " الحق "؟
يا لروعة القرآن إنه يفسر بعضه بعضاً قال الله تعالى: (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ))(صّ:27)، فالحق إذاً مناقض للباطل، وقال تعالى: ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ))(الانبياء:16) فالحق إذاً مناقض للّعب، والحق إذاً ليس باطلاً وليس لعباً، وإذا كان الباطل هو الشيء الزائل والزاهق فالحق هو الثابت المستقر الأبدي.
وإذا كان اللعب هو الشيء العابث غير الهادف؛ فالحق هو الذي ينطوي على هدف كبير، وهو الاستقرار الهادف، أو الحكمة الثابتة، فما الهدف والحكمة من خلق السماوات والأرض؟
قال بعض العلماء في تفسير الآية الكريمة: ((.. خلق الله السماوات والأرض مَظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، وخلقنا كي نتعرف إليه من خلال خلق السماوات والأرض، فإذا عرفناه عبدناه، وإذا عبدناه حق العبادة سعدنا بعبادته في الدنيا والآخرة، فمن تعرَّف إلى الله وعبده حق العبادة، وسعد بقربه؛ فقد حقق الهدف من خلق السماوات والأرض، وحقق الهدف من خلقه، وقد ورد في الأثر القدسي: ((ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء…)).
يا رب ماذا وجد من فقدك، وماذا فَقَدَ من وجدك.
فمعرفة الله أمر مصيري في حياة الإنسان، فمن لم يـعرف ربه، ومن لم يهتد بهداه؛ ضل عقله، وشقيت نفسه، وحزن على ما فاته، وخاف مما هو آت، وكان هلوعاً جزوعاً منوعاً قال تعالى: (( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى))(طـه:123) (( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))(البقرة:38) (( إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ))(المعارج:19).
فهذا الهدي الرباني كيف نقنع الناس به؟ وكيف نحملهم على اتباعه؟ ولماذا دخل الناس في دين الله أفواجاً في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وفي عهد صحابته الراشدين؟ ولماذا خرج ناسٌ كثيرون من دين الله أفواجاً في عهود لاحقة؟ ولماذا كان الواحد من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كألف؟ ولماذا صار الألف من بعض المسلمين كأفٍّ؟ ولماذا نجح الأنبياء في تزكية نفوس أتباعهم والسمو بها، ولم ينجح غيرهم من دعاة الإصلاح وأدعياء الدين؟
يقول أحد المفكرين: إن مثلاً واحداً أنفع للناس من عشرة مجلدات، لأن الأحياء لا تصدق إلا المثل الحي، لهذا كان النبي الواحد بمثله الخلقي الحي وجهاده أهدى للبشرية من آلاف الكتَّاب الذين ملؤوا بالفضائل والحكم بطون المجلدات، وإن أكثر الناس يستطيعون الكلام عن المثل العليا، ولكنهم لا يعيشونها، لهذا كانت حياة الأنبياء إعجازاً، وكانت نتائج دعوتهم إعجازاً، بينما لا تلقى دعوة الداعين غير المخلصين من أتباعهم إلا الاستخفاف والسخرية، فالإسلام لا يحييه إلا المثل الأعلى، والقدوة الحسنة، والسلوك المستقيم، والانضباط الذاتي، والعفة عن المطامع والمحارم، والعمل الصالح، والتضحية والإيثار قال – عليه الصلاة والسلام -ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل)، وقال أيضاًركعتان من ورِع خيرٌ من ألف ركعة من مخلط)، والمخلط هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وقال – عليه الصلاة والسلام -: (من لم يكن له ورع يصده عن محارم الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله).
روي أن سيدنا عمر رأى راعياً يرعى شياهاً، فقال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، فقال الراعي: ليست لي، قال عمر: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب – وهو بهذا يمتحنه -، فقال الراعي: ليست لي، قال عمر: خذ ثمنها!! عندها قال الراعي: والله إنني بأشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟
لقد وضع هذا الراعي يده على جوهر الدين، ولو أن حظه من الثقافة الدينية محدود، فكفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه.
فإذا حدثت أحدَنا نفسُه أن يأخذ ما ليس له بحق، وليس عليه رقيب أو شهيد؛ فقال في نفسه كما قال هذا الراعي: ولكن أين الله؟ فهو قد عرف الله، وصحت عباداته، أما إذا أخذ ما ليس له بحق أن يأخذه فلن تنفعه ثقافته الدينية مهما اتسعت، وقد لا يقبل الله منه عباداته وأعماله مهما كثرت.
