التصنيفات
منتدى اسلامي

بأن لهم الجنة

لقد أنعم الله عز وجل على بني آدم بنعم كثيرة، لو أنفقوا أعمارهم في عدها ما استطاعوا إلى إحصائها سبيلاً؛ إذ له عليهم في كل نفَس يأخذونه، وكل حركة يأتونها، وكل فِكر يُعملونه نعمة عظيمة، فضلاً عما بثه لهم من نعم في الآفاق، فأنى لهم أن يحصوا كل ذلك! قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] و[النحل: 18]، قال الطبري رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: وإن تعدّوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم، لا تطيقوا إحصاء عددها، والقيام بشكرها، إلا بعون الله لكم عليها)(1)، وقال طلق بن حبيب رحمه الله: (إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا توابين وأمسُوا توابين)(2).

وقد بين الله سبحانه وتعالى في تتمة الآية في سورة إبراهيم حال من جحد نعمه ولم يشكرها فقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، قال الطبري: (وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحق عليه إخلاص العبادة له، فعبد غيره وجعل له أنداداً ليُضِلَّ عن سبيله، وذلك هو ظلمه، وقوله (كَفَّارٌ) يقول: هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه، لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه)(3)، كما بين سبحانه في تتمة الآية في سورة النحل نعمة جديدة منه على أهل الإيمان الذين أقروا بنعمه عليهم وأقروا بعجزهم عن أداء شكرها، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]، قال ابن كثير: (أي: يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازي على اليسير)(4).

إن من أجل نعم الله عز وجل على أهل الإيمان أنه يوفقهم لطاعته ومرضاته، وقد كان من المفهوم أن تقوم طاعتهم -التي هي بتوفيق الله أولاً وآخراً- مقام شكرٍ واجبٍ عليهم ولو لجزء يسير من نعم الله سبحانه وتعالى، وأن يكون تجاوز الله عن تقصيرهم في الإتيان بتمام الشكر محض فضل منه ومنة، ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد؛ لكن العقل يقف حائراً مندهشاً حين يرى أن فضل الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين لا حدود الله، وذلك بأن يجازيهم على أعمالهم القليلة هذه بنعيم مقيم لا يزول ولا يحول، في جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!

إن كثيراً من الناس يمر على مثل هذه المعاني في القرآن الكريم فلا تستوقفه ولا تثير فيه دواعي الاستغراب ومن ثَمَّ التأمل، فلا يشهد ما فيها مِن المَنِّ والفضل والإنعام من الله عز وجل، بل قد يراها أمراً عادياً؛ أن يحسن المحسن فيدخله الله الجنة، وكأنه أمر مستحَق ولازم من لوازم العدل الإلهي!

لكن من تدبر الآيات حق التدبر وجد فيها شيئاً آخر، وانظر إذا شئت إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]، فإن الله سبحانه وتعالى هو من أنعم بخلق هذه الأنفس، وهو من أمدها بما فيه بقاؤها، وهو من أنعم بهذه الأموال؛ فهو مالكها جميعاً على الحقيقة، ثم هو من وفق أصحابها إلى بذلها في سبيله، وقد كان يمكن أن يُكتفَى بقبولها كشكر على بعض ما أنعم به على أصحابها، لكنه فوق ذلك قد اشتراها من أصحابها، وأجزل لهم الثمن! قال السعدي رحمه الله: (وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلاله، وإلى العِوَض؛ وهو أكبر الأعواض وأجلها، جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها؛ وهو النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان، وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع؛ وهو أشرف الرسل، وبأي كتاب رُقِم؛ وهي كتب اللّه الكبار المنزلة على أفضل الخلق)(5)، وقال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبَِل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم والله فأغلى ثمنهم)(6).

فما دام الأمر كذلك، فإن هذا الشراء وهذا الثمن ليس أمراً مستحَقاً للعباد، ولا هو من باب العدل من رب العباد، بل هو محض نعمة ومحض فضل منه جل وعلا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لن يُدخِلَ أحداً منكم عملُه الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة"(7).

وبرغم أن الآية الكريمة قد خصت المجاهدين في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم بهذه الصفقة لعظم مكانة الجهاد في الإسلام إذ هو ذروة سنامه، وبه ينشر دين الحق في البلاد، وبه يأمن المسلمون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم فيقبلون على عبادة ربهم آمنين مطمئنين، إلا أنها ليست قاصرة عليهم، قال تعالى في الآية التالية: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]، قال ابن الجوزي: (التائبون ومن ذُكر معهم لهم الجنة أيضاً، وإن لم يجاهدوا، إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد)(8).

وقد أكد الله سبحانه وتعالى على كون العباد في هذه الدنيا يتاجرون معه جل وعلا بأعمالهم الصالحة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]، قال السعدي: (أي: يتبعونه في أوامره فيمتثلونها، وفي نواهيه فيتركونها، وفي أخباره، فيصدقونها ويعتقدونها، ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال، ويتلون أيضاً ألفاظه بدراسته، ومعانيه بتتبعها واستخراجها.

ثم خص من التلاوة بعد ما عم؛ الصلاة التي هي عماد الدين، ونور المسلمين، وميزان الإيمان، وعلامة صدق الإسلام، والنفقة على الأقارب والمساكين واليتامى وغيرهم … {تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي: لن تكسد وتفسد، بل تجارة هي أجل التجارات وأعلاها وأفضلها، ألا وهي رضا ربهم، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه)(9).

فإذا انفض سوق الدنيا رجع الناس منها رجوعهم من كل سوق؛ ما بين رابح وخاسر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"(10)، فالعاقل من أدرك هذه الحقيقة وأدرك أن الرابح هو من يبذل أغلى ما عنده، من مال وجهد وعلم وعمر ووقت وصحة، ثم نفس إذا قام داعي الجهاد، كما قال عليه الصلاة والسلام: "ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"(11)، فإن هو فعل وقبل الله البيع لتمام أركانه فليبشر ببشارة الله بأن له الجنة، وذلك الفوز العظيم.

__________________

(1) تفسير الطبري 17/16.
(2) تفسير ابن كثير 4/511.
(3) السابق.
(4) تفسير ابن كثير 4/564.
(5) تفسير السعدي 1/352.
(6) تفسير ابن كثير 4/218.
(7) صحيح البخاري 5/2147 (5349)، صحيح مسلم 4/2169.
(8) زاد المسير 3/236.
(9) تفسير السعدي 1/689.
(10) سنن الترمذي 5/535 (3517).
(11) سنن الترمذي 4/633 (2450)، وصححه الألباني.




خليجية



خليجية



جزاكم الله خيرااااااا



بارك الله فيكي وجزاكي عنا خير الجزاء



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.