لو سُئل المربون والمربيات.. والاستشاريون والاستشاريات.. والآباء والأمهات.. عن أكثر المشاكل شيوعًا بين طالبات المدارس لقالوا بدون تردد أنه "الإعجاب بين الفتيات".
ولئن بسطنا الموضوع فسألنا عن الأسباب لتنوعت الإجابات وفق خلفيَّات هؤلاء المربين الثقافيَّة وتوجهاتهم الأيديولوجيَّة..
وسنكتشف أننا أمام إجابات ثابتة لكل فريق.. فمن قائل بأنه بسبب الشعور بالنقص.. أو الحرمان العاطفي.. وآخر يقول بسبب سوء التربية وضعف الإيمان.. وثالث يعميها بآرائه التي لوى عنقها لخدمة أهدافه الشخصيَّة ليقول: لو كانت المدارس مختلطةً لما ارتفعت نسبة الإعجاب بين الفتيات.. وسأقف معه في هذا.. وأقول.. بالفعل.. لو كانت المدارس مختلطة.. لانخفضت نسبة الإعجاب بين الفتيات نظرًا لارتفاع مهول في نسبة العلاقات المشبوهة بين الجنسين!
نعود إلى ولولتنا حول قضية الإعجاب.. فلا يكاد كاتب يكتب إلا وقد مرَّ قلمه بقضية الإعجاب.. ولا يكاد داعية يقف على منبر إلا ولامس تلك القضية المؤرقة لعلَّه يقف في مواجهتها والحد من سيلها الجارف بشهادة الشهود.. وقسم المقسمين..
وعند الحديث عن ظاهرة الإعجاب في المجالس العامَّة.. تنبري كل واحدة أو واحد من الحاضرين بالحديث عما "سمعه" أو"شاهده" أو "قرأه" عن فتيات وقعن في هذا الوحل:
صديقتان معجبتان لم تفترقا لحظة واحدة منذ سنوات..
إحدى الطالبات تمزق قلبها لأن "حبيبتها" تزوجت وتركتها وحيدة!
قبل أيام رأيت اثنتين تتعانقان في بكاء حار لأنهما ستفترقان.. نشبت معركة دمويَّة بين فلانة وفلانة لأنها أخذت حبيبتها منها… وأستميحكم عذرًا حين أذكر مثل هذه القصص.. غير أنني أسعى إلى تسليط الضوء على فكرة في غاية الأهمية.. وما هذه الفكرة إلا كامرأة عجوز هرمة لفظها النسيان إلى زاوية من زوايا البيت فنسج العنكبوت عليها شباكه..
وقبل أن أكمل كلامي عليَّ أن أقول بأن هناك بالفعل حالات إعجاب حقيقيَّة ويجب الوقوف في مواجهتها ورفضها والحيلولة دون استمرارها.. وفي الوقت ذاته علينا أن ندرك أننا ولسنوات طويلة نقع في خطأ نكرِّره كل يوم ألف مرة.. ويكرره الآخرون بشكل أعمى.. وأننا نصف أي تصرف "عاطفي" بأنه إعجاب مهما كان نبيلا.. ونقيًّا.. وطاهرًا..
بل وقد يقوم أحدنا بعمل سيناريو متكامل حول بعض الشخصيات.. فتتلقف الألسن قصصهم.. وتعبر بها مختلف القنوات والإذاعات.. والصحف.. والمواقع.. والمجلات.. والكتب.. والمجالس!!
بالفعل.. نحن نصف أي تصرف عاطفي بأنه إعجاب مذموم.. ونقول بأن عاطفة الفتاة قد "انحرفت" عن مسارها الصحيح.. وبذلك أصبحت تتصرف على هذا النحو..
فإذا ما أحست الفتاة المحترمة المتديِّنة بأي عاطفة تجاه صديقتها كوت نفسها بالتأنيب وعذبت نفسها بالإهانات حتى تفرغ قلبها من حبها.. ورأت وللأسف أن حب تلك الصديقة علامة على خلو قلبها من حب الله..
