التصنيفات
منوعات

الورع

الورع

الورع لغة : ورِع، يرِعُ، مأخوذ من مادة وَرَعَ التي تدل على الكفّ والانقباض ،

والورع في اللغة العفة وهي الكفّ عن ما لا ينبغي ويقال توّرع أي تحرّجَ ، والورع التقوى

.
الورع بالاصطلاح الشرعي:ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك والأخذ بالأوثق وحمل النفس على

الأحوط، والورع اجتناب الشبهات ومراقبة الخطرات،

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الورع:"عمّا قد تُخَاف عاقبته وهو ما يًعلَم تحريمه وما يُشَك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله – فهذا قيدٌ مهم في الأشياء المشكوك فيها – ،وكذلك الاحتيال بفعل ما يشك في وجوبه ولكن على هذا الوجه".

وعرف ابن القيم رحمه الله بقوله: " ترك مايُخشى ضرره في الآخرة".


ومن منازل { إياك نعبد و إياك نستعين} منزلة الورع أيضاً وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الرُسُل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم}، وقال عزوجل: { وثيابك فطهّر} أي نفسك فطهر من الذنب فكنّى عن النفس بالثوب وهذا قول جماعة من المحققين من أهل التفسير، كما قال غيلان الثقفي :وإني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ، ولا من غدرة أتقَنّعُ.

ولا ريب أن تطهير النفس من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق والمقصود أن الورع يطهر دنس القلب ونجاساته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته، وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع في كلمة واحدة فقال: ((من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه))، فهذا يعم الترك لما لا يعنيه من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.

وقال إبراهيم: (( الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك وترك الفضلات – الأشياء الزائدة- )).

وروى الترمذي مرفوعاً : (( يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس)).

ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وقال بعضهم: " كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام".

هناك مسألة مهمة جداً في الورع وهي قضية العلم ، لأنه لا يمكن التورُّع بدون علم ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً مهماً في هذا؛ قال : " تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن مافي الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع الواجبات ويفعل المحرمات ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً- فيأتي مثلاً جيش من المسلمين أميره لا يمكن تغييره وعنده فسق وهو في جهاد يقاتل الكفرة فجاء أحدهم فقال أنا أتورع أن أجاهد وراء هذا الفاسق ، ماذا سيحصل؟؛ يجتاح العدو البلد وتقع الهزيمة في المسلمين. وأحدهم مات أبوه وعنده أموال مشبوهة وعليه ديون فلما جاء الناس يطالبون حقوقهم فقال الابن: أنا أتورّع أن أقضي ديون أبي من الشبهة فهذا الورع فاسد وهذا الإنسان جاهل، فالجهل إذاً يجعل بعض الناس يتركون واجبات بزعم الورع-، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة- غير مكفّرة- أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة العباد وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع".

ومن القواعد في الورع ما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: (( الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهدٌ ولا ورع ، وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع ))، وقال رحمه الله أيضاً: (( أما الورع فإنه الإمساك عما يضر- عن المحرمات- أو قد يضر-الشبهات-، فتدخل فيه المحرمات والشبهات لأنها قد تضر فإنه من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، وأما الورع عما لا مضرة فيه أو فيه مضرة مرجوحة لما تقترن به من جلب منفعة راجحة أو دفع مضرة أخرى راجحة فجهلٌ وظلمٌ وذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يُتَورَّع عنها: المنافع المكافئة والراجحة والخالصة، كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب ، فإن الورع عنها ضلالة )).

قسّم بعض العلماء الورع إلى ثلاث مراتب فقالوا:

1- واجب وهو الإحجام عن المحرمات وهذا للناس كافة.
2- الوقوف عن الشبهات ويفعله عدد أقل من الناس.
3- الكفّ عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وتفصيل ذلك الورع عن المباحات التي تشغل عن الله والآخرة ويكون عمله موافقاً للسنّة فلا يتورّع عن الزواج و الطعام مثلاً.
والورع كما تقدم إذاً عما هو محرم وعن كل شبهة وعن بعض الحلال الذي يُخشى إذا أخذ منه أن يقع في الحرام وإذا أراد خاتمة الورع وأعلى درجة فيه فالورع عن كل ما ليس لله تعالى وبالتالي لو أن الإنسان أخذ من المباح بنية صالح ( أكل بنية التقوِّي،نام بنية الاستيقاظ لقيام الليل، تزوج بنية النفقة على الزوجة وكسب الولد وإعفاف النفس وتكثير المسلمين…….الخ..) تنقلب مباحاته إلى طاعات وعبادات وفي هذه الحالة لا يسوغ له التورّع عنها ، لكن تتورع عن مباح قد يؤدي إلى حرام أو يشغل قلبك عن الله والدار الآخرة..؛ الورع في هذه الحالة سائغ.

والورع كلما أخذ به الإنسان كان أسرع جوازاً على الصراط وأخفّ ظهراً وتتفاوت في الآخرة بحسب التفاوت في درجات الورع وهو تجنب القبائح لصدق النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان وكذلك البعد عن حدود الله سبحانه وتعالى وكذلك فإن الإنسان المسلم ينتبه من الاقتراب من حدود الله، لأن الاقتراب منها يوشك أن يوقعه فيها، {تلك حدود الله فلا تقربوها}، {تلك حدود الله فلا تعتدوها}، والحدود يراد بها أواخر الحلال حيث نهى عن القربان، والحدود من جهة أخرى قد يراد بها أوائل الحرام ، فلا تتعدوا ما أباح الله لكم ولاتقربوا ما حرّم الله عليكم ، فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدّي هذه وهو اقتحام الحدود،فمجاوزة الحد في الحلال يمكن أن يوقعه في الكبائر العظيمة.

والإنسان المسلم عليه أن يتورع في الجوانب التي قد يؤدى الولوغ فيها للمهالك سواء في النظر .. في السمع.. في الشم.. في اللسان.. في البطن .. في الفرج..في اليد.. في الرجل .. السعي..وهكذا..

والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا الورع فقال: ((الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس))[ رواه الإمام أحمد وصححه الألباني].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنك لن تدع شيئاً لله عزوجل إلا بدّلك الله به ماهو خير لك منه)) [رواه أحمد وقال في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح].

وجاء عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفّة في طُعمة))[قال الهيثمي عنه في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح].

وفي الحديث العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس)) وفي رواية: ((وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد القلب كله ألا وهي القلب))[ رواه البخاري ومسلم].




جزاك الله خير
اللهم ارزقنا الورع وجميع المسلمين وكاتبه الموضوع



التصنيفات
منوعات

الورع

الورع

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الورع:"عمّا قد تُخَاف عاقبته وهو ما يًعلَم تحريمه وما يُشَك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله – فهذا قيدٌ مهم في الأشياء المشكوك فيها – ،وكذلك الاحتيال بفعل ما يشك في وجوبه ولكن على هذا الوجه".

وعرف ابن القيم رحمه الله بقوله: " ترك مايُخشى ضرره في الآخرة".

ومن منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) منزلة الورع أيضاً وقد قال الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون:51) ، وقال عز وجل: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر:4) أي نفسك فطهر من الذنب فكنّى عن النفس بالثوب وهذا قول جماعة من المحققين من أهل التفسير، كما قال غيلان الثقفي :وإني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ، ولا من غدرة أتقَنّعُ.

ولا ريب أن تطهير النفس من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق والمقصود أن الورع يطهر دنس القلب ونجاساته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته، وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة .

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع في كلمة واحدة فقال: ((من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه))، فهذا يعم الترك لما لا يعنيه من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.

وقال إبراهيم: (( الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك وترك الفضلات – الأشياء الزائدة- )).

وروى الترمذي مرفوعاً : (( يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس)).

ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وقال بعضهم: " كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام".

هناك مسألة مهمة جداً في الورع وهي قضية العلم ، لأنه لا يمكن التورُّع بدون علم ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً مهماً في هذا؛ قال : " تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع الواجبات ويفعل المحرمات ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً- فيأتي مثلاً جيش من المسلمين أميره لا يمكن تغييره وعنده فسق وهو في جهاد يقاتل الكفرة فجاء أحدهم فقال أنا أتورع أن أجاهد وراء هذا الفاسق ، ماذا سيحصل؟؛ يجتاح العدو البلد وتقع الهزيمة في المسلمين. وأحدهم مات أبوه وعنده أموال مشبوهة وعليه ديون فلما جاء الناس يطالبون حقوقهم فقال الابن: أنا أتورّع أن أقضي ديون أبي من الشبهة فهذا الورع فاسد وهذا الإنسان جاهل، فالجهل إذاً يجعل بعض الناس يتركون واجبات بزعم الورع-، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة- غير مكفّرة- أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة العباد وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع".

ومن القواعد في الورع ما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: (( الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهدٌ ولا ورع ، وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع ))، وقال رحمه الله أيضاً: (( أما الورع فإنه الإمساك عما يضر- عن المحرمات- أو قد يضر-الشبهات-، فتدخل فيه المحرمات والشبهات لأنها قد تضر فإنه من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، وأما الورع عما لا مضرة فيه أو فيه مضرة مرجوحة لما تقترن به من جلب منفعة راجحة أو دفع مضرة أخرى راجحة فجهلٌ وظلمٌ وذلك يتضمن ثلاثة أقسام لا يُتَورَّع عنها: المنافع المكافئة والراجحة والخالصة، كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب ، فإن الورع عنها ضلالة )).

أقسام الورع:

قسّم بعض العلماء الورع إلى ثلاث مراتب فقالوا:

واجب وهو الإحجام عن المحرمات وهذا للناس كافة.
الوقوف عن الشبهات ويفعله عدد أقل من الناس.
الكفّ عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وتفصيل ذلك الورع عن المباحات التي تشغل عن الله والآخرة ويكون عمله موافقاً للسنّة فلا يتورّع عن الزواج و الطعام مثلاً.

والورع كما تقدم إذاً عما هو محرم وعن كل شبهة وعن بعض الحلال الذي يُخشى إذا أخذ منه أن يقع في الحرام وإذا أراد خاتمة الورع وأعلى درجة فيه فالورع عن كل ما ليس لله تعالى وبالتالي لو أن الإنسان أخذ من المباح بنية صالح ( أكل بنية التقوِّي،نام بنية الاستيقاظ لقيام الليل، تزوج بنية النفقة على الزوجة وكسب الولد وإعفاف النفس وتكثير المسلمين…….الخ..) تنقلب مباحاته إلى طاعات وعبادات وفي هذه الحالة لا يسوغ له التورّع عنها ، لكن تتورع عن مباح قد يؤدي إلى حرام أو يشغل قلبك عن الله والدار الآخرة..؛ الورع في هذه الحالة سائغ.

