إنها ليست جنة ..
ولكنها جنان ..
فلقد جاءت أم حارثة رضي الله عنها تسأل عن حارثة رضي الله عنه بعد مقتله ، قالت : يا رسول الله أين حارثة في النار فأبكيه ، أم في الجنة فاأفرح له ؟! ..
فقال الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه :
( أهبلت يا أم حارثة !! إنها ليست جنة ..إنها ليست جنة ولكنها جنان ، وإن حارثة أصاب الفردوس الأعلى ) ..
أحبتي ..
ذكر الجنة حياة للقلوب ، ونسيان الجنة موت للقلوب ..
فأردت من موضوعي الليلة في هذه الأيام والليالي المباركة ..
تحريك القلوب ..
وتشويق النفوس ..
ورفع الهمم لطلب أعلى الدرجات وعدم الرضا بالدنيات ..
فهيا ننطلق أنا وإياكم في رحاب أبواب الجنة التي تفتحت أبوابها ..
اعلموا رعاكم الله ..
مهما جال في خواطركم ..
أو تردد في أذهانكم ..
فإنَّ في الجنة ما هو أعلى منه وأتم ..
صرح بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم تصريحاً فقال :
( قال الله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ..
مصداق ذلك قوله تبارك تعالى في كتابه : ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ..
فيا أيها المشتاقون ..فيا أيها المشتاقون ..
مهما كان جمال الوصف فلا يعدُّ شيئاً بجانب الحقيقة الساطعة التي طبعها الله عليها – أي طبع الجنة عليها – لأنَّ الله تعالى ..
إنما وصفها لنا على قدر عقولنا ..
وصوّرها على حسب تصورنا وفهمنا..
يقول ابن القيم رحمه الله : وكيف يقدر العقل القاصر الضعيف قدر ..
جنةٍ ..
غرسها الرحمن بيده ..
وجعلها جزاءً لأحبابه ..
وملأها برضوانه ورحمته ..
وزيَّنها وأتقنها بعظيم قدرته ..
ووصف نعيمها بالفوز العظيم ..
ووصف مُلكها بالمُلك الكبير ..
قال الله : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ﴾ ..
تأمل وتدبَّر معي من الذي سقاهم !! ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾ ..
هذه هي أيام بذل الثمن في الوصول إلى تلك الدرجات وتلك الجنان ..
والله إنه لنعيمٌ لا يستطيع الخيال له تصويرا ..
ولا يستطيع اللسان عنه تعبيرا ..
وليس الخبر كالمعاينة..
فانتظر ﴿ َإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴾ ..
إنها..
الجَنّة ، ودَارُ السَّلَام ، ودَارُ الخُلد ، ودَار المُقَامَة ، ودَارُ الحَيَوَان ..
إنها ..
جَنَّةُ المَأْوَى ، والمَقَامُ الأَمِين ، وجَنَّاتُ عَدْنٍ ، وجَنَّاتُ النَعِيْم ..
إنها ..
﴿في مَقْعَدُ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر ﴾ ..
إنها ..
الفِرْدَوْس .. وما أدراك ما الفردوس !!..
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ..فإنه أعلى الجنة ، وأوسط الجنة ، ومنه تُفجّر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ) ..
فإذا أردت أيها المشتاق أن تكون من أهل الفردوس فاسمع أوصافهم كما جاء في سورة المؤمنون :
بسم الله الرحمن الرحيم :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ ، فإذا اتصفوا بتلك الصفات فماذا لهم ؟!: ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ..
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا أرحم الراحمين ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ثم الذين يلونهم على أشدّ كوكب دريّ في السماء إضاءة ، لا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ، ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب ، ورشحهم المسك ، ومجامرهم الأُلُوَّة ، أزواجهم الحور العين ، على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم عليه السلام ) متفق عليه ..
وعن كعب رضي الله عنه قال : ما نظر الله إلى الجنة إلا قال : طيبي لأهلك…فتزداد ضعفاً حتى يدخلها أهلها ..
اسمع أيها المشتاق .. اسمع أيها المشتاق وزد شوقاً واستبشاراً..