عجبًا.. وكأن الإسلام ليس دين محبة.. وكأن الله لم يذكر الأخوة بين المسلمين في القرآن.. ولم ينزلهم منازل عالية يوم القيامة.. ولم يأمرْ بإفشاء السلام.. ولم يجعل التحابب سببًا لدخول الجنة..
هل نحن محقون في حكمنا على العواطف بالانحراف؟ أم أن هذه المظاهر العاطفيَّة هي مظاهر طبيعيَّة.. ولا تمت للانحراف بأي صلة؟
إن كثيرًا من حالات الإعجاب ما هي إلا مشاعر حقيقية.. وعواطف طيبة.. أي أنها لم تنحرفْ عن مسارها.. ولكن سوء فهمنا للكثير من هذه العواطف.. ولأننا نرى أنها ليست سوى أعراض لمرض الإعجاب قادنا إلى تعطيل قاموس العواطف بأكمله.. وجعلنا نزن الأمور بغير ميزانها.. والأسوأ من ذلك كله أن الكثيرات اتهمن ظلمًا بما لم يقمن به فعلا من سلوك مشين..
إن العلاقات بين الصديقات في المدارس قد تكون علاقات عاطفيَّة مختلطة بنوازع وحاجات نفسيَّة أخرى.. فضلا عن عدم وصول العواطف إلى حالة من النضج تسمح لصاحبتها بأن ترى الأمور بطريقة متزنة وصحيحة..
وكم من إنسان نضج جسده فاشتعل رأسه شيبًا… وعواطفه لم تزل عواطف طفل يمص إصبعه بنهم ويلتهم التراب بعيدًا عن أنظار الناس!!
فنجد أن عاطفة الأخوة أو الصداقة قد اختلطت مع حب التملك.. والغيرة.. والخوف من التغيير.. والإحساس بالوحدة.. والقلق من المستقبل..
تمامًا كما يحدث عندما تتزوج الأخت فيتمزق قلب شقيقتها لفراقها.. وتتعذب عندما يتزوج أخوها فترى زوجة أخيها عدوًّا لدودًا لأنها سلبت منها حقًّا كانت تظن أنها تملكه! والأخ في طفولته أو حتى مراهقته أيضًا ليس بمنأى عن هذه المشاعر المختلطة المضطربة.. فتجده يواجه صعوبة في تقبل زوج أخته ويناصبه العداء.. ويحتاج إلى وقتٍ حتى يتأقلم مع فراقها ويتفهم سنَّة الحياة على هذه الأرض..
إذا نظرنا إلى الأمور بهذا الشكل.. فسنجد أن بقاء صديقتين معًا لسنوات طويلة هو كتلازم شقيقتين واتفاقهما..
فإذا ما افترقتا شعرت كل واحدة منهما بالألم لذلك.. ولا عجب إذا ما انهمرت الدموع ألمًا.. ولربما احتجن إلى الكثير من الوقت حتى يتمكنّ من التأقلم مع حياتهن الجديدة.. مفترقتين..
وعندما يطغى إحساس التملك فتلك مشكلة عاطفيَّة خطيرة.. وهي لا تمت للإعجاب بأي صلة.. بل يرى فيها المهووس بالتملك أن "من أحبه ملك لي" وبذلك تحدث الكثير من المواقف المحرجة والمؤلمة أحيانًا عندما تقرّر صديقة ما مشاركة صديقة جديدة بعض الوقت.. ولربما انسجمت معها.. ووجدت لديها تجارب أكثر حكمة.. أو كاريزما أكثر جاذبيَّة أو أنها أفضل من أي ناحية حتى ولو كانت في الواقع نواحي تافهة..