والورع كلما أخذ به الإنسان كان أسرع جوازاً على الصراط وأخفّ ظهراً وتتفاوت في الآخرة بحسب التفاوت في درجات الورع وهو تجنب القبائح لصدق النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان وكذلك البعد عن حدود الله سبحانه وتعالى وكذلك فإن الإنسان المسلم ينتبه من الاقتراب من حدود الله، لأن الاقتراب منها يوشك أن يوقعه فيها، (..تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ..) (البقرة:187) (..تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ..) (البقرة:229) والحدود يراد بها أواخر الحلال حيث نهى عن القربان، والحدود من جهة أخرى قد يراد بها أوائل الحرام ، فلا تتعدوا ما أباح الله لكم ولا تقربوا ما حرّم الله عليكم ، فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدّي هذه وهو اقتحام الحدود،فمجاوزة الحد في الحلال يمكن أن يوقعه في الكبائر العظيمة.

والإنسان المسلم عليه أن يتورع في الجوانب التي قد يؤدى الولوغ فيها للمهالك سواء في النظر .. في السمع.. في الشم.. في اللسان.. في البطن .. في الفرج..في اليد.. في الرجل .. السعي..وهكذا..

والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا الورع فقال: ((الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس))[ رواه الإمام أحمد وصححه الألباني].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إنك لن تدع شيئاً لله عزوجل إلا بدّلك الله به ماهو خير لك منه)) [رواه أحمد وقال في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح].

وجاء عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أربع إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفّة في طُعمة))[قال الهيثمي عنه في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح].

وفي الحديث العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس)) وفي رواية: ((وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله في أرضه محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد القلب كله ألا وهي القلب))[ رواه البخاري ومسلم].

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من حُسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)).

نماذج عن الورع :

وحكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم عن شخصين فيمن قبلنا تورّعا عن شيء اكتشفاه في الأرض فاشترى رجل من رجل عقار له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني إني اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض إنما بعتك الأرض بما فيها،فكل منهما تورع عن أخذ الذهب، فتحاكما إلى رجل عاقل فقال ألكما ولد فقال أحدهما لي غلام وقال الآخر لي جارية، قال أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا )) [رواه البخاري ومسلم].

وكذلك قصة الصحابة الذين لم يشيروا إلى الصيد وهم حُرُم، فيقول أبو قتادة رضي الله عنه: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم، فرأيت أصحابي يتراءون شيئاً فنظرت – وفي رواية أنهم ضحكوا ولكن لم يشيروا ولم يعينوا-فإذا حمار وحش فوقع سوطه فقالوا لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون ، فتناولته فأخذته ثم أتيت الحمار من وراء أكمة فعقرته فأتيت به أصحابي فقال بعضهم كلوا وقال بعضهم لا تأكلوا ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمامنا فسألته فقال كلوه فهو حلال"، فكيف إذاً تورعوا عن الإشارة والمعاونة وعن الأكل منه.

وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتورع عن التمرة يجدها في بيته ،فأخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( كخ..كخ..)) ليطرحها ، ثم قال: (( أما شعرت أننا لا نأكل الصدقة))[رواه البخاري ومسلم]، وهذا فيه منع الولد أو الحفيد من أخذ التمر الذي لا يجوز له أكله مع أنه صبي صغير غير مكلّف ، وأما قصته صلى الله عليه وسلم في التمرة يجدها فقد أخرجها البخاري ومسلم أيضاً أنه قال صلى الله عليه وسلم : ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها )) أي لا يأكلها مع أنه جائع.

وكذلك كان صحابته رضوان الله عليهم فزينب رضي الله عنها حماها الله بالورع في قصة الإفك فمع أنها من ضرائر عائشة وقد وقع المنافقون في عائشة والناس تناقلوا كلام المنافقين وزينب من ضرائر عائشة وكانت تنافسها وتساميها عند النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما جاء الكلام في عائشة مع وجود الداعي للكلام وأنها من الضرار، تقول عائشة رضي الله عنها : "كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال يا زينب ما علمتِ ..ما رأيتِ؟ فقالت : (يا رسول الله ..والله ما علمت عليها إلا خيراً) قامت وهي التي كانت تساميني عند النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع".

وكذلك كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه سمع صوت زمارة راعٍ والإنسان غير مكلّف بما يسمع ولكن بما يستمع إليه فلا يجوز تقصّد السماع والتلذذ به، فمشى في الطريق بسرعة وابن عمر كان يضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول يا نافع أتسمع فيقول نعم ، فيمضي على حاله واضعاً إصبعيه في أذنيه حتى قلت لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق.
[رواه الإمام أحمد وقال أحمد شاكر إسناده صحيح].

وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه بلغ من ورعه في تلك القصة العظيمة التي رواها البخاري وهو أفضل الورعين بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان له غلام يُخرِج له الخراج ،وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام أتدري ما هذا فقال أبو بكر وما هو؟ قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه.فأدخل أبو بكر يده فقاءَ كل شيء في بطنه .[رواه البخاري].

وعن نافع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف في أربعة ، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ قال: إنما هاجر به أبواه لأنه كان صغيراً، ليس هو كمن هاجر بنفسه.[رواه البخاري].

وعن ابن شهاب قال ثعلبة بن أبي مالك إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً بين نساء من نساء المدينة فبقي مرطٌ جيد فقال له بعض من عنده يا أمير المؤمنين أعطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك ، يريدون أم كلثوم بنت علي لأن عمر تزوجها فتكون حفيدة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر أم سليط أحقّ ، و أم سليط هي من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عمر : فإنها كانت تزفر –تخيط-لنا القرب يوم أحد. [رواه البخاري].
فوائد الورع :

وهذا الورع أيها الأخوة ينتج عن الخوف من الله سبحانه وتعالى، فالخوف يثمر الورع والورع يثمر الزهد، فهذه المسألة مهمة جداً، فالورع له فوائد..

q اتقاء عذاب الرحمن وتحقيق راحة البال للمؤمن وطمأنينة النفس وهذه مسألة مهمة جداً.

q يكفّ عن الحرام.

q يبعده عن إشغال الوقت فيما لا يفيد.

q يجلب محبة الله لأن الله يحب المتورّعين.

q يفيد استجابة الدعاء، لأن الإنسان إذا طهّر مطعمه ومشربه وتورّع يرفع يديه فيجاب له الدعاء.

q مرضاة الرحمن و زيادة الحسنات.

q يتفاوت الناس في الدرجات في الجنة بتفاوتهم في الورع.

والمسلم إذا نقل قلبه من الدنيا فأسكنه في الآخرة وأقبل على القرآن الكريم انفتحت له الأبواب وكان فيمن يستطيع تحمّل هذا الورع، و هناك حلال محضٌ بيّن وحرام محضٌ ومسائل مشتبهة بينهما، فلبس القطن والكتان والصوف والزواج بعقد صحيح وأخذ المال من الميراث أو هبة من إنسان ماله حلال أو شراء شيء ببيع صحيح ، أمور الحلال المحض واضحة، وأمور الحرام واضحة كالميتة والدم والخنزير والخمر ونكاح المحارم ولباس الحرير للرجال وأخذ الأموال المغصوبة والمسروقة والغش والرشوة، أما المشتبهات التي ينبغي للمرء المسلم أن يتورّع عنها مثل:

ما اختلف في حلّه وحرمته

البغل متولّد ما بين الحمير والخيل

جلود السباع ولو كانت مدبوغة

التورّق وهو أن تشتري شيء بالأقساط وتبيعه نقداً لتحصّل سيولة وبعض العلماء لم يجزه مع أن الراجح جوازه لكن المسألة مختلف فيها، ونحو هذا..

إذاً من أسباب الشبهة تنازع العلماء في شيء معين هل هو حلال أو حرام وكل طائفة لهم أدلتهم،ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم حلالاً إلا بيّنه ولا حراماً إلا بيّنه ولكن بعض الناس يخفى عليهم بعض الحلال أو بعض الحرام ، ويتفاوتون في هذا ومن أسباب اختلاف العلماء فيه أنه ينقل في الشيء نصان أحدهما بالتحليل و أحدهما بالتحريم وقد يكون أحدهما صحيح والآخر ضعيف وأحدها ناسخ والآخر منسوخ فيأخذ كل طائفة من العلماء بنص من النصين فيحدث الاختلاف، أحياناً يكون الشيء فيه أمر فيقول بعضهم هذا للوجوب و بعضهم يقول هذا للاستحباب، والورع هو أن تقوم بهذا الأمر. جاء نهي فقال بعض العلماء النهي للتحريم وقال بعضهم النهي للكراهة والورع أن تتركه.

والعلماء أنفسهم قد تشتبه عليهم أشياء فلا يفتون فيها أو يتوقفون عنها، ومن أمثلة الأشياء المشتبهة ما لا يُعلَم له أصل ملكٍ كما يجده الإنسان في بيته فلا يدري أهو له أم لغيره،النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها))، ولكن من جهة التحريم والحل، فالأصل في المال الموجود في بيتك أنه لك، فجانب الحل أقوى، لكن إذا أردت الورع وتصدقت بهذا المال أحسن..

وكذلك فإن الشيء قد يجتمع فيه أحياناً سبب للحل وسبب للحرمة، فيتركه الإنسان فالنبي صلى الله عليه وسلم علّمنا عن أمور الأصل فيها الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان فلا تحل إلا بيقين،ولو حصل تردد مثل اجتماع سبب حاضر ومبيح نبقى على الأصل فيها وهو التحريم فقال صلى الله عليه وسلم في من أطلق سهماً على صيدٍ أو كلبه على صيدٍ فلما جاء ليمسك بالصيد وجد عنده كلباً آخر لا يدري الذي أمسك كلبه أو الكلب الآخر ، فإذا كان الكلب المعلَّم يجوز صيده، ومعنى ذلك أن الصيد غير المعلَّم لا يجوز صيده، فماذا يفعل إذا وجد مع الفريسة كلباً آخر لا يدري كلبه الذي صاد أو الكلب الآخر، وصل إلى الصيد الذي صاده وقع في الماء فلا يدري هل قتل بالسهم أو قتل بالغرق، الأصل يجوز الأكل مادام السهم أو البندقية خرقت و خزقت و سمّى الله على البندقية وأطلق ولكن وقوع الطائر في الماء يجعله في ريبة هل موت الطائر بفعل الرمية التي رماها أم الغرق فيتركه.