قال سهل التستري – رحمه الله تعالى -: " واللهِ لتركُ درهم من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، وقيل: ليس الولي من يفعل خوارق العادات، ولكنه من تجده عند الأمر والنهي في الملمات"، وقال سيدنا عمر – رضي الله عنه – لأويس القرني – رضي الله عنه -: " عظني يا أويس!!، فقال أويس: "ابتغ رحمة الله عند طاعته، واحذر نقمته عند معصيته، ولا تقطع رجاءك فيما بينهما ".
وفي القرآن الكريم إشارات دقيقة إلى الصفات الرفيعة التي يجب أن يتحلى بها كل من دعا إلى الله، وتصدى لهذه المهمة المقدسة، فلا بد من الترفع عن الدنيا وما فيها، ولا ينبغي أن يُتخذ الدين مطية للدنيا، قال الله – تعالى-:
((وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ))(يّـس:20- 21)، ولا بد من العمل الصالح فهو دليل صدق الداعية، وسبب نجاح الدعوة قال – تعالى-: (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))(فصلت:33).
ولا بد من الصبر على الطاعة وعن المعصية، وعلى من تدعوه فهو علامة الصدق في طلب الجنة، والإصرار على الفوز برضوان الله، قال الله – تعالى-: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))(السجدة:24).
ولا بد من الانقياد التام لأوامر الله كلها في المنشط والمكره، وما عُرفت حكمته وما لم تُعرف، فالرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين قال الله – تعالى-: (( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ))(البقرة:124).
ولا بد أن تكون الخشية لله وحده قال الله – تعالى-: (( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً))(الأحزاب:39).
أيها الإخوة الكرام: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – مثلاً أعلى لأصحابه الأطهار، وأسوةً حسنةً للمؤمنين الأخيار، وقدوة صالحة لأتباعه الأبرار، فقد اتسمت دعوته باتساع رقعتها، وامتداد أمدها، وعمق تأثيرها، لأنه طبق بسلوكه ما قاله بلسانه، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – على خلق عظيم، وكان خلقه القرآن، وأحبه أصحابه إلى درجة فاقت حد التصور، وأطاعوه طاعةً جاوزت حدود الخيال، قال أبو سفيان يوم كان مشركاً: "ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ".
فالسر في قوة تأثير النبي – صلى الله عليه وسلم – في أصحابه أنه كان لهم أسوة حسنة، وقدوة صالحة، ومثلاً يُحتذى، قال ملك عمان وقد التقى النبيَّ العدنان:" والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه كان لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد".
لقد كان – صلى الله عليه وسلم – جم التواضع، وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، وينصرف بكله إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا تصدق وضع الصدقة بيده في يد المسكين، وإذا جلسَ جلس حيث ينتهي به المجلس، لم يُر مادَّاً رجليه قط، ولم يكن يأنف من عمل لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار، وكان يذهب إلى السوق ويحمل بضاعته ويقول: أنا أولى بحملها، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والمسكين، ويقبل عذر المعتذر.
وكان يرفو ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل بعيره، ويكنس داره، وكان في مهنة أهله، وكان يأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس، و يمشي هوناً، خافض الطرف، متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا ينطق من غير حاجة، طويل السكوت، إذا تكلمَ تكلم بجوامع الكلم.
وكان دمثاً، ليس بالجاحف ولا المهين، يعظم النعم وإن دقت، ولا يذم منها شيئاً، ولا يذم مذاقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها.
إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، وكان يؤلف ولا يفرق، ويقرب ولا ينفر، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس، ويُحَسِّن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، و لا يقصر عن حق ولا يجاوزه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو ما يسره من القول.
كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب ولا فحَّاش، ولا عيَّاب ولا مزَّاح، يتغافل عما لا يشتهي.
ولا يخيب فيه مؤمله، وكان لا يذم أحداً ولا يعيِّره ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يُرجى ثوابه، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر على الغريب وعلى جفوته في مسألته ومنطقه، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه.
الحديث عن شمائله – صلى الله عليه وسلم – لا تتسع له المجلدات، ولا خطب في سنوات، ولكن الله – جل في علاه – لخصها بكلمات فقال: ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ))(القلم:4).
والمثل الأعلى الذي ضربه النبي – صلى الله عليه وسلم – بسيرته وخلقه حمل أصحابه الكرام على أن يهتدوا بهديه، ويتبعوا سنته، ويقتفوا أثره، فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقتدي برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيجعل من سلوكه ومواقفه مثلاً أعلى يُحتذى، فكان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصته وقال لهم:" إني أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايمُ الله لا أوتين بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانته مني" فصارت القرابة من عمر – رضي الله عنه – مصيبة.
وقد جسد هذا الخليفة الراشد – رضي الله عنه – بسلوكه قيم الحق والخير في أبهى صورها، جسدها بمواقفه وأحكامه فكان بحق بطل مبدأ مضى نحو تحقيقه من دون أن ينظر إلى الثمن.
