التصنيفات
ادب و خواطر

الوطنية والرومانسية

خليجيةلم أكن أعرف أن الرومانسية تتقاطع مع الوطنية حتى قرأت خبرا يقول إن السلطات الصينية دعت قنوات البث التلفزيوني المحلية في الصين إلى عدم عرض أفلام تتعلق بالرومانسية والتجسس والقضايا الجنائية خلال أشهر مايو ويونيو ويوليو، تزامنا مع استعدادات الحزب الشيوعي الصيني للاحتفال بمرور 90 عاما على إنشائه، حيث ترغب الحكومة في تكريس التلفزيون الحكومي لبث مواد دعائية لصالح الحزب. وتبدو السلطات حريصة على أن تكون المادة الإعلانية المقدمة لنحو مليار مشاهد للتلفزيون الصيني وجبة دسمة من الدعاية الوطنية التي تمجد الحزب، وتشيد بإنجازاته، قبل الاحتفالات الرسمية التي ستبدأ في الأول من شهر يوليو القادم.

ربما نستطيع أن نتفهم احتمال تعارض التجسس والقضايا الجنائية مع الوطنية إذا أخذنا الجانب السلبي من موضوع هذين المجالين، لكننا لا نستطيع أن نفهم كيف تتعارض الرومانسية مع حب الوطن الذي هو قمة الرومانسية في نظرنا، إذا ما اعتبرنا الرومانسية مذهبا أدبيا يهتم بالنفس البشرية وما تزخر به من عواطف ومشاعر وأخيلة، وفقا للتعريف المتفق عليه لهذه المدرسة التي بدأت في بريطانيا أوائل القرن الثامن عشر الميلادي على شكل فلسفة فكرية، ثم انتشرت في أوربا وعرفت كنقيض للكلاسيكية، وكانت الثورة الفرنسية عام 1798 باعثا ونتيجة للفكر الرومانسي المتحرر والمتمرد على أوضاع كثيرة، الأمر الذي ربطها بمفهوم الحرية أو الليبرالية الذي ساد في السياسة.

من هذا المنظور، ربما تعتقد السلطات الصينية أن الرومانسية تشكل خطرا على نظامها الذي يحتل مرتبة متأخرة في تقارير منظمات حقوق الإنسان وتصنيف حرية الصحافة والتعبير عن الرأي في العالم، رغم أن دستورها ينص على أن الحقوق الأساسية للمواطنين تشمل حرية الرأي وحرية الصحافة والحق في محاكمة عادلة. وهي نصوص لا أثر لها على أرض الواقع، بدليل تقويض السلطات الصينية الأهداف الأساسية الواردة في الخطة الوطنية لحقوق الإنسان (2009 – 2022) فيما يتعلق بهذا الجانب، وذلك بتضييقها على حرية التعبير وتوسيع القيود على الحريات الإعلامية والحريات الخاصة بالإنترنت، إذ ما زال مستخدمو الإنترنت، المقدر عددهم في الصين بثلاثمئة وثمانية وثلاثين مليون مستخدم، عرضة للتدخلات التعسفية، جراء المراقبة الحكومية، حيث تشارك أكثر من 12 هيئة حكومية في تنفيذ جملة من القوانين والأنظمة والسياسات وغيرها من الأدوات القانونية، في محاولة لحجب المعلومات والأفكار عن الشعب الصيني، وحيث مكنت شركات عديدة، منها جوجل وياهو ومايكروسوفت، النظام الصيني من حجب مصطلحات تعتقد هذه الشركات أن الحكومة الصينية تريد منهم أن يحجبوها، لكن جوجل تمردت على هذه الرقابة عام 2022 وقررت وقف مراقبة البحث باللغة الصينية ونقل محركها إلى "هونج كونج"، ليبقى الصراع على حرية البحث في الصين مفتوحا.

آخر ما تفتق عنه عقل الرقيب الصيني هو حجب كلمة "ياسمين" من المدونات الصينية وموقع "ويبو" الصيني المشابه لموقع "تويتر" الاجتماعي في شهر فبراير الماضي، حيث يجيب المحرك أن البحث عن هذه الكلمة غير ممكن لأسباب قانونية. وقد تبين أن هذه الأسباب هي الخوف من انتقال عدوى "ثورة الياسمين" التونسية إلى الصين، بعد نشر دعوات على الإنترنت للتظاهر في 13 مدينة صينية، إحياء لثورة الياسمين واستلهاما منها!

دعوة السلطات الصينية قنوات البث التلفزيوني المحلية لعدم عرض أفلام تتعلق بالرومانسية خلال أشهر مايو ويونيو ويوليو ربما يكون لها ما يبررها، بعد ما رأت هذه السلطات كيف تحولت ميادين التحرير والتغيير التي احتضنت الثورات العربية إلى ساحات مفتوحة للإبداع، وخرجت لنا منها أعمال فنية جعلت من هذه الساحات معارض فنون تشكيلية من نوع مختلف، كما سطعت فيها مواهب فنية واعدة بدأت تشق طريقها في عالم الغناء والموسيقى، وتبلورت مشاريع أفلام سينمائية وأعمال مسرحية استلهمت موضوعاتها من الروح الوطنية التي سادت تلك الميادين، مشكِّلةً ظاهرة فريدة في تاريخ الثورات الشعبية في العالم، الأمر الذي ربما تخشى معه السلطات الصينية أن يقوم الصينيون بإعادة إنتاج مشاهد مظاهرات ساحة "تيانانمين" الشهيرة التي احتلها طلاب الجامعات في العاصمة الصينية خلال الفترة من الخامس عشر من شهر إبريل وحتى الرابع من شهر يونيو عام 1989، مطالبين بالديمقراطية والإصلاح وحرية الصحافة وإنهاء حكم الحزب الشيوعي في بلادهم بعد أن بدأت مظاهراتهم ضد الفساد، وقبل أن تنتهي بما سمي "تنظيف الساحة" الذي تولاه جيش التحرير الشعبي بقرار اتخذه مجموعة من أعضاء الحزب المتقاعدين الذين فضلوا القمع على التعامل بلطف مع المتظاهرين، لتكون النتيجة مصرع مئتين وواحد وأربعين شخصا حسب المصادر الرسمية الصينية، بينما تتحدث منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان عن مقتل آلاف المدنيين الصينيين على أيدي قوات جيش التحرير الشعبي التي لم تكن معتادة على قمع مظاهرات المواطنين، لذلك جرت محاكمات كثيرة لضباط رفضوا التحرك ضد الطلاب.

بين الرومانسية والوطنية علاقة وثيقة، ربما لا يتبينها موظفو السلطة الجالسون على الكراسي في مكاتبهم وهم يتلقون التعليمات من قياداتهم العليا، لكنها تبدو واضحة للعيان في ميادين التحرير والتغيير التي تحافظ على رومانسيتها، رغم كل الدماء التي تسيل على أرضها، وطلقات الرصاص التي تدوي في سمائها.




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.