لو جاء رجل لأرض أو لسجادة وقال لنفسه هذا رجل لديه أبناء قد يكونون بالوا عليها،فأنا لن أصلي عليها، تورّع عن الصلاة عليها فما حكم هذا التورّع، هل هو شرعي أم لا؟

هذا تورع غير شرعي لأنه خالف الأصل بدون أي قرينة،والأصل في الأشياء الطهارة، فيكون هذا ورعاً فاسداً.

فسّر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام –يعني الحلال المحض والحرام المحض-وقال من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.

ومن ضمن الأمثلة أيضاً معاملة من ماله مختلط ، رجل يرابي ويبيع ويشتري، عنده حلال وحرام، فقال العلماء إذا كان أكثر ماله الحرام قال الإمام أحمد : ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون يسيراً أو لا يُعرَف، والحرام غير معيّن وليس معروفاً، فيجوز الأكل والورع تركه.وقال الزهري: لا بأس أن يُؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه . وقال سفيان: تركه أعجبُ إليّ.وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه:إن كان المال كثيراً أخرج منه قدر الحرام وتصرّف في الباقي، وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئاً فإنه تبعد معه السلامة من الحرام . ورخّص قومٌ من السلف في الأكل ممن يُعلَم في ماله حرام ولكن لا يُعلَم على التعيين ما هو الحرام، وهذه هي الخلاصة: يجوز معاملة من ماله مختلط إذا ما علمنا الحرام أين بالضبط والورع ألا يأخذ منه.

وكذلك فإن الاستبراء للدين مهم جداً في حياة الدين المسلم، والإنسان قد لا يشبع من الشبهة وقال الثوري رحمه الله في الرجل يجد في بيته الأفلس والدراهم: أحب إليّ أن يتنزّه عنها إذا لم يدري من أين هي.

ولا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس كما روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وقال حسن غريب وفي سنده عبدالله بن يزيد الدمشقي وهو ضعيف.

ومن تمام التقوى أن يتقِ الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وقال الحسن:مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام ، وقال الثوري: إنما سمّوا المتقين لأنهم اتقوا مالا يُتّقى. وقال ابن عمر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (( الإثم ماحاك في الصدر وكرهت أن يطّلع عليه الناس))، إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجاً وضيقاً وقلقاً واضطراباً فلم ينشرح له الصدر ومع هذا فإنه عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند إطلاعهم عليه . لكن الإنسان قد يقلق من أشياء لجهله فلينتبه من هذا وليسأل أهل العلم ، وهنا تظهر أهمية الاستفتاء وسؤال أهل الذكر الثقات.الصحابة تحرجوا من أن يأكلوا من اللحم الذي صاده أبو قتادة فالنبي صلى الله عليه وسلم أكل، و فرّق العلماء بين ما صيد لأجله(لأجل المحرم) وما صاده الحلال لا لأجل المحرم فيجوز للمحرِم أن يأكل منه.لكن لو أن الشخص الحلال غير المحرم صاد لك أنت أيها المحرِم فلا تأكل. والمقصود أن سؤال أهل العلم الثقات مما يريح الإنسان فينبغي أن لا ينسى هذا وأن يكون على ذكر منه. دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت. الإثم حوازّ القلوب تحز في القلوب والنفوس. وكذلك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة وكان بعض العلماء يعرفون الحديث الضعيف بأمور بقلوبهم وهذا ليس إلا للعلماء النقاد الكبار و أما طلبة العلم العاديين فلا يمكن أن يعرف ذلك بقلبه إلا فيما ندر.

وطلب الحلال فرض على كل مسلم، وقد ادعى بعض الجهّال أن الحلال في الأرض انتهى ،وبعضهم قال باقي الحشيش والكلأ في البر والأراضي التي ليس لها أحد ونهر الفرات؛ وهذا تضييق على عباد الله ومن الجهل وقلة العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه القاعدة المهمة جداً (( الحلل بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات))، والحلال كله طيب ولكن بعضه أطيب من بعض ، والحرام كله خبيث ولكن بعضه أخبث من بعض ، والإنسان المسلم قد يكون عنده الحلال معلوماً من قبل ثم يقع في شك فلا يلتفت لهذه الوسوسة إذا لم يكن لها دليل ولا قرينة وكذلك قد يكون يعرف الحرام من قبل فيأتي في نفسه وسوسة أن هذا ليس حراماً بدون علم ولا خبر ثقة أفتاه به أهل العلم فلا يلتفت إليه، و قد يعرف الإنسان الحل ويشك في المحرم فيكون الأصل الحل كما تقدم وهناك مثال يضربه بعض الفقهاء ويدل على قلة عقل من وقع فيه قال: اثنان وقفا فجاء طائر فاختلفا هل هذا غراب أم لا؟ فقال أحدهم عليه الطلاق أنه غراب، وقال الآخر عليه الطلاق أنه ليس بغراب، فلما أرادا أن يأتيا للتحقق طار الطائر ولم يدركاه، فصارت مشكلة فزوجة مَن طالق..!، فبعض الناس يفعل أشياء من قلة العقل، وفي هذه الحالة يقول العلماء : الأصل بقاء النكاح وحل المرأة للرجل، احتمال الطلاق وارد ومشكوك فيه. ولذلك فإن على الإنسان أن لا يورد نفسه في الموارد التي يتسبب بها في الحرج في نفسه وأن يقع في تعذيب النفس والشك، وقد يدخل الشك على بعض الناس في قضايا لا يشرع لهم أبداً السؤال فيها، فهل يجوز لإنسان دخل على بيت مسلم مستور ما يعرف عنه أي ريبة، وُضِع له الطعام ، أن يقول له : المال الذي اشتريت به هذا العشاء من أين أتيت به. هل هذا من الورع..؟!!، وفي ذلك إيذاء للمسلم لأن سؤالك هذا اتهام له..!واتهام المسلم ووضعه في موضع الشك بدون قرينة ولا دليل ولا بينة لا يجوز وسوء ظن، وإيذاء المسلم للمسلم حرام.

أحياناً تأتي أشياء تستدعي التورع مثلاً إذا دخل حلال قليل في حرام كثير فعند ذلك تكون هذه القضية مما يدفع الإنسان إلى الورع فعلاً. كذلك إذا كانت القضية في الأبضاع واللحوم كما تقدم. مثلاً هناك امرأة ثقة و جئتَ لتخطب فتاة فقالت أنا أرضعتها أو أرضعت أختها، أنا متأكدة أني أرضعت إحدى الأختين، لا أدري أيهما، فالورع أن تترك الزواج من كلتيهما. مثلاً اثنان ذبحا ذبيحتين ، إحداها ذبحها هندوسي والأخرى ذبحها مسلم ، جئت لتشتري وأنت تعلم ذلك ولكن لا تدري أيتهما التي ذبحها هذا و أيهما التي ذبحها الآخر فلا تشتري. مسألة اللحوم والأبضاع شديدة في الشرع ولذلك يحتاط فيها في أشياء أكثر من غيرها، ولكن بشرط أن لا يصل إلى الوسوسة أيضاً ، فلو أن هذه ذبيحة مسلم لا يجوز لك أن تشك فيها. إذاً هناك وسوسة في هذه القضايا لا يجوز الالتفات إليها ، وورع الموسوسين مثاله؛ قال ابن حجر في فتح الباري: "ورع الموسوسين كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم أفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام، وليست هناك علامة تدل على الثاني ".

هناك مسائل من الورع الدقيق لا تليق بكل الأشخاص. قال ابن رجب رحمه الله : " وهاهنا أمر ينبغي التفطّن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع -فهذا لو دقق يقبل منه التدقيق-، أما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورّع عن شيء من دقائق الشبه فإنه لا يحتمل له ذلك بل ينكر عليه" كما قال ابن عمر لأهل العراق لما جاءوا يسألونه عن دم البعوض وفيهم ممن قتل الحسين بن علي رضي الله عنه ، قالوا المحرم إذا قتل بعوضة يجوز أم عليه فدية ، فقال : "يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وقد قال صلى الله عليه وسلم هما ريحانتاي من الجنة؟!!".

وسُئِل الإمام أحمد عن رجل يشتري بقلاً ويشترط الخوصة ، فقال الإمام أحمد: ما هذه المسائل؟ قالوا: إنه إبراهيم بن أبي نعيم . فقال:كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم هذا يشبه ذاك (هو من كبار الزهاد العابدين).ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام أحمد يقول إن أمه تأمره بطلاق زوجته ، قال: إن كان برّ أمه في كل شيء ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل..!

فالخلاصة أن الورع منه دقائق لا تليق بأي أحد، بل ينكر على من تورع فيها إذا كان من أولئك الفسقة أو المتساهلين ، وعلى أية حال فإن الورع هو من العبادات العظيمة وملاك الدين الورع، والفقية الورع الزاهد المقيم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم له أجره العظيم يوم الدين ، والإنسان ينبغي أن يضع نفسه في الموضع الصحيح في مسألة الورع كما قال الأوزاعي: ( كنا نمزح ونضحك فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسُّم).وهذا الورع يُتَعَلَّم ، كما قال الضحّاك بن عثمان رحمه الله : (أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام) ، والإنسان إذا تورّع لن يعدم الحلال ولا يظن أنه سيضيق على نفسه ضيقاً لا مخرج منه فإنه يلتمس الورع الشرعي مثلما تقدم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين.

——————————————————————————–

المصدر : موقع الصوتيات والمرئيات الإسلام




التصنيفات
منتدى اسلامي

:: الورع عن محارم الله ::

:a5bdf2b232:» الورع عن محارم الله
» ويتطلّب أوّلاً
» ويتطلب ثانياً :063:

» النَص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين والعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

تضمنت الخطبة الشهيرة التي ألقاها رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر جمعة من شهر شعبان المعظم وفي استقبال شهر رمضان المبارك الكثير من الفضائل(1)، ولكننا سنتناول في بحثنا هذا نقطتين هما؛ الأولى: قوله صلى الله عليه وآله: «فإن الشقي مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم». والثانية: الورع عن محارم الله، حيث سأله الإمام علي سلام الله عليه عن أفضل الأعمال في هذا الشهر، فأجاب صلى الله عليه وآله: «الورع عن محارم الله».