فتغضب الصديقة القديمة.. وترى أن هناك من سرق منها صديقتها.. فكان لزامًا عليها أن تستعيدها ولو بالدماء!!
والنقطة الأخيرة لا علاقة لها بالإعجاب كما أسلفت.. ولكن لها علاقة شديدة باختلاط العواطف وضياع البصيرة.. وربما وجود ميول إجراميَّة عافانا الله وإياكم..
ولو سألنا أولئك اللواتي مررن بهكذا مواقف.. عن مشاعرهن يوم ذاك.. وبعد مرور سنوات عشن فيها الكثير من الخبرات والتجارب والانشغال بمختلف نواحي الحياة.. لربما ضحكن على أنفسهن كثيرًا قبل أن يقلن: عجبًا كيف كنا نفكر حينها!
إنني على يقين بأن إحلال حسن الظن محل سوء الظن.. وتفعيل قاموس العواطف ووضع الإعجاب المذموم بعيدًا عن تفكيرنا عند مناقشة مشكلات الصديقات سيجعلنا أمام عقبات أشد بساطة.. وسيظهر لنا وسائل أكثر نفعًا لحل مشكلاتهن..
فالتلازم والوفاء بين صديقتين أمر جميل، ولكن مخالطة الآخرين تساعد في تكوين تجارب متنوعة.. وتعطي زخمًا أكثر لحياة الصديقات.. وتساعد أيضًا على تقسيم مشاعر الألم عند رحيل إحداهن.. أو تفرقهن جميعًا.. كل واحدة في الطريق الذي قُدِّر لها..
ومساعدة الفتاة على تقبل التغيير هو في حد ذاته هدية قيمة ودافع قوي في اتجاه نضج عواطفها.. فمتى ما تقبلت الفتاة فكرة التغيير استطاعت أن تتصوَّر رحيل شقيقتها أو صديقتها إلى مستقبلها الخاص دون إحساس بالألم لأن "هناك الكثير لتعمله في سبيل مستقبلها الخاص هي أيضًا" وليس بالضرورة أن يكون نسخة طبق الأصل من مستقبل شقيقتها أو صديقتها..
ووعي الفتاة بوجود اختلاط شديد بين الحب ورغبة التملك ومساعدتها لإدراك كيفية الفصل بينهما يجعلها أكثر تقبلا لزوجة أخيها.. ولصديقة صديقتها.. مما يعني إحلال السلام والأمن في حياتها وحياة أسرتها.. وسيمكِّنها من تكوين علاقات اجتماعيَّة واسعة وطيبة بدلا من التقوقع وحيدة.. لأن من يرغب في تملك الناس لن يجد أحدًا يحبه!
وتبصير الفتاة بضرورة استقلالها عاطفيًّا.. يساعدها في وضع حدود لصداقتها مع الآخرين.. وقول لا عندما تحتاج إلى ذلك.. ويدعمها عندما ترى ضرورة تغيير مسارها باتجاه أفضل من حيث اختيار صديقاتها، بل وحتى عندما تتعرض للإهانة من أي فرد آخر في المستقبل..
كم هو رائع أن نعيد قراءة مجتمعنا لنكتشف كم كنا مخطئين في تقييم عواطف فتياتنا واتهامها بالانحراف في حين أن العلاقة بين الصديقات ما هي إلا صورة مصغرة ولكن طبق الأصل عن علاقتها بأفراد أسرتها والمجتمع من حولها حينما تشعر تجاه أي فرد بالحب والارتياح..
إنني لأطمح وبصدق إلى أن تصبح فتياتنا –بعون الله أولا ثم بعون المربين- قادرات على اتخاذ قراراتهن.. والتحكم في عواطفهن.. وتمييز أي دخيل على تلك العواطف لينبذوه بعيدًا..
وكل ذلك لن يكون إذا قرَّرنا الاستمرار في تعطيل قاموس العواطف.. وصهرها في مسمى واحد معلب.. هو الإعجاب..