الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله -صلّى الله عليه وسلّم- وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه(عدَّة الصَّابرين وذخيرة الشَّاكرين):
الإيمان نصفان: نصف صبرٍ، ونصف شكرٍ.
قال غير واحدٍ من السَّلف: "الصَّبر نصف الإيمان".
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "الإيمان نصفان: نصف صبرٍ، ونصف شكرٍ".
ولهذا جمع الله -سبحانه- بين الصَّبر والشُّكر في قوله: {فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]، [الشُّورى: 33]، [سبأ: 19]، [لقمان: 31]، وقد ذكر لهذا التَّصنيف اعتبارات:
أحدهما: أنَّ الإيمان اسمٌ لمجموع القول والعمل والنِّيَّة، وهي ترجع إلى شطرين: فعلٍ وتركٍ، فالفعل هو العمل بطاعة الله وهو حقيقة الشُّكر، والتَّرك هو الصَّبر عن المعصية.
والدِّين كلُّه في هذين الشَّيئين: فعل المأمور، وترك المحظور.
الاعتبار الثَّاني: أنَّ الإيمان مبنيٌّ على ركنين: يقين، وصبر.
وهما الرُّكنان المذكوران في قوله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السَّجدة: 24]؛ فباليقين يعلم حقيقة الأمر والنَّهي؛ والثَّواب والعقاب، وبالصَّبر يُنفِّذ ما أمر به ويكفُّ نفسه عمَّا نهي عنه، ولا يحصل له التَّصديق بالأمر والنَّهي أنَّه من عند الله وبالثَّواب والعقاب إلا باليقين، ولا يمكنه الدَّوام على فعل المأمور وكفُّ النَّفس عن المحظور إلا بالصَّبر فصار الصَّبر: نصف الإيمان، والنِّصف الثَّاني: الشُّكر: بفعل ما أمر به، وبترك ما نهي عنه.
والاعتبار الثَّالث: أنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ، والقول: قول القلب واللسان، والعمل: عمل القلب والجوارح.
وبيان ذلك: أنَّ من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمنًا؛ كما قال عن قومِ فرعونَ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النَّمل: 14] ، وكما قال عن قومِ عادٍ وقومِ صالحَ: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وقال موسى لفرعون:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، فهؤلاء حصل لهم قول القلب، وهو: المعرفة والعمل، ولم يكونوا بذلك مؤمنين.
وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمنًا، بل كان من المنافقين.
وكذلك من عرف بقلبه وأقرَّ بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمنًا حتَّى يأتي بعمل القلب من الحبِّ والبغض، والموالاة والمعادة؛ فيحبُّ الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده، وينقاد لمتابعة رسوله وطاعته، والتزام شريعته ظاهرًا وباطنًا، وإذا فعل ذلك لم يكفْ في كمال إيمانه حتَّى يفعل ما أمر به؛ فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان الّتي قام عليها بناؤه، وهي ترجع إلى علمٍ وعملٍ، ويدخل في العمل كفُّ النَّفس الّذي هو متعلَّقُ النَّهي، وكلاهما لا يحصل إلا بالصَّبر، فصار الإيمان نصفين:
أحدهما: الصَّبر.
والثاني : متولِّدٌ عنه من العلم والعمل.
الاعتبار الرَّابع: أن النَّفس لها قوَّتان: قوَّة الإقدام ، وقوَّة الإحجام، وهي دائمًا تتردَّدُ بين أحكام هاتين القوَّتين، فتُقدِم على ما تحبه، وتحجم عمَّا تكرهه، والدِّين كلُّه: إقدام وإحجام، إقدامٌ على طاعة، وإحجامٌ عن معاصي الله، وكلّ منهما لا يمكن حصوله إلا بالصَّبر.
الاعتبار الخامس: أنَّ الدِّين كلَّه رغبةٌ ورهبةٌ، فالمؤمن هو الرَّاغب الرَّاهب، قال -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] وفي الدُّعاء عند النَّوم: «اللهمَّ أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك» [رواه البخاري 6315 ومسلم 2710].
فلا تجد المؤمن أبداً إلا راغبًا وراهبًا، والرَّغبة والرذَهبة لا تقوم إلا على ساق الصَّبر، فرهبته تحمله على الصَّبر، ورغبته تقوده إلى الشُّكر.
الاعتبار السَّادس: أنَّ جميع ما يباشره العبد في هذا الدَّاء لا يخرج عمَّا ينفعُهُ في الدُّنيا والآخرة أو يضره في الدُّنيا والآخرة أو ينفعُهُ في أحد الدَّارين ويَضرُّه في الأخرى.
وأشرف الأقسام أن يفعل ما ينفعه في الآخرة ويترك ما يضرُّهُ فيها، وهو حقيقة الإيمان، ففعل ما ينفعه هو: الشُّكر، وترك ما يضرُّه هو: الصَّبر.
الاعتبار السَّابع: أنَّ العبد لا ينفَكُّ عن أمرٍ يفعله، ونهي يتركه، وقدر يجري عليه، وفرضه في الثَّلاثة الصَّبر والشُّكر؛ ففعل المأمور هو: الشُّكر، وترك المحظور والصَّبر على المقدور هو: الصَّبر.
الاعتبار الثَّامن: أنَّ العبد فيه داعيان، داعٍ يدعوه إلى الدُّنيا وشهواتها ولذَّاتها، وداعٍ يدعوه إلى الله والدَّار الآخرة وما أعدَّ فيها لأوليائه من النَّعيم المقيم، فعصيان داعي الشَّهوة والهوى هو: الصَّبر، وإجابة داعي الله والدَّار الآخرة هو: الشُّكر.
الاعتبار التَّاسع: أنَّ الدِّين مداره على أصلين: العزم والثَّبات، وهما الأصلان في الحديث: «اللهمَّ إنِّي أسألك الثَّبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشد» [صحَّحه الألباني 3228 في السِّلسلة الصَّحيحة].
وأصل الشُّكر: صحَّة العزيمة، وأصل الصَّبر: قوَّة الثَّبات، فمتى أُيِّد العبد بعزيمةٍ وثباتٍ؛ فقد أُيِّدَ بالمعونة والتَّوفيق.
الاعتبار العاشر: أنَّ الدِّين مبنيٌّ على أصلين: الحقّ والصَّبر، وعما المذكوران في قوله -تعالى-: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
ولمَّا كان المطلوب من العبد هو العمل بالحقِّ في نفسه وتنفيذه في النَّاس، وكان هذا هو حقيقة الشُّكر، لم يمكنه ذلك إلا بالصَّبر عليه، فكان الصَّبر نصف الإيمان والله -سبحانه وتعالى- أعلم.