:sddhgh:
:. من هو الشقي
أما عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله: «الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم». فقد قال علماء البلاغة: إن الجملة هنا تدلّ على الحصر، أي إن الشقيّ هو مَن حُرم غفران الله في شهر رمضان المبارك فقط، وليس في أي شهر آخر. فالشقاء منحصر في مَن شُقي في شهر رمضان وحُرم غفران الله فيه، لا غير. هذا هو الظاهر البلاغي للجملة، ومعناه أن الشقيّ كلّ الشقيّ هو الذي يحرم غفران الله في هذا الشهر خاصة.
ولا عجب فإن شهر رمضان هو شهر الله سبحانه وتعالى، اختُصّ به دون باقي الشهور، فهو شهر لتنظيم حياة الإنسان والتغيير نحو الأفضل والتطهّر من كل دنس، والطاعة لله سبحانه، وفيه يغفر الله للإنسا كل يوم وليلة أضعاف ما يغفر في سواه من الشهور، كما خصّه بليلة القدر التي هي أعظم من ألف شهر، ويغفر الله فيها ما لا يغفر في غيرها من اليالي والأيام، وكذلك يغفر الله في أوله وسطه وآخره. فشهر رمضان هو شهر «العفو العام». فمن لم يُشمل بالعفو فيه فهو الشقي حقاً.

:. أقسام الصوم ومراتبه
ونظراً لأهمية الصوم في شهر رمضان المبارك، ودوره في بناء الإنسان المسلم، فقد قسّم علماء الأخلاق الصوم إلى ثلاثة أقسام هي:
1. الصوم العام.
2. الصوم الخاص.
3. الصوم خاص الخاص.
الصوم العام: هو الكف عن المفطرات المذكورة في الكتب الفقهية والرسائل العملية من الأكل والشرب والكذب على الله ورسوله، والارتماس في الماء، والبقاء على الجنابة حتى الفجر، والتقيؤ عمداً وغيرها من الأمور التي إن لم يلتزم بها المرء لا يصدق عليه أنه صائم.
أما الصوم الخاص: وهو أرقى من الأوّل وأرفع درجة فهو الكفّ عن المحرّمات كلّها إضافة إلى ما ذكر، أو ما يسمى بصوم الجوارح مثل: كف السمع عن الاستماع إلى الغيبة، وكفّ البصر عن النظر إلى الأجنبية بريبة، وكفّ السان عما لا يحل له كالكذب واغتياب الآخرين، وهكذا.
وأما الصوم خاص الخاص: فلا يتوقّف حتى عند هذا الحد بل يترقى ليشمل النوايا والفكر أيضاً. فالصائم في هذه المرتبة لا يقتصر على الكفّ عن المفطرات وعموم المحرّمات فحسب بل لا يفكر فيها ولا تحدّثه نفسه بها.
أي أن هناك فريقاً من الناس لا يتورعون عن المعصية ويكفّون عنها وعن المحرّمات فحسب بل يتورعون عن التفكير فيها أيضاً، فهم يصومون عن المفطرات العامة، وتصوم جوارحهم عن ارتكاب الذنوب، كما تصوم جانحتهم عن التفكير فيها. وهذا صوم خاص الخاص. وهو أعلى مراتب الصوم وأقسامه.

:. لنصمم على بلوغ أعلى المراتب
لو أن أحداً صمم وعزم على الالتزام بالقسم الثالث والمرتبة الأعلى من الصوم، أي نوى الكف عن المفطرات وسائر المحرّمات وكذلك التفكير فيها أيضاً، فإنه قد يوفّق لبلوغ المرتبة الثانية أي ترك المحرّمات وصوم الجوارح إلى جانب ترك المفطرات العامة للصوم، فلو راجع نفسه بعد شهر رمضان لرأى أن فكره لم يكن صائماً وأنه ربما تخلّف عدة مرات وفكّر في الحرام، لكن جوارحه قد صامت والحمد لله.
أما إذا عزم المرء على المرتبة الثانية فيُخشى أن لا يوفَّق حتى لهذا، ولا يبلغ أكثر من المرتبة الأولى وهي الصوم العام، وذلك لأن الإنسان لا يوفَّق – عادة – إلا لما دون ما عزم عليه. يقول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه : «مَن طلب شيئاً ناله أو بعضه»(2). ولا نعني بذلك أن الإنسان مجبر على ذلك، بل هو لا يملك نفسه في الغالب، وهذا أمر قد ثبت بالتجربة. فإن الشخص الذي ينوي مطالعة عشرين صفحة مثلاً قد لا يشعر بالتعب إذا بلغ بضع صفحات (ثلاث أو أربع)، لكنه قد يشعر بالتعب وقد يتوقف إذا بلغ عشر صفحات أو أكثر. أما الذي يعزم على مطالعة ثلاث صفحات فقط فإنه سيتعب بمجرد قراءة صفحتين، وهذا يعني أن الإنسان يشعر بالتعب دون مقصده. وهذا حال أغلب الناس دون النادر من ذوي التوفيق الخاص.
ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يكون ذا تصميم قوي وإرادة فولاذية لكي يوفّق إلى طاعة الله عزّ وجلّ في أعلى مراتبها ونيل أعلى الدرجات، لا أن يقول حسبي ترك مفطرات الصيام؛ فإنه قد يُحرم غفران الله.

فليجلس كلّ منا ولو ساعة قبل شهر رمضان يقلّب فكره في هذه الأقسام من الصوم ويتساءل مع نفسه: ماذا يحدث لو عزمت على المرتبة الثانية على أقل تقدير، ولا أترك نفسي دون تحضير واستعداد وعزْم على ترك المحرّمات قبل أن أواجهها؟ فإن هذه الساعة من التفكير ستلعب دوراً في تغيّر الإنسان تجعله يختلف عن غيره من أوّل رمضان إلى آخره. حتى إذا راجع صحيفة أعماله بعد الشهر الكريم رأى أن سيئاته قد قلّت بدرجة كبيرة واقترب من غفران الله أكثر وابتعد عن الشقاء أكثر.
وهذا ليس بالأمر الصعب فهو لا يتطلب أكثر من أن تجلس قبل شهر رمضان ساعة من الزمن تخلو فيها بنفسك وتفكّر في مراتب الصوم وتعزم على بلوغ المرتبة الأعلى، فإنّ «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة» كما في الحديث(3).

:. ولنحدّد المحرّمات التي تواجهنا
كما علينا أن نظر ما هي محرّمات البصر وما هي محرّمات السمع وما هي محرّمات السان ثم نصمّم على الكفّ عنها، ونحاول ذلك.
في بعض الأدعية: «إلهي خلقتني سميعاً، فطالما كرهت سماعي، وأنطقتني فكثُر في معاصيك منطقي، وبصّرتني فعمى عن الرشد بصري، وجعلتني سميعاً بصيراً، فكثر فيما يرديني سمعي وبصري»(4).
فلنظر ما هي المحرّمات التي قد نتعرض لها؛ لأن كلّ إنسان معرَّض لقسم من المحرّمات، فليصمّم على ترك المحرّمات التي تواجهه، فربّ محرّمات لم يكن قادراً على فعلها أو أنها ليست من شأنه. فطالب العلم الديني مثلاً لا يصدر منه شرب الخمر عادة، لأن ذلك ليس من شأنه بل لا يفكّر فيه ولا يتصوّر وقوعه في هذا الفعل الحرام، وهكذا الواط والزنا والسرقة وتطفيف الميزان وما أشبه، ولكنه قد يقع في الغيبة أو الإيذاء أو إهانة الناس، فليحد المحرّمات التي من هذا القبيل وليصمم على تركها.

:. وليكن لنا في المتحولين عبرة
ولا بأس أيضاً أن يتذكر الإنسان أن هناك أناساً كانوا عصاة وفساقاً، ولكنهم انقلبوا بسبب قلوبهم المستعدّة والرقيقة- بموعظة أو أكثر، إلى أناس طيبين وعدول؛ فسوف نتحسّر كثيراً يوم القيامة إذ لا مجال لإصلاح أنفسنا عندما نعرف أن إنساناً بعيداً عن المطالب الدينية انقلب طيّباً وخيّراً وأصبح أحسن منّا عند الله سبحانه وتعالى ولم نغيّر نحن أنفسنا مع أننا كنا نعرف المسائل الدينية أكثر منه.
فإن كان التأمّل في هذا الأمر يؤلمنا فلنحاول أن نصلح أنفسنا خصوصاً في هذا الشهر الكريم.

:.الورع عن محارم الله
ذكرنا في مطلع الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله.
إذن علينا أن نعرف أولاً ما هي الأمور التي حرّمها الله تعالى؛ لأن الورع شيء والمحرّمات شيء آخر.
فهناك مسألة في الفقه يدور النقاش حولها وهي ما هو حكم مَن تتوفر فيه ملكة العدالة ولكنه لا يعلم كلّ المحرّمات، كالبدوي الطيب الذي لو عرف أن شيئاً بعينه حرام لتركه، ولكنه يجهله، ولنفرض أن جهله كان عن قصور لا تقصير، فهل تترتب عليه آثار العدالة أم لا؟
فلنحتمل الشيء نفسه في أنفسنا. فما أدرانا أنّا عرفنا كلّ المحرّمات؟ ولو عرفناها فما هي حدودها؟ فلعلّ بعضها غير واضح لبعضنا. إذن علينا لاسيما نحن أهل العلم أن نستفيد من فرصة هذا الشهر الكريم لمعرفة المحرّمات. فاحتمال عدم معرفتنا لكل المحرّمات يسوقنا إلى أن نوفر بعض الوقت لمعرفتها في هذا الشهر فهو خير فرصة لنا.

وإذا كان الورع عن محارم الله أفضل الأعمال في هذا الشهر، فمعرفة هذه المحارم مقدمة له.
والورع عن محارم الله أفضل حتى من قراءة القرآن في هذا الشهر، خلافاً لتصور بعض الناس.
إنّ ختم القرآن الكريم فضيلة عظيمة خاصة في هذا الشهر الكريم، وينبغي للإنسا أن يختمه فيه ولو ختمة واحدة، وهناك مَن يختمه حتى ثلاثين مرة! ولكن هناك فضائل أخرى كالإطعام وهداية الناس قد تكون أفضل حتى من قراءة القرآن، هذا إذا كانت تلك الفضائل مستحبة، أما إذا كانت واجبة فالقضية أعظم لأن المكلّف يأثم بتركها.
أما أفضل الأعمال كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله فهو الورع عن محارم الله.