وفي خلافة سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – جاءه إلى المدينة جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة معلناً إسلامه، وقد رحب به عمر، لكن بدوياً من فزارة داس على طرف ردائه، فغضب الملك والتفت إلى هذا البدوي وضربه، وهشم أنفه، فشكاه الفزاري إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، واستدعي عمر الملك الغساني إلى مجلسه، ودار بينهما حوار صيغ على الشكل التالي:
قال عمر: يا ابن أيهم جاءني هذا الصباح مشهد يبعث في النفس المرارة، بدوي من فزارة بدماءٍ تتظلم، بجراج تتكلم، مقلةٌ غارت، وأنف قد تهشم، وسألناه فألقى فادح الوزر عليك بيديك، أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح؟
قال جبلة: لست ممن ينكر أو يكتم شيئاً، أنا أدبت الفتى، أدركت حقي بيدي.
قال عمر: أي حق يا ابن أيهم، عند غيري يقهر المستضعف العافي ويظلم، عند غيري جبهةٌ بالإثم بالباطل تلطم، نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً.
أرضِ الفتى، لابد من إرضائه، ما زال ظفرك عالقاً بدمائه، أو يهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلته كفك.
فقال جبلة: كيف ذاك يا أمير المؤمنين هو سوقة وأنا صاحب تاج، كيف ترضى أن يخرَّ النجم أرضاً، كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعزّ، أنا مرتدٌ إذا أكرهتني.
فقال عمر: عالَم نبنيه كل صدع فيه بشبا السيف يداوى، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
أيها الإخوة الكرام: كلكم يعلم ماذا فعل جبلة بعد موقف عمر هذا – رضي الله عنه -.
لقد أدرك أعلام العلماء من السلف الصالح أثر القدوة الحسنة في تهذيب النفوس والسمو بها، وحملها على عظائم الأعمال، فوعظوا أنفسهم قبل أن يعظوا غيرهم، لذلك كان تأثيرهم في معاصريهم شديداً، وهيبتهم عند أولي الأمر عظيمة، قال الإمام الغزالي: "الوعظ زكاة الاتعاظ، ومن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (تركت فيكم واعظين: ناطقاً وصامتاً، فالناطق هو القرآن، والصامت هو الموت، وفيهما كفاية لكل متعظ).
فقلت لنفسي ( هذا قول الإمام الغزالي ): أما أنتِ فمصدقةٌ بأن القرآن هو الواعظ الناطق، فإن الله – تعالى- يقول فيه:
(( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ))(هود:15)، فقد وعدك ( يخاطب نفسه ) الله – تعالى- بالنار على إرادة الدنيا وحبها، وكل ما لا يصحبك بعد الموت فهو من الدنيا، ولو أن طبيباً وعدك بالمرض على تناول ألذِّ الأكلات لتحاشيتها واتقيتها، أيكون الطبيب عندك أصدق من الله – تعالى-، فإن كان كذلك فما أكفرك، وإن كان المرض أشد عندك من النار فما أجهلك، ثم وعظنا بالواعظ الصامت وهو الموت، فقلت قد أخبر الواعظ الناطق عن الواعظ الصامت، حيت قال الله تعالى: (( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ))(الشعراء:205 – 207)
وهكذا نجد كيف أن القدوة تفعل فعل السحر في النفوس، لأن الناس لا يتعلمون بآذانهم بل يتعلمون بعيونهم، ولغة العمل أبلغ من لغة القول، لذلك لا تستطيع أن تقنع الناس بشيء إلا إذا كنت قانعاً به، ولا تستطيع أن تحملهم على اتباعه إلا إذا سبقتهم إليه، عندئذ تكون أنت أيها الداعية قدوة حسنة.
والقدوة الحسنة هي حقيقة مع البرهان عليها، فمتى يستقيم الظل والعود أعوج، فأنت أيها المسلم على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ورد في الأثر القدسيإن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي، ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه).
أيها الإنسان: صانك الله فلا تبتذل، وأعزك فلا تَذل، وأعلاك فلا تسفل، ونقَّاك فلا تتلطخ، هو يسر لك فلا تتعسر، وقربك فلا تتباعد، وأحبك فلا تتبغض، جد بك فلا تكسل، واستخلفك فلا تتكل، وأعتقك فلا تتعبد لغيره، وأقالك فلا تتعثر، ونسبك فلا تجحد، وجبرك فلا تنكسر، وأنبتك فلا تذوِ، وحسَّنك فلا تقبح، وحلاك فلا تسمج، وعلمك فلا تجهل، ونوه بك فلا تخمل، وقواك فلا تضعف، ولطفك فلا تكثف، وأسرك فلا تنكشف، وانتظرك فلا تتوقف، وأمنك فلا تتخوف، وقومك فلا تتقصف، وندَّاك فلا تنشف.
