حكاية التعدد معي بدأت بخطبة إحدى صديقاتي المقربات من قبل رجل متزوج ، أذكر أني قلت لها: لا بد لك أن تعرفي ما لك وما عليك لئلا تظلمي أحدا أو يقع عليك الظلم ، قالت: نعم ، وتزوجت صديقتي ، وكان زوجها رجلا طيبا ، لكن تعقيدات الحياة أبرزت مواقف كان الحب فيها حاضرا كما كانت الرغبة في معرفة الحقوق التفصيلية حاضرة ، وليس الحب وحده كافيا وإن كان مهما في تجاوز الأزمات ، لأن التنازل ليس دوما قرين الحب بل قد يكون التمسك بالحق هو قرين الحب بحسب اختلاف الحالات التي يعيشها الإنسان ، وهنا تحصل الكثير من الالتباسات.
حياة صديقتي نبهتني إلى أهمية دراسة فقه التعدد ، ولست أزعم أني أحطت به ، وإنما تعرفت على بعض خطوطه الرئيسة التي لا يلتفت كثير من الناس إليها في دروس أسبوعية يسر الله لي إلقاءها في بيت جدي رحمه الله ، كشفت لي أني مثل كثيرات حولي كنا نجهل الكثير عن أحكام التعدد..
الإمام النووي في مقدمة كتابه المجموع أكد على أن المسلم لا ينبغي أن يقدم على أمر من أمور الحياة إلا بعد أن يتعلم أحكام الشرع فيه ، لئلا يقع في الحرام ، لكن حال الناس مع التعدد ليس كذلك ، فيتزوج الرجل ، وتقترن به الزوجة الثانية دون أن يعلما جيدا أحكام الحياة الجديدة التي سيقبلان عليها ، وتنشغل الزوجة الأولى بهم الزواج الجديد فلا تلتفت إلى أنها لا بد لها من أن تعلم ما هي حقوقها لكي تحسن المطالبة بها حال رغبتها في ذلك .
نبهتني شيختي فضيلة الدكتورة شادية كعكي لأمر مهم ، قالت : المذاهب مختلفة في تفاصيل مسائل التعدد ، من البداية ينبغي أن تتفق الأطراف على القول الفقهي الذي سيلتزم به الجميع ، لئلا يحصل التنازع ، مثلا إذا فرط الزوج في حق إحدى الزوجتين فمكث عند إحداهما في وقت الأخرى وجب عليه أن يقضي هذا الوقت لمن فرّط في حقها ، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة ، لكن الحنفية لا يقولون بالقضاء مع إثباتهم عصيان الزوج في هذه الحال ، ولهم تكييفهم الفقهي لهذا الحكم.
وليست المسألة مرتبطة فقط بالحقوق بشكل مجرد لكنها مرتبطة بالقلب الذي يعي كيف يطالب بها، ومتى يطالب بها ، ومتى يتنازل عنها لتستقيم الحياة ، وهذا مرتبط بحرص كل الأطراف على تعلم مهارات التعامل مع الذات ، والآخرين . ومرتبط أيضا بمسؤولية زائدة على الزوج أن يدرس قدرته على التصرف بحكمة ، لئلا يظلم نفسه، وزوجاته ، ويكون متعديا لحدود الله .
الإمام الشافعي فسر قوله تعالى ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) في آية التعدد ، قال : أي لا تكثر عيالكم ، كما ورد في تفسير الإمام الطبري ، وهنا ملمح مهم يلفت إليه كلام الإمام الشافعي هو أن التعدد إنما يلجأ إليه الرجل بعد أن يستوفي النظر في قدرته على القيام بالحقوق الحاضرة والمستقبلة ، ليس فقط حقوق الزوجات بل الأولاد أيضا .
الشيخ عبد الحليم أبو شقة نبه على ذات الملمح في آية التعدد ولعله يحسن بي أن أورد الآية كاملة ثم أنقل كلام الشيخ عبد الحليم ، يقول الله تعالى :
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } ( النساء : 3 )
يقول الشيخ عبد الحليم : " " إن الشرع يقرر " فانكحوا ما طاب لكم " أي ما كان فيه خيركم وصلاح حالكم. حال الرجل والزوجات والأولاد لأنه لا شك إذا صلح الرجل واطمأن باله صلح حال من حوله من زوجات وأبناء . كذلك نحسب أنه لا يصلح حال الرجل ويطمئن باله إذا ساءت حال زوجاته وأبنائه .