ويتطلّب أوّلاً :
معرفة المحرّمات كما ذكرنا .
:11_1_212[1]:

ويتطلب ثانياً:
مطالعة الروايات التي عدّدت المحرّمات، لأن كثيراً من هذه الروايات تؤثر في دفع الإنسان لترك المحرّمات، بسبب توفّرها على علل التحريم وكذلك العقوبات التي تنتظر مرتكبيها. فرق بين أن يسمع المرء أن الغيبة حرام وحسب، وبين أن يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى المغتاب في ليلة المعراج ولسانه يُقرض أو يُفعل به كذا وكذا، فهذا يؤثّر في ترك الغيبة أكثر.
وهذه الروايات مذكورة في كتب الأخلاق مثل جامع السعادات والكتب التي تذكر آداب المحرّمات كحلية المتقين، والآداب والسن في بحار الأنوار…
ويتطلّب ثالثاً: الابتعاد عن كلّ المناهي؛ لأن من المناهي ما هو حرام ومنها ما هو مكروه، لاسيّما إذا لم يتضّح لنا بعد أن الأمر الفلاني مكروه أو حرام؛ فإنّ ذلك من مقتضيات الورع. أرأيت الذي يسير في أرض شائكة كيف يحتاط في رفع قدمه وضعها لئلا تصيبه شوكة بل حتى ما يشكّ أنها شوكة. ولذلك قال العلماء: إن الورع درجات. سئل الإمام الصادق سلام الله عليه عن أورع الناس فقال: «الذي يتورّع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء فإذا لم يتَّقِ الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه»(5).
إن الورع عن المحرّمات أدنى درجات الورع، نسأل الله سبحانه أن يوفّقنا لأعلى درجاته ولما يحب ويرضى:067:




:428: :7_5_121[1]:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد وآله الطاهرين والعن الدائم على أعدائهم أجمعين. *

« اللهم لا تدع لي خصلة تعاب مني إلا أصلحتها، ولا عائبة أؤنّب عليها إلا حسّنتها، ولا أكرومة فيَّ ناقصة إلا أتمتها ».

:. ضرورة التدبّر في كلمات الدعاء
في هذه الفقرات الثلاث نرى أنّ الإمام السجاد سلام الله عليه يسأل الله تعالى ثلاث حاجات، ولكنّه في سؤاله عن كلّ حاجة يستعمل كلمة غير التي يستعملها في السؤال عن الحاجة الأُخرى، فمع أنّ الإمام يطلب من الله تعالى في هذه الفقرات إصلاح الحال وما تنطوي عليه النفس من نقائص، وتغييرها إلى ما هو أحسن، ولكنّه سلام الله عليه يعبّر عن النقص الأوّل بالخصلة المعيبة ويطلب من الله تعالى إصلاحها، ويعبّر عن النقص الثاني بالعائبة التي يؤنّب بسببها ويسأل الله تعالى تحسينها، ويعبّر عن النقص الثالث بنقصان الأكرومة ويطلب من الله تعالى إتمامها.
ولا شكّ أنّ هناك ربطاً بين سؤال الإمام وحاجته؛ فالخصلة التي تعاب بحاجة إلى إصلاح، والعائبة التي يؤنّب بسببها المرء ويلام تحتاج إلى تحسين، والأكرومة الناقصة تتطلّب إتماماً.
ولا شكّ أنّ الألفاظ التي استعملها الإمام سلام الله عليه تنطوي على بلاغة عالية وعلى عالم من المعاني والمفاهيم.

:. للتوضيح أكثر نأتي بمثال:
قد يكون الشخص سيّئ الخلق، وقد يكون حسن الخلق ولكن عنده إفراط، وقد لا يكون سيئ الخلق ولا مفرطاً، ولكنّه حسن الخلق مع بعض الناس دون بعض، فهذه حالات ثلاث.
أمّا الشخص الأوّل (سيّئ الخلق) فبحاجة إلى إصلاح لأنّ سوء الخلق فساد والفساد يتطلّب إصلاحاً.
وأمّا الشخص الثاني (حسن الخلق المفرط، كالشخص الكثير الضحك) فبحاجة إلى تحسين وضعه وحاله، لأنّ الإفراط عيب.
وأمّا الشخص الثالث الحسِن الخلق مع بعض دون بعض، فهو ينطوي على أكرومة ولكنّها ناقصة؛ فيقتضى إتمامها.
الحالة الأُولى لا حاجة للوقف عندها كثيراً؛ لأنّ كلّ فاسد بحاجة إلى إصلاح، فسوء الخلق فساد لابدّ من إصلاحه.
أمّا الحالة الثانية وهي حالة وجود الفضيلة ولكن وجود إفراط فيها فتطلّب تحسيناً، لأنّها ليست فساداً لكي تُقلع بالمرّة؛ بل لابدّ من التحسين فقط.

يقول علماء الأخلاق: إنّ كلّ فضيلة هي وسط بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط في الحالة. فالكرم وسط بين البخل والإسراف، والشجاعة وسط بين الجبن والتهوّر، وهكذا. وكلّ شيء جاوز حدّه انقلب إلى ضدّه. وخير مثال على ذلك وضع الملح في الطعام فإنّ زيادة الكمية نقص كما نقصانها.
فالفضائل مطلوبة لكن ضمن حدودها، فإن تجاوزتها انقلبت إلى أضدادها فيحصل التأنيب، وتحتاج إلى التحسين.
وأمّا الحالة الثالثة فمثالها وجود الفضيلة أحياناً دون أُخرى، فترى الشخص مثلاً حسن الخلق في المجتمع ولكنّه ليس كذلك مع أهله، أو العكس، فمثل هذا الإنسان ليس سيّئ الخلق مطلقاً ليكون محتاجاً إلى الإصلاح ولا حسن الخلق مع إفراط فيحتاجَ إلى التحسين، ولكنّه لا يتوفّر على بعض الفضائل وإن كان يتوفّر على بعض آخر، فهو لذلك بحاجة إلى إتمام ما ينقصه.

وهكذا يتّضح أنّه كما ينبغي التدبّر في آيات القرآن الكريم بل قد يجب أحياناً من باب مقدّمة الوجود – حسب الاصطلاح العلمي – فكذلك ينبغي وقد يجب التدبّر في أدعية المعصومين عليهم السلام ومواعظهم؛ فإنّ التدبّر فيها يكشف عن دقائق ونفائس في كلماتهم تنير حياتنا.
خذ مثلاً كلمة (عائبة) فهي مؤنّث (عائب) والشيء العائب يحتاج إلى تحسين ومعالجة؛ كالسفينة إذا خرقت أصبحت معيبة فإن لم تعالج نفذ إليها الماء تدريجياً وآل أمرها إلى الغرق، كما نقرأ ذلك في قصة موسى والخضر عليهما السلام في قوله تعالى حكاية عنهما:
(أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصباً)(1)، وهكذا الحال مع النفس الإنسانية إذا كان فيها عيب وخلل يلام عليه الإنسان، فلابدّ من ترميمها وإزالة ذلك الخلل والعيب؛ ولذلك يقول الإمام سلام الله عليه «ولا عائبة أُؤنّب بها إلاّ حسّنتها».

وإذا كان الأئمّة المعصومون وهم في أعظم مقام يمكن أن يبلغه مخلوق، يطلبون من الله دائماً أن يعينهم في التكامل، فما أحرانا وما أحوجنا لأن نتوسّل بالله تعالى في الإطار نفسه، فإنّ الإنسان كلّه نقص وافتقار لله تعالى، ومن ثم فهو مدين لله تعالى ويجب عليه أن يتوجّه إليه بالشكر على كلّ النعم سواء في الأُمور المادّية أو المعنوية. حتّى نعمة الشكر على ما أنعم عليه، فإنّها تستوجب شكراً، ولذلك لا يتوقّف شكر الإنسان لله تعالى عند حدّ.
لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بالنعم المادّية لكي يستطيع أن يزكّي نفسه، ومنحه القوى لكي يكتسب المعالي والفضائل.

:. الورع وترويض النفس
يظهر من الروايات أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يلقي خطبة في استقبال شهر رمضان كلّ عام، ولكن هناك خطبة معروفة في هذا المجال ولعلّها أشهر تلك الخطب وأجمعها. في آخر هذه الخطبة يتوجّه الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه بالسؤال من رسول الله صلى الله عليه وآله عن أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ ولا شكّ أنّه سؤال العارف الذي يعرف الشيء ولكنّه يسأل ليفهمه للآخرين.
يلاحظ المتبّع أنّ الإمام سلام الله عليه لم يقل: «ما أفضل هذه الأعمال؟» بل قال: «ما أفضل الأعمال؟» أي أعمّ مّا ذكره وما لم يذكره النبي صلى الله عليه وآله في الخطبة، ويقول علماء اللغة إنّ الجمع المحلّى ب «أل» ظاهر في العموم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد ذكر أُموراً عديدة في خطبته الشريفة ينبغي للصائم عملها في شهر رمضان، وحثّ المؤمنين عليها، ولكنّه لم يأت على ذكر أيّ منها في جوابه للإما، بل قال صلى الله عليه وآله: «الورع عن محارم الله»(2).
ولكن هل يحصل الورع عند الإنسان بمجرد أن يشاء ذلك؟
بالطبع كلاّ، لأنّ هناك موانع كثيرة تقف في طريقه، كالشيطان والشهوات والنفس الأمّارة بالسوء، ولابدّ من ترويض النفس وتمرينها للتغلّب على هذه الصعوبات والموانع، كما هو الحال في كلّ مجالات الحياة فإنّه لا تقوى استعدادات الإنسان من دون ممارسة وتمرين.

ينقل أنّ أحد كبار العلماء المعروفين من مراجعنا الماضين (رحمة الله عليهم جميعاً) لم يمارس الكتابة منذ بدأ دراسته، فظلّ لا يجيدها حتّى بعد أن بلغ مراحل عالية في العلم وأصبح مرجعاً درَس ودرّس الكتب الكثيرة، وألقى آلاف المحاضرات. وقيل في أحواله أنّه كان يجد صعوبة حتّى في كتابة سطر واحد، وإذا كتب شيئاً لا يكون مفهوماً.
فإذا كان من قرأ آلاف السطور لا يجيد كتابة سطر واحد لأنّه لم يمارس الكتابة، فهل يمكن للإنسا أن يصبح ورعاً (أي حائزاً على ملكة الابتعاد عن محارم الله تعالى) من دون ممارسة وتمرين؟ كلاّ بالطبع، وشهر رمضان المبارك خير فرصة للقيام بهذا التمرين.

صفة المتّقين
لقد وصف الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه المتّقين بقوله: «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون»(3). فرغم أنّهم لم يشاهدوا الجنّة والنار بأعينهم الباصرة ولكنّهم متلئون يقيناً بهما، فترى أحدهم يحلم ويصفح عمّن سبّه أو ظلمه لأنّه يعلم أنّه سينال بذلك درجة في الجنّة، فهو سعيد منعّم حتّى في هذه الحالة، لأنّه كمن يرى الجنّة ودرجة المحسنين فيها بعين البصيرة وإن لم يرها بالعين الباصرة.
إنّ الورع هو الذي يبلغ بالإنسان إلى هذا المقام، ولكن هل يتحقّق هذا دون سعي وعمل؟ إنّ القرآن الكريم يصرّح في قوله تعالى: (وأن ليس للإنسا إلا ما سعى)(4) أنّ الله تعالى هو الذي يفيض على الإنسان وهو الذي يعطيه ولكن ذلك لا يتمّ إلاّ مع السعي والتمرين من قِبل الإنسان نفسه.

