نصف المجتمع، وهي حصنه الحصين، وصمام الأمان الحقيقي في كل الأمم والشعوب والحضارات؛ لأنها مربية النشء، وصانعة الرجال، وبانية الأجيال.. ولكن منذ عقود طويلة ونحن نشاهد مؤامرة شريرة تدور على المسلمة بصور شتى وأساليب متنوعة، كان أفتكها وأشدها خطرا محاولة تغيير البنية الفكرية والمعرفية والتكوين النفسي لدى هذه ؛ وذلك لخلخلة ثوابتها، وزعزعة مكانتها، وإفشال دورها في عملية التنشئة الاجتماعية، ومن ثمَّ إسقاط دورها في حماية وصيانة المجتمع، ولو سقطت المسلمة لا قدر الله وفشلت في أداء دورها كأم فستسقط الأسرة، وبالتالي تسقط الأمة كلها، ولن ندخل في جدل عقيم حول نظرية المؤامرة، وهل هناك مؤامرة على المسلمة أم لا؟! لكن الواقع المشاهد يؤكد للعيان بما لا يدع مجالا للشك أن المسلمة مستهدفة بشدة في نفسها وفي أمتها…، وسوف نحصر كلامنا في هذا المقال في علاقة الأسرة بالفتاة ودورها في تنشئتها وإعدادها للحياة، فالحق أن الأسرة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تصنع المستحيل لصيانة أبنائها وبناتها وحمايتهم من الضياع والذوبان في هذا العصر الذي تتكاثر فيه المغريات والملهيات والمفاسد والفتن بشكل جنوني يثير القلق والرعب في قلوب الآباء والأمهات على فلذات أكبادهم، وخاصة الفتاة!!
ولا ريب أن الأسرة هي أهم المؤثرات والوسائط التربوية التي تشكل وجدان الطفل( ذكرا كان أم أنثى)؛ لأنها المهد الأول الذي ينشأ الطفل في كنفه ويترعرع بين أحضانه، ومن هنا يقع على عاتقها عبء ضخم في إعداد الفتاة وتنشئتها على القيم والأخلاق والفضائل الإسلامية النبيلة لتكون امرأة فاضلة وزوجة صالحة وأما رؤوما، وقد قرأنا في تاريخنا العربي وصية زوجة عوف بن ملحم الشيباني لابنتها حينما زفت إلى زوجها الحارث بن عمرو ملك كندة، ورأينا الأم تقول فيها ناصحة ابنتها: "أي بنية، إن الوصية لو تُرِكَت لفضل أدب؛ تُرِكت لذلك منك؛ ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، أي بنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلَّفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدًا!! يا بنية: احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذكرًا، الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح؛ ولا يشم منك إلا أطيب ريح؛ والتعهد لوقت طعامه؛ والهدوء عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، والاحتفاظ بيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التدبير، والإرعاء على الحشم والعيال جميل حسن التقدير، ولا تفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا؛ فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي -مع ذلك- الفرح إن كان ترحًا، والاكتئاب عنده إذا كان فرحا، واعلمي انك لن تصلي إلى مرادك منه حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك والله يخير له ويصنع برحمته لك"(يراجع: في تاريخ الأدب الجاهلي، للدكتور علي الجندي، وجمهرة الأمثال / لأبي هلال العسكري).
إن هذه الأم العربية النابهة تبذل النصيحة لابنتها ليلة زفافها؛ حرصا منها على تبصيرها بأسباب سعادتها الزوجية في حياتها الجديدة، وامرأة هذا هو شأنها وهذه هي بلاغتها؛ لابد أنها قد بذلت كل ما في وسعها من أجل تربية ابنتها وإعدادها لدورها في الحياة، وهي هنا تُجمل لها في نقاط سريعة وصفة السعادة الزوجية، والافت في الوصية رغم أن ذلك كان قبل الإسلام هو التركيز على الأخلاق والقيم الرفيعة، والحرص على تلقين البنت دورها المحوري والخطير في إسعاد الأسرة، وتوجيهها بشكل واضح ومركز إلى أهمية النهوض بواجباتها الزوجية، ومسؤولياتها الأسرية على أكمل وجه؛ كي يتحقق لها ولزوجها الاستقرار والسعادة.
ولعلنا في النقاط التالية نوجز بلغة يسيرة تناسب روح العصر وأسلوبه دور الأسرة في تربية الفتاة وتنشئتها نشأة إسلامية قويمة:
1. على الأسرة أن تغرس مشاعر العزة والكرامة لدى الفتاة؛ بحيث تنشأ نشأة سوية مفتخرة بكونها فتاة مسلمة معتزة بدينها وانتمائها الإسلامي العربي.
2. تدعيم البنية النفسية لدى الفتاة؛ كي تكون صاحبة شخصية سوية ناضجة؛ فترضى عن جنسها، ولا تشعر بأي إحساس بالدونية لكونها أنثى، ولأسف الشديد بعض الأسر في مجتمعاتنا العربية لا تعير أي اهتمام لهذه الناحية، فنجد بعض الآباء والأمهات يفرق بين الولد والبنت في المعاملة، ويفضل الذكور على الإناث بشكل واضح جلي، تستشعر فيه البنت الظلم والغُبن، وتولد لديها مشاعر سلبية! تشكِّل في النهاية شخصية سطحية مهزوزة وغير فاعلة ولا مبادرة، وهذا قطعا يتنافى مع ما يُنتظر منها القيام به في قابل الأيام من أدوار اجتماعية مختلفة عندما تصبح زوجة وأما.