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن أبواب الجنة هكذا بعضها فوق بعض ، ثم قرأ قوله تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ فإذا هم عندها بشجرة في أصلها عينان تجريان ، فيشربون من أحداهما فلا يترك في بطونهم قذىً ولا أذىً إلا رمته ، ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تشعث رؤوسهم ولا تخضل أبشارهم بعد هذا أبداً، ثم قرأ قوله تعالى ﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ ..فيدخل الرجل وهو يعرف منزله ويتلقاهم الولدان ، فيستبشرون برؤيتهم كما يستبشر الأهل بالحميم يقدم من بعد غياب ، فينطلقونإلى أزواجهم فيخبرونهم – يخبرون الأزواج بقدوم الأحباب – فتقول : أنت رأيته ؟! فيقوم إلى الباب فيدخل إلى بيته فيتكأ على سريره فينظر إلى أساس بيته فإذا هو قد أُسس على اللؤلؤ ، ثم ينظر في أخضر وأحمر وأصفر ، ثم يرفع رأسه إلى سماء بيته فلولا أنه خلق له لاكتمع بصره – أي ذهب بصره من ذلك الجمال – فيقول: ﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ..
فيا حبذا الجنة واقترابها .. طيبةٌ وبارد شرابها …
اسمع أيها المستبشر.. واسمع أيها المشتاق ..
إن الله جلت قدرته أعد في الجنة غرفاً شفافة يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، متألقة كأنها النجوم بلغت حدَّ الكمال في السعة والتمكين ..
قصورها من ذهب لا يشاكله ذهب الدنيا ولا يماثله لأنه جوهر شفاف في غاية الصفاء..
وحصباء أرضها الياقوت والجوهر..
وترابها المسك والزعفران ..
مفروشة بالفُرش الناعمة من السندس والأطاليس والاستبرق في غاية الرقة والنعومة ..
تتشقق في أرجائها الأنهار ، وتجري في وسطها الغدران ..
قال تعالى : ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴾ ..
وروى الترمذي في جامعه عن علي رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إنَّ في الجنة لغرفاً يُرى ظاهرها من بطونها ، وبطونها من ظهورها ) ، فقام إعرابي فقال : يا رسول الله لمن هذه الغرف ؟!، قال :
( لمن طيّب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام )..
فهذا هو الثمن فادفعوه ما دمنا في زمن الإمكان ..
أما أعظم نعيم في الجنان فهو ..
التمتع بالنظر إلى وجه الرحمن ..
وهذا مؤكد في السنة و في آيات القرآن ..
قال تعالى : ﴿ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ،لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ..
{ فالحسنى } : هي الجنة ..
و{ الزيادة } : هي النظر إلى وجهه الكريم ..
فيا نظرة أهدت إلى الوجوه نضرة *** أضاء لها نورٌ من الفجر أعظم
وللهِ أبصار ترى الله جهرة فلا*** الضيم يغشاها ولا هي تسأم
والذي لا إله إلا هو لقد أخبر الله بهذا ، وأخبر به الذي لا ﴿ يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ ..
سترى ربك ..سترى ربك..
سترى الذي خلقك وصورك ..
سترى الذي كساك وسقاك وأطعمك ..
سترى الذي للإسلام والإيمان هداك ووفقك ..
﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ﴾ ..
في الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ) ..
فما هو الثمن ؟؟؟!!!.. فما هو الثمن ؟؟؟!!!..
اسمع رعاك الله ..
ثم قال صلى الله عليه وسلم :
( فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ) ..
فأبشروا يا أهل صلاة الفجر والعصر .. ويا خسارة النائمين.. ويا خسارة المتخلفين ..
فأبشروا يا أهل صلاة الفجر والعصر .. ويا خسارة النائمين.. ويا خسارة المتخلفين..
قال ابن مسعود رضي الله عنه : والله ما منكم من إنسان إلا أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ..
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : إن أدنى أهل الجنة منزلة مَن ينظر إلى ملكه ألفي عام يرى أدناه كما يرى أقصاه ، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى وجه الله في كل يوم مرتين … وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى وجه الله في كل يوم مرتين …
وقال الحسن رحمه الله : لو علم العابدون في الدنيا أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا ولتقطعت كبودهم كمداً..
عباد الله ..
قال الله جل في علاه : ﴿ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ ..
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم :
( اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ) ..
اللهم لا تحرمنا لقاءك ، والنظر إلى وجهك يا رب العالمين..
فيا بائعاً هذا ببخس مُعجّل*** كأنك لا تدري ، بلى سوف تعلم
هذا هو أعظم النعيم ..
وإنَّ أعظم العذاب في النار حرمانهم من النظر إلى وجه الجبار ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ ..
هذا هو أقسى عذابهم ..
كما أنَّ أعظم نعيم هو رؤيته جل جلاله ..
أما ما فيها من الثواب والنعيم ..
ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون ..
لا يموتون ، لا يمرضون ، لا يهرمون ..