أيها الإخوة المؤمنون: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
كل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر، والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر، إذا رجع العبد العاصي إلى الله سطع نور بين السماء والأرض، ونادى منادٍ مِن قِبَلِ الله – جل وعلا -: أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة الكرام: قلت في الخطبة الأولى إن جوهر الدين أن يعرف الإنسان ربه، وإن الكون كله مظهر لأسماء الله الحسنى، وإن التفكر في مخلوقات الله باب واسع من أبواب معرفة الله، وإن الإنسـان إذا تفكر في خلق الله عرفه، وإذا عرفه عبده وعبده سعد في الدنيا والآخرة، وقد وصف الله – تعالى- المؤمنين بأنهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض، وقد حضنا الله على التفكّر في بعض آياته، ومنها الإبل فقال: (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ))(الغاشية:17).
فلو أمعن المرء النظر إلى الجمل لرآه من أبدع المخلوقات، إنه أعجوبة في الهندسة التشريحية، فالجمل يُعدُّ وسيلة لا تُقدر بثمن في المناطق الصحراوية والتي تغطي سدس مساحة اليابسة، والتي تستعصي حتى على أقوى المركبات، وفي العالم ما يزيد عن خمسة عشر مليوناً من الجمال تزداد باستمرار، فكل ما في الجمل متقن التصميم للتكيف مع بيئته القاسية.
فعينه لها أهداب كثيفة، ومزدوجة، تحجب عنها الرمال المتطايرة، وتتميز العين بقدرتها على التكبير والتقريب، فهي تريه البعيد قريباً، والصغير كبيراً، وهذا سر انقياده لطفل صغير، أو لدابة قميئة قال تعالى: (( وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ))(يّـس:72)
وفي إمكان الجمل إغلاق أذنيه ومنخريه حفظاً من الغبار، أما أخفافه الضخمة فهي تُسهِّل له الحركة على الرمال من دون أن يغرز فيها، وشفتا الجمل مطاطيتان قاسيتان، تلتهمان الأشواك الحادة، وهما فعَّالتان في تجميع الطعام والأشواك حيث لا يفقد الجمل أية رطوبة بمد لسانه إلى الخارج (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ))(الغاشية:17).
ومن أبرز مزايا الجمل قلة حاجته إلى الماء ومع أنه يمكنه أن يشرب ما يملأ حوض استحمام، لكنه يستطيع أن يستغني عن الماء كلياً عشرات الأيام بل بضعة أشهر، حيث يستطيع في الحالات الطارئة أن يأخذ ما يحتاج إليه من ماء من أنسجة جسمه، فيخسر ربع وزنه من غير أن يضعف عن الحركة.
وفي السنام يخزن الجمل من الشحم ما يعادل خمس وزنه، ومنه يسحب الجمل ما يحتاج إليه من غذاء إن لم يجد طعاماً، ومتوسط عمر الجمل يزيد عن أربعين عاماً.
ولا يسلس قياد الجمل إلا إذا عومل باحترام ومودة وعطف، وفي هذا عبرة لبني البشر (( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ))(الغاشية:17).
عرفتك يا رب في بحث وفي فطرة فجئتك صباً طاهر القلب خاليا
لك في الآفاق آيات لعل أقلَّــــها نوراً بدا إليه هـــــداك
فإن رأيت النبت في الصحـــراء يربو وحده فاسأله من أربـاك
وإن رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من ذا الذي أســـراك
وإن رأيت النهر بالعذب قد جــرى فاسأله من ذا الذي أجـــراك
وإن رأيت البحر في الملح قد طغـى فاسأله من ذا الذي أطـــغاك
وإن رأيت الليل يغشاك داجــــياً فاسأله من يا ليل حاك دجــاك
وإن رأيت الصبح يسفر ضاحـــياً فاسأله من يا صبح حاك ضحاك
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، إنك أنت العفو الكريم، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسترزق من دونك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، و نعوذ بك من عضال الداء، ومن السلب بعد العطاء، ومن شماتة الأعداء.
اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضى إلا عنك، ومن الصبر إلا على بلائك.
اللهم إنا نسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك، ومألوف برّك، وعوائد إحسانك، وجميل سترك، وروح قربك، وجفوة عدوك.
اللهم احرسنا عند الغنى من البطر، وعند الفقر من الضجر، وعند الكفاية من الغفلة، وعند الحاجة من الحسرة، وعند الطلب من الخيبة، وعند المنازلة من الطغيان، فإنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تؤاخذنا بفعل المسيئين يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع مجيب للدعوات.
اللهم أعز كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين.
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير، ومن أراد بهم غير ذلك فخذه أخذ عزيز مقتدر.
والحمد لله رب العالمين