3. تشكيل ميول واتجاهات البنت بشكل تربوي سليم، يتسق مع طبيعتها الأنثوية وتكوينها الفطري الذي يعمق فيها المشاعر والميول والاتجاهات المطلوبة في المسلمة، بحيث تنشأ محبة للعفة، معتزة بكل معاني الطهارة والنقاء والشرف والكرامة، ويترسخ في أعماقها النفور من الانحلال والتفسخ والعري، وكل الملوثات الأخلاقية التي يروج لها الإعلام الغربي، ويزعم أنها من علامات الرقي والتحضر.
4. صياغة شخصية البنت بشكل صحيح متوازن، بعيدا عن التدليل الزائد، والقسوة الزائدة، والحماية الزائدة… وغير ذلك من الأساليب غير التربوية وعير السوية، وينبغي أن تكون أساليب المعاملة الوالدية معتدلة متوازنة فلا إفراط ولا تفريط.
5. غرس ثقة البنت في نفسها، وتدعيم تكوينها الإنساني؛ كي تكون شخصية ناضجة إيجابية، شخصية مستقلة فاعلة ومؤثرة في الحياة، وليست شخصية هامشية انطوائية، أو شخصية هروبية انسحابية تُحْجِمُ عن المشاركة الاجتماعية الناضجة، أو شخصية ضعيفة تابعة تندفع دون وعي لتقليد أنماط السلوك المختلفة ظنا منها أن ذلك هو الأنسب والأفضل، أو الأرقى والأحسن!!!
6. إعطاء البنت الفرص المناسبة لإنجاز بعض المهام بنفسها مع التوجيه والمتابعة، وتربيتها على فضيلة حب العمل والرغبة في الإنجاز؛ كي لا تكون شخصية اتكالية تعتمد على غيرها دائما، وتكون عبئا ثقيلا على أسرتها وزوجها بعد ذلك، فأمثال هؤلاء من النسوة يكنَّ عالة على الآخرين عبئا على الحياة وحسما منها، بدلا من أن يكنَّ إضافة لها بحيث تزدهي بهن الحياة وتصبح أكثر بهجة وسعادة.
7. عدم ترك البنت أمام وسائل الإعلام المختلفة وحيدة دون إرشاد أو توجيه؛ لأن المضمون والمحتوى الفكري والثقافي الذي يقدم للأطفال وبخاصة البنات منذ نعومة أظفارهم يؤثر حتما في بنائهم النفسي، وتكوينهم العاطفي والوجداني، ويمثل لهم أنماطا سلوكية ونماذج عملية يقتدون بها ويحبون التشبه بها في حياتهم العملية.
وفي دراسة علمية أجريت على عينة بلغت خمسة آلاف من المراهقين والمراهقات ذكر نحو70% من الفتيات أنهن يتأثرن بشكل بالغ بالممثلات والمغنيات، وأبرز نقاط التأثر هي الملابس، وقصات الشعر، وطريقة الحديث، وأنماط المعيشة وما تعكسه من قيم ومثل وأفكار وثقافات.
كما ذكر نحو80% من الأولاد أنهم يتأثرون بالرياضين كلاعبي كرة القدم والمصارعين، وأكد نحو65% منهم أنهم يتأثرون بالممثلين، وأكد جميع أفراد العينة أنهم يتأثرون بشكل أو بآخر بما يتلقونه عبر وسائل الإعلام المختلفة.
وهذا بالقطع يستلزم من الآباء والأمهات خاصة في المراحل العمرية المبكرة لأولادهم وبناتهم أن يتابعوا ما يشاهده أبناؤهم، وينتقوا لهم البرامج المفيدة والمسلية والممتعة، ويربوا فيهم ملكة الانتقاء؛ ليشبوا ولديهم وازع داخلي يخبرهم بالصواب ويرشدهم إليه وينبههم إلى الخطأ ويصرفهم عنه بكل عزيمة وإرادة.
8. تميل الفتاة بفطرتها التي فطرها الله عليها للرقة والرحمة والعواطف الجياشة، وكل هذه الصفات تؤهلها لدور الأمومة وما يتطلبه من جهود وتضحيات، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل ميسر لما خلق له"(متفق على صحته بين الإمامين البخاري ومسلم.) وعلى الأسرة مراعاة ذلك، وغرس الاعتزاز بدور الأم في حياة أبنائها من خلال احترام الزوج لزوجته وثنائه عليها أمام أبنائه وبناته، والإشادة بدورها الرئيس في الأسرة كلها، والإفصاح عن مشاعر المودة والتقدير للأم في كل مناسبة، فمن شأن ذلك تعزيز دور الأم أمام الأبناء، كمصدر للقيم النبيلة والمبادئ الفاضلة السامية، ولهذا السلوك الراقي المتحضر قيمة مضافة أخرى وفائدة كبيرة، فإضافة إلى توفير الجو الأسري الحميمي الرائع، فإنه يرسخ لدى الفتاة بشكل غير مباشر الإحساس بجلال وأهمية دور الأم وضخامة مسؤوليتها في الحياة.