لو أنّ شخصاً تثق بأقواله أخبرك أنّه مستعدّ لتعويضك عن كلّ ما ستنفقه من أموالك في مجال الخير ويزيدك عليه شيئاً، فهل تتأخّر عن الإنفاق أم ستبسط يدك في سبيل الخير؟ لا شكّ أنّك لا تتأخّر عن الإنفاق لأنّك تعلم أنّه سيعوّضك عن كلّ ما ستخسره من أموال، وما ذلك إلاّ لأنّك تشاهد الشخص الذي تثق به عياناً، وترى أمواله وإمكاناته وتحسّ بعلاقتك المباشرة معه. فهكذا يكون المتّقون في تعاملهم مع الله تعالى؛ لذلك ترى الإنسان المتّقي لا يقول لماذا عمل معي فلان كذا مع أنّي خدمته؟! بل لا يفكّر في ذلك، لأنّه يؤمن بقوله تعالى:(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم)(5) بل تراه يتّهم نفسه دائماً، فقد روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قوله: «المؤمنون لأنفسهم متّهمون…»(6) أي أنّ المؤمن يتّهم نفسه ويراها مقصّرة دائماً! وما دام الأمر كذلك تراه لا يتألّم ولا يقلق ويبقى أرقاً حتّى الصباح لمجرد أنّ شخصاً ما لم يردّ عليه إحسانه، وأمّا حاله مع سخط الله تعالى فتراه يحتاط حتّى في قول كلمة واحدة ويحذر من أن تصبح له فخاً يؤدّي به إلى النار.

لقد نقل لي سجين سابق: أنّه كان جالساً مع زملائه في السجن لتناول وجبة الصباح، إذ نودي باسم أحدهم للذهاب إلى المحكمة، وكان يحمل كوب الشاي بيده فبدأت يده ترتعد وترتعش حتّى فرغ كلّ ما في الكوب من الشاي وسقط الكوب من يده إلى الأرض.. كلّ ذلك لخوفه من المثول أمام محكمة المخلوق، ويقينه بوقوعها.
هكذا هي حال المتّقين في يقينهم بمحكمة الخالق، فما أعظمها وأعظم أهوالها!

:. من يرى الجنّة لا يبالي بالصعاب
نقل أحدُ مراجع التقليد من أرحامنا أيام دراسته وقبل أن يتصدى للمرجعية، عن أحوال السيّد أبي الحسن الإصفهاني أيّام مرجعيته، قال: كنت قد كتبت استفتاءً للسيّد ولم أشأ أن أُزاحمه لأخذ الجواب في الأوقات العادية حيث يكون مشغولاً إمّا بالتدريس أو القاءات العامّة والخاصّة في بيته الذي يغصّ بالوافدين، فقرّرت أن أذهب إليه قبيل صلاة الفجر؛ لعلمي أنّه يكون مستيقظاً آنئذ لأنّه كان يصلّي صلاة الصبح جماعة في روضة أمير المؤمنين سلام الله عليه، فذهبت قبل أذان الفجر بزهاء ساعة إلى بيته فرأيت المصباح مضاءً فطرقت الباب، وعندما خرج الخادم سألته فيما إذا كان السيّد مستيقظاً فأجاب بالإيجاب، فطلبت منه أن يخبر السيّد أنّ فلاناً وراء الباب، فمكثت هنيهة حتى عاد الخادم واصطحبني إلى داخل الدار، فرأيت السيّد والرسائل متناثرة بين يديه يجيب عليها، في بعضها استفتاءات، وفي بعضها الآخر حاجات يطلب أصحابها قضاءها.

فقلت للسيّد: أرسلت لكم منذ أيام رسالة أستفتيكم فيها عن مسائل.
فقلّب السيّد الرسائل حتّى استخرج رسالتي ثمّ قال لي: عندما عدت إلى البيت كان بعض الأشخاص – كالعادة – ينتظروني لقضاء بعض الحاجات أو للإجابة على أسئلتهم، وبعد أن خرجوا رأيت أن أنتهي من الإجابة على هذه الرسائل قبل تناول العشاء، فبقي الطعام على الموقد الذي تراه أمامك على نار هادئة والرسائل لم تتمّ بعد، ومنها رسالتك هذه. ثمّ تناول رسالتي فأجاب عليها.
أقول: لا شكّ أنّ السيّد أبا الحسن الإصفهاني لم يكن آنئذ شاباً بل كان شيخاً ضعيف البنية وكان هذا الجهد المتواصل والبقاء دون عشاء حتّى الفجر لا يخلو من أثر سلبيّ على بدنه الضعيف، ولكن عندما يكون الإنسان كمن قد رأى الجنّة فهو فيها منعّم، تكون روحه كبيرة وتقوى على تحمّل هذه الصعاب، وهكذا عندما يكون الإنسان كمن قد رأى النار فهو فيها معذّب، تراه يحتاط في أُموره كثيراً؛ حذراً من الوقوع في ما يسخط الله تعالى ويستوجب النار.

:. لنتهز الفرص من أجل بناء أنفسنا
لينتهز كلّ منّا الفرص – لا سيّما شهر رمضان – من أجل بناء نفسه، فإنّه لا حدّ لبناء النفس، ولا يتصوّر أحد أنّه سيصل الحدّ الذي يتوقّف عنده جهاد النفس وبناؤها، ولقد ذكرنا في بداية البحث أنّ الإمام السجّاد سلام الله عليه يطلب في هذه الفقرة من الله تعالى ثلاث خصال في سبيل بناء النفس وتكاملها؛ فإنّه لا حدّ للتكامل والرقيّ أبداً، حتّى عند المعصوم مع أنّ العصمة هي أعلى درجات الرقي بالنسبة لسائر الناس، ولن يبلغوها لأنّها خاصّة بأُولئك الذين اصطفاهم الله لبلوغ هذا المقام، ولكن هذا لا يعني التوقّف عن بناء النفس وتكاملها، فما أحرى بالإنسان أن يسعى لبلوغ منزلة «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون».

بالسعي والتمرين – خاصّة خلال شهر رمضان – يمكن أن يصل الإنسان إلى تلك المرتبة، لأنّ هذا الأمر لا يتحقّق دفعة واحدة بل يتطلّب الممارسة والرياضة من أجل الرقي درجة درجة؛ فإنّ الله تعالى جعل عالم الدنيا عالم الأسباب، فلا يمكن أن ينام الشخص في إحدى اليالي ثمّ يستيقظ صباحاً ليجد نفسه قد تحوّل تحوّلاً كاملاً دفعة واحدة من الصفر حتّى بلوغ مرحلة (فهم والجنّة كمن قد رآها ..).

أجل، قد تحصل عند الإنسان حالة من التغيّر بسبب حالات خاصّة أو ظرف طارئ أو بسبب بعض المشكلات أو نتيجة التحرّز والاحتياط في ما يدخل الجوف من الطعام إلاّ ما ثبت حلّيته من جميع الوجوه، أو التأثّر بموعظة سمعها من خطيب أو وصايا قرأها لأهل البيت سلام الله عليهم، وربما اجتمعت عوامل عدّة في خلق هذه الحالة عند الإنسان، فيشعر أنّ قلبه قد تنوّر بعض الشيء، فينعكس هذا على سلوكه ومشاعره لتكون أفضل، ولكن هذه الحالة لا تستمرّ معه أبدا،ً فسرعان ما تبدأ بالذوبان كقطعة الثلج التي تذوب تدريجياً، وإذا به بعد أسبوع مثلاً يعود إلى سابق وضعه وحاله، وما ذلك إلاّ لفقدانه الرصيد الذي يمدّه، أمّا إذا كان متّصلاً بالرصيد والموّن الذي يستمدّ منه الفيض باستمرار، فإنّه سيبقى على تلك الحالة بل يزداد تصلّباً وتماسكاً فيها – كقطعة الثلج التي توضع في المجمّدة لا تذوب ما زالت المجمّدة تعمل- وشهر رمضان خير موّن للإنسا في هذا المجال، فلنستثمر أيامه ولياليه وساعاته ومناسباته وأدعيته العظيمة، فلنقرأ في كلّ ليلة مقاطع من دعاء أبي حمزة الثمالي بتأمّل وتدبّر، ونقف متمعّنين عند كلّ جملة أو عبارة أو فقرة من الدعاء؛ لأنّ التمعّن أفضل من القراءة العابرة لكلّ الدعاء.

ولا أقول لا تقرأوا الدعاء كلّه، فالدعوة للتأمّل بعض فقراته كلّ ليلة لا تتنافى مع قراءته كلّه، لأنّ قراءة الدعاء والمواظبة عليها تخلق هي الأُخرى ارتكازاً وحالة في النفس تساهم مع التأمّل والتدبّر في بعض فقراته في البلوغ بالداعي نحو مرحلة (فهم والجنّة كمن قد رآها)، وتعين العبد على أداء أفضل الأعمال في هذا الشهر وهو (الورع عن محارم الله)، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله في معرض جوابه لأمير المؤمنين سلام الله عليه حين سأله عن أفضل الأعمال في هذا الشهر.

وكان النبي صلى الله عليه وآله قد نبّه المسلمين في خطبته التي استقبل فيها شهر رمضان على استثمار هذا الشهر، ومن جملة ما قاله لهم صلى الله عليه وآله: «أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم فكّوها باستغفاركم»(7). وهذا معناه أنّ كل عمل نقوم به مهما كان صغيراً فإنّه يرهن أنفسنا. فالنظرة، والكلمة، وكلّ عمل يصدر عنّا يجعلنا رهائن، ولا نستطيع أن نفكّ أنفسنا إذا صارت رهائن إلاّ بالاستغفار.