إذن هدف التعدد هو تحقيق صلاح حال الأسرة ، وليس متعة الرجل وحده . وإذا كان لرجل حاجة في التعدد يتم بها صلاح حاله ، وحيل بينه وبين التعدد ، فلا بد أن يتضرر ويضعف نشاطه ، وتقل راحته ، حسب أهمية تلك الحاجة ، ولا بد أن يضر ذلك بحال الأسرة كلها .
وإذا كان صلاح الرجل في الزوجة الواحدة ، وتزوج بأخرى خضوعا لهوى عارض ودون توفر الشروط ، فلا بد أن يقع في الحرج ، وقد يعجز عن توفير الرعاية الأدبية والمادية للأسرة ، وتضار ضررا بالغا . "
ومما ينبغي التنبيه عليه أن كثير من الناس في التعدد بين طريقين أحدهما يختزل الحكم الشرعي في الإباحة ويعد أي حديث عن كون التعدد مثل الزواج بواحدة قد يكون مباحا وقد يكون حراما وقد يكون مكروها كما قد يكون واجبا ، يعده حديثا مخالفا للشرع ، والطريق الثانية : من يتحدثون عن كون تقييد إباحة الزواج بأربع هو تشريع أراد به الإسلام التدرج لإلغاء التعدد وقاسوا ذلك على الرق، كما كتبت آمنة ودود في كتابها : " القرآن والمرأة.. إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسائي"، وأرى أن الطريقين قد جانبتا الجادة الصحيحة ، إذ أن قراءة كلام أهل العلم قراءة متكاملة تقودنا إلى مثل ما سطره الشيخ أبو شقه مما نقلته آنفا .
نقرأ في تفسير الإمامين الطبري ما مفاده أن الأمر بالنكاح في قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم النساء ) ليس للاستحباب كما هو شائع بل الأمر هنا خرج مخرج النهي عن التعدد حال خوف الجور وذلك بقرينتين تضمنهما سياق الآية الكريمة:
الأولى / الربط بين التحرج في اليتامى والتحرج في التعدد من حيث وجوب الاحتياط لحقوق العباد .
الثانية / قوله تعالى ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) فالأمر بتحري العدل وإيجاب الاقتصار على واحدة حال الخوف من عدم العدل ، دليل على أن العبد مأمور بالاحتياط في الحقوق التي يوجبها على نفسه، لئلا يلقى الله ظالما ، والظلم ظلمات يوم القيامة . ثم إن قوله تعالى ( ذلك أدنى ألا تعولوا) تأكيد على أن التزام الزوج العدل فيه مشقة وكلفة لا ينبغي أن يهون من أمرها ، ولا تقحمها دون ترو ونظر .
ويصب في هذا الفهم للآية الكريمة ما اعتمده فقهاء الشافعية والحنابلة عندما تحدثوا عن حكم الزيادة على واحدة يقول الخطيب الشربيني الشافعي في مغني المحتاج ( ج3/127): " ويسن أن لا يزيد على امرأة واحدة من غير حاجة ظاهرة."
وجاء في كشاف القناع للشيخ البهوتي الحنبلي : ج5/ ص9: (و) يستحب ( أن لا يزيد على واحدة إن حصل بها الإعفاف ) لما فيه من التعرض للمحرم. قال تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ( من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) رواه الخمسة."اهـ
وإذا كان الحنابلة قد عللوا عدم استحباب التعدد بأن فيه تعرضا للمحرم من عدم العدل، فإننا يمكن أن نضيف إلى ذلك علة أخرى ، وهي أن التعدد إن لم تدع إليه حاجة ظاهرة كما عبر الشافعية ، يكون فيه تقصير عن التحقق بكمال العشرة بالمعروف ، التي من فضائلها الإحسان والوفاء للزوجة التي بينها وبين الزوج ميثاق غليظ ، تواثقا عليه بأمان الله ، وكانت له السكن والمودة والرحمة ليكون لها كذلك، فلا يكدر قلبها بضرة تضارها في صفاء معيشتها : يقول الإمام ابن حجر في فتح الباري : "ومما كافأ النبي صلى الله عليه وسلم خديجة في الدنيا ، أنه لم يتزوج في حياتها غيرها" ..