فيها دور وقصور ..
وأنهار وأشجار..
وجنات من نخيل وأعناب ..
حدَّث رسولنا صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً فقال :
( بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امراة تتوضأ إلى جانب قصر ، قلت لمن هذا القصر ؟! قالوا : لعمر بن الخطاب ، فذكرت غيرتك يا عمر فوليت مدبراً ) .. فبكى عمر رضي الله عنه وقال : أعليك أغار يا رسول الله !! ..
وقال بأبي هو وأمي :
( إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً ، له فيها أهلون ، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً) ..
أما الأشجار..
فقد ذكر الله فيها : ﴿ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ، وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ، وَمَاء مَّسْكُوبٍ ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ، لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ ﴾ ..
وروى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إنَّ في الجنة لشجرة يسير الراكب الجوّاد المُضَمَّر السريع في ظلها مئة عام لا يقطعها ) ..
أما الثمار..
فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يوماً وصف بعض ثمر الجنة فقال :
( إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت قطفاً من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينتقصونه )..
لباسهم السندس والاستبرق والحرير..
مجالسهم في ﴿ سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ، وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ ..
قال الله جل في علاه : ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ، يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَخْتُومٍ ، خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ ..
هذا جزاؤهم ..
وهذا ثوابهم ..
فلطالما تعبت أبدانهم من الجوع والسهر ..
لطالما حفظوا جوارهم عن اللهو والبطر..
لطالما تغنوا بالقرآن وقت السحر ..
ثم أتبعوا ذلك بالدموع والاستغفار والدعاء والذكر ..
فهم ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ﴾ ..
ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة ..
وينظرون إلى أعدائهم حين يعذبون ..
فيا حسنهم ..
والولدان بهم يحفون ، وبين أيديهم يقفون، وقد أمنوا مما كانوا يخافون ..
يقولون ﴿ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴾ ..
جاء في الحديث القدسي أنَّ الله تبارك وتعالى يقول :
( وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين ، من أمنني في الدنيا خوفته في الآخرة ، ومن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة )..
فـ ﴿ هُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ ..
فيا أيها الغافل ..
ربح القوم ..وخسرت ..
وساروا إلى الحبيب مسرعين ..وما سرت..
وقاموا بالأوامر ..وضيعت ما به أُمرت..
هل جاءك من خبر العيون والأنهار التي تجري تحت تلك الدور والقصور ..
فإنها أنهار تجري من تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم ..
من يشرب من هذه الأنهار شربة لا يظمأ بعدها أبداً ..
وماؤها أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأبرد من الثلج ، وأطيب ريحاً من المسك ، لا تنقص بكثرة الشراب ، ولا تتغير بطول المكث ..
شربها يزيد في نور الوجوه والأجسام ، وينور القلوب والأرواح والأبدان ..
الشارب منها يزداد معرفة وقرباً وشوقاً ويقيناً..
قال الله جل في علاه : ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ﴾..
قال جل في علاه : ﴿ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ ..
عند البخاري من حديث أنس أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال :
( بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوَّف ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك ، قال فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر) ..
هذا من خبر الأنهار ..
أما العيون ..
فقد قال تعالى : ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ ..
وقال سبحانه ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ أنظر إلى من نسبهم في العبودية ﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾ وهذا أعظم الشرف وأعظم النداء ..
ومما زادني شرفاً وتيهاً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي*** وأن صيَّرت لي أحمد نبياً
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ ..
وقال سبحانه :﴿ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ، عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ﴾ ..
فأخبر سبحانه عن مزج شرابهم بالكافور والزنجبيل فإن في الكافور من البرد وطيب الرائحة ، وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرائحة ، ومجيء أحدهما على إثر الآخرى حالة أكمل وأطيب وألذ..
قال مجاهد وقال عكرمة في قوله تعالى : ﴿ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ أي يتصرفون فيها حيث شاءوا ، وأين شاءوا، ومتى شاءوا ، تحت قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم ..
والتفجير هو الإنباع كما قال تعالى : ﴿ وَقَاْلُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ﴾ ..
والذي بعث محمداً بالحق ..والذي بعث محمداً بالحق لو قيل لك : سنعطيك داراً بجانب النهر لطرت فرحاً وسروراً ..
والله لو قيل لك في الدنيا .. سنعطيك داراً بجانب النهر لطرت فرحاً وسروراً ..
فكيف أنت بقصور تجري من تحتها الأنهار !!!!..
أليس ذلك من أعظم البشارات ، وأعظم الأعطيات !!!..