ولا يشترط أن تكون الأعمال التي نقترفها كبيرة لكي نصبح رهائن لها، بل كلّ عمل كفيل بأن يرهن صاحبه مهما كان صغيراً؛ قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره)(8). فمن القطرات يتكوّن السيل الذي يجرف البيوت، ومن القطرات يتكوّن ماء المطر. إنّ الإنسان مسؤول عن كلّ صغيرة وكبيرة، كما ورد في الحديث الشريف: «ألا وإنّ الله عزّ وجلّ سائلكم عن أعمالكم حتى مسّ أحدكم ثوب أخيه بإصبعيه»(9) فلعلك تضع إصبعك على الثوب تريد معرفة نوعه أو لغاية أُخرى ولا يكون صديقك راضياً بذلك، فإنّك إن فعلت ذلك ستسأل عنه يوم القيامة، وفي الحديث أيضاً: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه»(10). يقول العلماء إنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم و«مال امرئ مسلم» نكرة وجملة «لا يحلّ» نفي فتكون جملة «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه» مفيدة للعمو ويندرج تحتها المورد المذكور في الحديث المتقدّم (حتى مسّ أحدكم ثوب أخيه..) وإن كان في مستواه الأضعف وليس الأشد كالسرقة والعياذ بالله.

وثمّة رواية أُخرى تقول: «في حلالها حساب وفي حرامها عقاب»(11) أي أنّ الإنسان سيسأل يوم القيامة حتّى عن النفخة ينفخها، كما لو نفخ في وجه إنسان يتأذّى من ذلك فإنّه سيعاقب عليه، أو نفخ في نار قدر الإطعام للمشاركين في عزاء الإمام الحسين سلام الله عليه مساهمة منه في تعظيم شعائر الله تعالى فإنّه سيثاب على ذلك.
وهكذا يحتاط الإنسان الورع في كلّ أعماله لأنّه هو والجنّة كمن قد رآها فهو فيها منعّم، وهو والنار كمن قد رآها فهو فيها معذّب.

:. الورع واجب عيني وفي كلّ حال
ثمّ إنّ الورع واجب دائماً وليس في شهر رمضان فقط، وهو واجب عيني على كلّ مكلّف وليس كفائياً بحيث إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
أمّا كيف يكون الورع واجباً فجوابه: لمّا كان ترك المحرّمات واجباً مطلقاً، وكان الورع – وهو تحصيل ملكة ترك المحرّمات – مقدّمة وجودية له، والمقدّمة الوجودية للواجب المطلق واجبة (من باب إذا وجب شيء وجبت مقدّمته)، إذن يكون الورع واجباً على المكلّف.
وهذا من قبيل ما ورد في عبارات الفقهاء: «يجب على كلّ مكلّف أن يكون في عباداته ومعاملاته مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً»، فإنّه أيضاً وجوب نشأ من نفس الطريق وهو كونه مقدّمة وجودية للواجب المطلق.

ثمّ إنّ الورع الذي قلنا بأنّه واجب بالوجوب العيني – بحيث لا يسقط عن شخص وإن بلغ أخوه أعلى درجاته – إنّ هذا الورع لا يأتي من فراغ وهكذا اعتباطاً، كما تقدّم منّا، ولا يكفي الدعاء أيضاً في حصوله بل لابدّ من أن يسعى الإنسان لتحصيله عبر السعي والممارسة والاستفادة من المناسبات التي وفّرها الله تعالى للإنسا المؤمن كشهر رمضان المبارك مثلاً، فلنحاول أن نختار في كل يوم من هذا الشهر الفضيل – وهكذا في سائر شهور السنة _ إحدى الإرشادات الدينية، ونعزم ونصمّم على تطبيقها في ذلك اليوم، فإنّ الأمر بحاجة إلى عزيمة، وكما ورد عن الإمام الرضا سلام الله عليه «فإنّما هي عزمة»(12) والتاء في قوله «عزمة» للمبالغة وليست للتأنيث.

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كلّ يوم…»(13).
وهذه رواية مستفيضة رويت عن أكثر من إمام معصوم وقد أفرد لها المرحوم الكليني باباً في كتابه الكافي وكذلك المجلسي في البحار، وعبارة (كل يوم) غير مختصّة بشهر رمضان كما هو واضح، ولكن لنفعل ذلك في شهر رمضان على الأقل أو لنبدأ منه.
ولقد روي في هذا المجال أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وبّخوها قبل أن توبّخوا» (14).

:. حذار أن نكون مّن لا ينتصح بما ينصح
ولنحذر نحن – أهل العلم خاصّة – أن نكون يوم القيامة مصداقاً لما ورد في الحديث الشريف: «أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره»(15).
وإنّي أتصوّر أنّه حتّى لو لم ترد هذه الرواية لكان ينبغي لنا إدراك ذلك بالتأمّل، كما يفترض بنا الاهتداء والاقتداء بأقوال وأفعال الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم الذين يعلّموننا ما هو الخطأ وما هو الصواب، ويمكننا القول إنّ هذا مّا يمكن استفادته حتّى من عموم رواياتهم الأُخرى.
حقّاً ما أعظم حسرة الإنسان وهو يرى نفسه متردّياً خاسراً لعدم استرشاده بالنصح الذي قدّمه لغيره، في حين يرى أنّ من نصحه قد أخذ بنصحه ونجا وفاز يوم القيامة!

إنّ الطريق إلى «فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون» طويل جدّاً، لكن هذا لا يعفينا أبداً، بل علينا أن نسير فيه دوماً، ولقد وعد الله تعالى عباده الساعين والمتوكّلين عليه بالتوفيق، وهو تعالى صادق الوعد، فلنترفّع عن صغائر الأُمور ونضاعف من اهتمامنا بأُمور الآخرة عسى الله تعالى أن يأخذ بأيدينا بركة أهل البيت سلام الله عليهم ويجعلنا من المستفيدين من شهر رمضان المبارك لكي نرى أنفسنا بعد اامه وقد تغيّرنا نحو الأفضل، وازدنا ورعاً وتقوى واقتراباً من حال الذين «فهم والجنّة كمن قد رآها…».

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين :4_8_4v[1]:




جزاكى ربى كل خير



التصنيفات
ادب و خواطر

لن ترضي الله الا بالورع

لــن ترضى الله حتى تخلص الورع ولن ترى ورعا بالجهل مجتمعا
حــــق العبـــادة فـــرض لن تؤديه ان كنت تجهل مفروضا وممتنعا

أمــــانة الله تسطــــع الأداء لــها اذا علمت بعون الله مـــا شــــــرع
ولــــن يـجــد صــــانع اتقان صنعـته حتى يكون على علم بما صنع

ومــــــن مضــى فى طريق لا دليل لها ولا معالم تهدى ضل وانقطع
وفــــاقــد العــيـن مـحتـاج لقائده لولاه لم يدرى مهما جار أو صدع

فاستنهض النفس فى إدراك ما جهلت حتى ترى العلم فى حباتها سطع
فــهذه النفـــس مـــــــــرآة جبلتها مــــا قـــابلت كائنا الا بهاانطبع

ومــــــن مضــى فى طريق لا دليل لها ولا معالم تهدى ضل وانقطع
وفــــاقــد العــيـن مــحتـاج لقائده لولاه لم يدرى مهما جار أوصدع

والعلم أشراط ما أمليت من خطر ماحل فى مــــوضع لله فاتضــع
فاطــلبه للـه يفتـحه بــــلا تعب لا تحتجز غيــر مـا يرضى به طمعا


لــن ترضى الله حتى تخلص الورع ولن ترى ورعا بالجهل مجتمعا
حــــق العبـــادة فـــرض لن تؤديه ان كنت تجهل مفروضا وممتنعا




شكرا ليكي



يعطيك العافيه



سلمت اناملكِ طرح مميز بأسلوب راقي يجذب القارئ

بارك الله فيكِ وفي اطروحاتك

شكرا لكِ ومزيدا من العطاء




مشكوره



التصنيفات
ادب و خواطر

يَ ضحكـة الورع مدري وين شآيفها ؟! حمد السعيد

" ياضحكـة الـورع مـدري ويـن شـآيـفــها "

إن كـان مـاني بـ وآآهـــٍم ضحـكـة ( فــلانـه )

غمــازتـه.. شـفٌته.. تشــبه شفــايـفها

واعـيــُونه عيــونها يضــحك ونعــسـانه

والله يـآضحـكـته عـجــزت اطــوفها

واللي شغـلنــي معـه مـن جمـلة اخــوانه

وقفـت والنــفس مآ بـدٌت حســايفها

ضـيعـت وقـتي معــه كـلـه علشــانــه

ابـنشـدهـ والبشـر تتـبع ولايــفــها

يلعـب طـرف بالمــلاهي بـين ورعـانه

وصديت والعين ما تنسـى وصايفها

(هــآذيك) نفسـي عليها حيـل شفـقـانه

يـا نفسـي ياللي تحلفني واحلٌفـها

حاولت اشكـك وهـي ماهيــب غلطـانه

تقـول هالـورع والله مــن خــلايفها

واقـول ربي يخـلق اشباهـ سـبحانـه

هاذيـك راحـت وانــا مانيــب عايـفها

حكم المقٌـدر وكــلٍ راح فــي شــأنه

خبــري بها يــوم جــاها من طوايفها

اللي خــذاها ويتــبع سلـم جــّدانه

ماشــافـته لا .. وهـو ماهـوب عارفـها

مــا شـاوروها أبــد ماكـنـها إنســانه !!

رآآآحــت وانا بالشـقى كـني مـناصفها

يامـل قلبٍ شكــى همــّـه وحــرمـانـه

وللـيـوم قلبي يـردد لـي ( سـوالفها )




متصفح منتقى بعذوبهــ
وباحساس وروح جميلهـ
بارك الهي فيكـ
وسلم اناملكـ
وبنتظار جديدك بكل لهفهـ
لروحك اصدق الدعواتـ
ويحقق لك فيها مرادكـ
لكي ودي ياعزيزتي




يسلموؤوؤو



أسجل إعجابي بطرحكِ
الرائع واختياركِ الجميل
دمتِ ودام إبداعكِ وعطـــاؤكِ
المتميز وبانتظار جديدكِ

خليجية




كالعادة ابداع رائع
وطرح يستحق المتابعة
شكراً لك
بانتظار الجديد القادم
دمت بكل خير



التصنيفات
قصص و روايات

رحيل فتى يافع تقيِّ صالح معلق قلبه بالمساجد وهو صائم لابسٌ إحرامه !! ونماذج منه حيّة في الدين والورع !! مشوقة

رحيل فتى يافع تقيِّ صالح معلق قلبه بالمساجد وهو صائم لابسٌ إحرامه !! ونماذج منه حيّة في الدين والورع !!