كما أن التعدد دون حاجة ظاهرة فيه تعزيز لشهوات النفس ، وفك لها عن عقالها ، والتعلل من قبل بعض الرجال بأن طبيعة الرجل تجعله راغبا في النساء ، محتاجا إلى زيادة الإحصان بتعدد الزوجات ، هو منطق غير مستقيم ، لأن النفس إن لم يحكم المرء إلجامها عن رغباتها ، تمكنت منه ، واكتمال النصاب الشرعي له لن يكفي نفسه المتعلقة بالشهوات ، وليس هذا حال المسلم الحق :
والنفس كالطفل إن تهمله شـب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطــم
فاصرف هواها وحاذر أن توليــه إن الهوى إذا ما تولى يُصم او يَصِم
فالتعدد إنما شرع لمعنى راق يبتذله من يمتطي التعدد لأجل شهواته ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه الذواقين والذواقات ، كما أن هناك معنى آخر سبق التنبيه عليه عند نقل تأويل الشافعي لقوله تعالى : " ذلك أدنى ألا تعولوا " فقد قال الإمام الشافعي : أي ألا تكثر عيالكم ، وفي هذا تأكيد على مسؤولية الزوج التربوية ، وأهمية مراعاة هذا البعد ، ومراجعته ، قبل الإقدام على التعدد ، والموازنة في ذلك .
وفيما يلي كلام محكم للشيخ عبد الله بن جبرين في هذا المعنى .
جاء في موقع الشيخ عبد الله الجبرين ما نصه :
س: ما حكم استغلال البعض لإباحية تعدد الزوجات بالزواج والطلاق كل حين والتفريق بين الزوجات والأبناء في المُعاملة والمُجاهرة بذلك ؟
الإجابـــة :
أباح الله للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة بشرط العدل في القسم والنفقة والمؤانسة وجميع ما تحتاجه المرأة، ثم قال تعالى ) : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً( ثم إن القصد من النكاح هو الإعفاف للزوجين والذرية الصالحة، فلا يجوز أن يكون القصد هو قضاء النهمة البهيمية، وقد ورد ذم الذواقين والذواقات وهم الذين يقصدون مجرد قضاء الشهوة مرة ثم يطلب الفراق فيكثر الزواج والطلاق أو المرأة تقصد الدخول به مرة ثم تطلب الطلاق، فإن في ذلك ضرر على الزوجة إذا طلقت لأول نكاح وفيه إساءة الظن بها، وإذا تزوج الرجل أكثر من اثنين فعليه أن يسوي بين زوجاته في جميع ما يقدر عليه ويحرم عليه التفريق بينهما، ففي الحديث: من كان له زوجتان فمال مع أحدهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط وهكذا عليه التسوية بين أولاده والعدل بينهم -صلى الله عليه وسلم-: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم فلا يجوز تفضيل بعضهم على بعض في القُبلة، فكيف بما فوق ذلك من الهبة والعطية والنفقة والكسوة والسُكنى والمُؤانسة ونحو ذلك.
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
إذن لدينا هنا أبعاد كلها تؤكد على أن التعدد يحتاج إلى عمق في النظر ، هناك البعد الشرعي في حكم التعدد بين الأحكام الخمسة ، وهذا البعد مرتبط بأن الأصل أن المسلم يحتاط لنفسه في الحقوق التي يلزم نفسه بها والتي سيحاسب عليها ، وكذلك مرتبط بالصفات النفسية والسلوكية لدى الزوج ، وقدرته على الإدارة الجيدة لحياته، وإيفاء حقوق أهله وأولاده ، وهناك بعد مرتبط بقيم الحرص على مشاعر الزوجة الأولى وعدم تكدير خاطرها تحقيقا للعشرة بالمعروف . وهناك بعد مرتبط باتفاق الأطراف على كيفية إدارة الحياة من حيث إثبات الحقوق وفق نهج معين.
بقي أمر وهو الحاجة إلى كتابة فقه التعدد بطريقة سلسة يفهمها عامة الناس ، لتكون بمثابة ميثاق مكتوب ، تتدارسه كل الأطراف قبل الإقدام الزوج على الزواج الثاني ، وتفعيل الدعوة إلى ذلك إعلاميا، وبحث مدى جواز أن يشرع ذلك كقانون يلزم به الزوج والزوجة الأولى والزوجة الثانية ، قبل إجازة الزواج الثاني من قبل المحكمة ، وكذا تشريع قانون يجتاز بموجبه الزوج اختبارات معينة تكشف عن قدرته على القيام بواجبات الزواج الثاني ، أنا هنا لا أقرر وإنما أطرح هذا الأمر ليتدارس أهل الفقه مدى جواز تشريع ما ذكرته آنفا كقانون ملزم تحقيقا لمقصد الشرع من التعدد وهو صلاح حال الأسرة . .
والله أعلم .