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله أجمعين ، وبعد :

تعجز العبارات حقيقة ويضعف التعبير عن سرّ هذا الفتى وجميل خلقه وشدة تقواه ..
لكني أكتب شيئًا يسيرًا عما رأيته وعايشته معه في سويعات يسيرة .. فقد كانت مليئة بالدروس والمواعظ الجليلة .. وكيف لا يتعيّن علي الكتابة عنه وقد كنت آخر شخص يزوره محمد فكحّل عينيّ برؤيته وشنّف أذني بسماع صوته !!
لا أطيل عليكم فهذا الشاب من النوادر في هذا الزمان .. وهذه ومضات يسيرة عنه على شكل نقاط – وهي متداخله مع بعضها – ، فمن أبرز صفاته :

1- شاب معلق قلبه بالمساجد :
كنت يومًا من الأيام خارجًا من مسجد الجامعة الإسلامية في صلاة الظهر وإذ بي بشابَّين أمام المسجد ، الأول قديم فيها ، والآخَر – وهو صاحبنا – ( محمد ) حديث العهد بها ، بل كان قد جاء قبلها بيوم !
المهم أن الطالب القديم يكلم محمدًا – بإصرار شديد – تعال معي أوصلك إلى غرفتك ، فيرد محمد بإصرار أشد – وكأنه يُساق إلى الموت – : لا أبدًا ! لا أترك المسجد ، وسأبقى فيه ، وماذا أفعل في غرفتي ؟!
فقلت في نفسي لما رأيت هذا المشهد : أول الغيث قطرة ، والظاهر سنتعلم دروسا تربوية عملية من هذا الشاب لن نجد أثرها في قراءة مجلدات ! ( وإن لم يكن هذا الفتى الذي ترك راحته في عزَ الظهيرة وشدة الحر معلّق قلبه بالمساجد فمن ؟؟ )

*كنت أتأخر بعد صلاة العشاء في الحرم أحيانا بساعة وزيادة ، فأجده أمامي فأعرض عليه أن أوصله معي .. فيقول : سامحني أريد أن أتأخر في الحرم قليلاً وأقرأ !!

2- شابٌ كثير العبادة :

* صار الشاب تحت مراقبة عيني لأني علمت أن وراءه شيئًا كثيرًا .. فصرت إذا دخلت المسجد عند أذان الفجر – وهذا نادر مني للأسف – أجده رافعا يديه يدعو الله ويناجيه بتذل وافتقار عجيبين !
* جاء مرة صاحبه في السكن مستنكرًا عليه عدم إيقاظه معه للصلاة ، فقال له : والله أيقظتك كثيرا وأنت لا تستقيظ ! فقال له صاحبه : كيف أستيقظ لصلاة الفجر قبلها بساعة ونصف !!
* كنت أمرّ في بعض الأحيان من الصفوف الأولى في المسجد النبوي فأجده هناك ، أبكّر لصلاة الجمعة أو أتأخر بعد أيام الأسبوع الأخرى الظهر فأجده وافقا يصلي ويناجي ربه وقفة عابد له علاقة قوية مع ربه ، لا يلتفت يمنة ويسرة وتشعر أن قلبه كذلك متجه بجوارحه وقلبه على ربه .
* كان يصوم صيام داود عليه السلام فيصوم يوما ويفطر يومًا ، ولا يأكل في الغالب إلا تمرا يحتاج كسره ومضغه دقائق معدودة مع شرب الماء .

ولا أخفيكم أني كنت لما أرى جِدّه واجتهاده في العبادة وتأخذ من وقته شيئًا كثيرًا .. جاء في نفسي كلام ابن الجوزي في تلبيس إبليس ، وكيف يلبس الشيطان على ابن آدم ويصرفه عن الواجبات .. فكنت أقول هذا سيضيّع فرصته في هذا البلد المبارك ، ولا يجتهد في العلم ، حتى جاء وقت الاختبار النهائي وإذ بي أفاجأ أنه من أوائل الطلاب المتفوقين ، حتى المادة التي خسفت بمعدل أكثر الشباب كان هو الوحيد فيما أعلم المتفوق فيها ..

3- شدة ورعه وتقواه :
• كنت مرةً جالسًا معه في الحرم ، فقلت له ضع الكتاب على الكرسي ( أو الطاولة) – يعني الذي يوضع عليه المصحف – لتقرأ عليه الحديث ، قال : لا ! هذه وقف للمصاحف وليست للكتب الشرعية !!

• تعطلت سيارتي – وهو على صغره صاحب خبرة بهذا المجال – فطلبت منه يأتي معي ليرى ما بها ، فركبنا سيارة أحد الزملاء الفضلاء ، وهما يعرفان بعضهما ، وفي الطريق يقول لي محمد هل كلمت الشيخ – يعني صاحب السيارة – لماذا ركبت معه السيارة ! قلت له توكل على الله ، الأمر ما يستحق، وكنت أظنه يمزح بهذا السؤال ، حتى كرّره مراراً فقال له صاحب السيارة نعم طارق استأذن لك وأخبرني أنك ستصحبه في مشواره ، فاطمئن وجلس هادئًا !!
وقد شاهد صاحب السيارة محمدًا وهو راجع من المسجد النبوي إلى الجامعة ماشيًا على قدميه ، واجهه بذلك أمامي ، فاستحيى وقال : هذا حصل معي مرة أو مرتين فقط وأنا أحب أن أراجع في الطريق
قلت : ولعل هذه الهمة العالية مستمدة من قيامه لليل { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا }.

• اشتغل مرة في سيارة يصلحها واحتاج لقماش ، فقلت له هذا الاسفنج استعمله – وهو مطروح في الشارع – فقال : لا أستعمله ! أخشى أن أصحابه يحتاجونه ، حتى أقنعته بعدم الفائدة منها فاستخدمها مُكرهًا.

وأذكر مرة أنه كان يجلس في الصف الأول في الحرم ، جلست معه للمذاكرة في صفوف متأخرة ، وقلت له احجز مكانك فرفض ! ثم لما انتهت المذاكرة وأراد الوضوء رفض أيضًا أن يحجز شيئًا مكان جلوسه !!

4- تفانيه في خدمة إخوانه :
• مرَّ ذات يومٍ من أمام سكني بعد العشاء بساعة ، فظنت أنه ذاهب لغرفته في الوحدة الخامسة عشر ، فقلت له – وكان ذلك في أول أيام تعرفي عليه – هل لك أن تضع ملابسي هذه معك في المغسلة فقال : نعم وفرح بذلك ، وقلت له تعطيني الفاتورة لاحقا .. ، فبعد وقت إذ بي أفاجئ أنه عاد إليّ ليعطيني الفاتورة ! فقلت له لماذا رجعت ؟؟ فقال : أنا أصلا أريد أن أرجع للمسجد فكتبُي فيه – وسكني بجانبه – ، فقلت له لماذا وافقت على الذهاب ومشيت لأجلي فقط !! ، فأشعرني أنه مستمتع بذلك ، فصمتُّ واستحيت من نفسي على هذا الموقف وتمنيت أنه لم يحصل .
وكما مر سابقًا فإني لم أحتج إليه لحظة لإصلاح سيارتي إلا بادر رحمه الله بالمجيء معي مع ضيق وقته .

وقال لزميلٍ لنا وكان قد استقدم زوجته معه في المدينة ، قال له " نحن نصرف على أنفسنا فقط ، ولا نصرف على أحد أما أنت فتصرف على غيرك ، فبالله عليك إذا احتجت أي شيء أخبرنا فنحن يزيد عندنا المصروف " يقول الزميل والله ما قالها لي أحد من أصدقائي المقربين ألبتة .

5 – قصة موته بعد أن صام ولبس إحرامه :
التقيته في يومه الأخير – رحمه الله – في صلاة الظهر والذي كان فيه صائمًا ، فعرضت عليه أن يصحبني للعمرة ، وكنت أتمنى من زمن بعيد صحبته عن قرب لأرى عبادته وشأنه في كامل يومه ، ولأجل ترغيبه في ذلك قلت هناك سكن مؤمَّن إن شاء الله ، فاعتذر وقال أصلا أنا ما أحب أن أخرج من الحرم ، أحب أن أنام وأبقى في الحرم لا أخرج منه ، قلت له : كما تحب ، وذهبت لغرفتي للقيلوة ، فجاءني في شدة الحر من سكنه البعيد ليقف عند رأسي ويوقظني من نومي ويقول لي : استخرت الله تعالى وقررت الذهاب معك لأني تذكرت أني معك أستطيع أن أطبق السنة أكثر ، فقلت له أبشر ، ثم بعد وقت يسير صار عندي ظرف اضطرت معه أن أتصل عليه وأعتذر منه عن الذهاب لمكة ، فقبل اعتذاري بكل صدر رحب ، وقال لي توكل على الله في مشوراك ، وأصلا أنا ذاهب بدونك .

ثم في منتصف الليل جاءني ومجموعة من الزملاء اتصالٌ مفاده : أن أخاكم محمد رياض قد ضربته سيارة على رأسه وهو في الميقات أصيب على إثرها بنزيف شديد في الدماغ ، وهو في العناية المركّزة في مستفى الملك فهد ، وفي وضع حرج جدًا .
فخيّم الصمت لحظات على جميع الإخوة من هول الخبر ، ثم بعد وقت تبسّم بعض الإخوة الفلسطينين فيما بينهم ، فقلت لهم وماذا عندكم ؟ قالوا : نحن جلسنا أشهرًا نغدو ونروح للسفارت ولإكمال الأوراق الرسيمة للمجيء للجامعة ، ومحمد انتهى منها في يوم واحد !! وهذا الأمر يكاد يكون مستحيلا إلا إذا عرفت أنه كان مع الله في سائر حياته فكانت المعونة الإلهية وحدها معه في ذلك اليوم !!
ثم عند صلاة الفجر جاءنا خبر وفاته ، وذلك يوم الخميس 3 / 5 / 1443 .

وقد صلينا عليه في نفس اليوم صلاة المغرب وكان إمامنا الشيخ صلاح بدير – وفقه الله تعالى- وشيّعه عدد كبير من طلاب الجامعة وبعض مشايخه الذين بدا على محيّاهم جميعا التأثّر برحيل هذا الفتى مبارك .
هذا غيض من فيض من سيرته العطرة في هذه الأشهر اليسيرة التي عرفناه فيها، ولعل غيري من الزملاء يذكر موقفاً له لعله يجد قبولا عند شخص ما فيؤثر فيه ويغير حياته .
ولا يفوتني أن أعرّف بهذا الشاب ليفتخر به أهله وبلده ..
فاسمه : محمد بن رياض بن عبد الله البوم ، يرجع جمّاعيلي ، من قرية قريوت من ضواحي نابلس .

العمر : عشرون سنة /الدراسة : السنة الأولى في كلية الحديث في الجامعة الإسلامية .

نسأل الله أن يرحم أخانا محمدًا رحمة واسعة ، وأن يجمعنا معه في مستقر رحمته .




………………………… .



اللهم اهدنا إلى الصراط المستقيم

سبحإان الله وبحمده ,, سبحإأن الله العظيم




خليجية