هل الانسان مُسيَّراً أم مُخيَّراً؟ أم كليهما معا؟
يقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم
يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد
ويقول المولى تبارك وتعالى في آية عظيمة ختم بها سورة لقمان
انّ اللهَ عندَهُ علمُ الساعةِ ويُنَزِّلُ الغيثَ ويعلمُ ما في الأرحامِ , وما تدري نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ, انّ اللهَ عليمٌ خبير
ويقول المولى تبارك وتعالى في صدر سورة الانسان
انا هديناهُ السبيلَ اما شاكرا واما كفورا
هذه الآيات العظيمة الكريمة وأشباهها في القرآن الكريم كثيرة تبين لنا أنّ الانسان مُسيرا ومُخيرا في آن واحد, ولكن كيف هذا؟
نقول وبالله المستعان وعليه التكلان بأن الانسان مُسيرٌ بما لا يعلم من الغيب وبما لا يملك , فالعلم لأنه في هذه الحالة يكون مرغما عليها كالغيبيات الخمس التي وردت في قوله عزوجل في آية عظيمة ختم بها سورة لقمان فقال:
انّ اللهَ عندَهُ علمُ الساعةِ ويُنَزِّلُ الغيثَ ويعلمُ ما في الأرحامِ , وما تدري نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ ’ انّ اللهَ عليمٌ خبير
ومُخيرٌ بما يملك وبما أمره الله عزوجل به من الطاعات والعبادت المكلف بها, وهذا هو موضوع بحثنا تحديدا, والطاعات والعبادات نعني بها الأخذ بأركان الايمان كلها عدا القضاء والقدر فالقضاء والقدر لا يملكه الانسان ولا يسوغ له أن يملكه, انما هو بعلم الله تبارك وتعالى وحده علام الغيوب ومُقدّرَ الأمور, بينما أمور التكليف كلها من عبادات وطاعات ابتداء من أركان الاسلام, وأنتهاء بأركان الايمان , مرورا بمختلف الطاعات وعمل الخير وتجنب الشر وسلوك الطريق المستقيم وتجنب طريق الشيطان , وحمل الأمانة, كل هذه العبادات والطاعات مكلف بها الانسان وفيها يكون مخيرا, لقوله تعالى في آيتين كريمتين ختم بهما سورة الاحزاب فقال عزوجل:
انا عرضنا الامانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها و حملها الانسان إنّهُ كانَ ظلوماً جهولاً* ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات, ويتوبَ اللهُ على المؤمنين وكان الله غفورا رحيما
وكما في رواية ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ الأمانة تعني الطاعة, عرضها الله عزوجل على السموات والأرض والجبال قبل أن يعرضها على آدم عليه الصلاة والسلام فلم يطقنها , فقال الله تبارك وتعالى لآدم عليه الصلاة والسلام:
اني قد عرضْتُ الامانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها, فهل أنت آخذ بما فيها؟ فقال آدم عليه الصلاة والسلام: يا رب ! وما فيها؟قال الله عزوجل: ان أحسنْتَ جُزيتَ, وان أسأتَ عُوقبتَ فأخذها آدم عليه الصلاة والسلام فحملها, فذلك قوله تعالى وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا وفي رواية أخرى لابن عباس أنّ الأمانة هي الفرائض, ان أدوها أثابهم الله عزوجل , وان ضيعوها عذبهم, فكرهوا ذلك وأشفقوا على حملها تعظيما لدين الله عزوجل خشية ألا يقوموا بهذه الأمانة, قم عرضها الله عزوجل على آدم عليه الصلاة والسلام فقبلها بما فيها, وكان ظالما بها كما في قوله تعالى: وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا وقد وردت معانٍ كثيرة بمعنى الأمانة عند العلماء : فمنهم من قال أنها الطاعة والفرائض كما في قول ابن عباس رضي الله عنهما وغيره, ومنهم من قال أنها: المرأة أؤتمنت على فرجها كما في قول أُبيّ بن كعب, وقال قتادة: الأمانة هي الفرائض والحدود, وقال زيد بن أسلم: الأمانة ثلاثة: الصلاة والصيام والاغتسال من الجنابة, وكل هذه الأقوال لا تنافي أبدا بينها فكلها وجميعها تصب في طاعة الله عزوجل خوفا وطعما ورهبة اذن الانسان مسيّر بأشياء ومخيّر بأشياء, بمعنى أنّ هناك أشياء يكون الانسان فيها مسيرا رغما عنه كالقدر واحواله, والغيبيات الخمس الواردة في قوله تعالى في سورة لقمان السابق ذكرها, وهي مفاتيح الغيب التي بها استأثرالله تبارك وتعالى بعلمه, وعلمه عزوجل لم يُطلعُ عليه أحد أبدا لا نبي مرسل ولا ملك مقرّب الا من شاء الله له به أن يعلم, اي الا بعد اعلامه عزوجل بها لمن شاء من عباده كالأنبياء والمرسلين من البشر والملائكة عليهم صلوات ربي وسلامه فعلم وقت الساعة لا يعلمه لا نبي مرسل ولا ملك مقرب تماما كقوله تعالى: لا يُجليها لوقتها الا هو وكذلك انزال المطر من السماء بالكم والكيف والوقت لا يعلمه الا الله عزوجل وكذلك ما في الأرحام لا يعلمه الا الله عزوجل, سواء كان ذكرا أم أنثى, وسواء كان شقيا أم سعيدا, وكذلك الرزق يبقى بعلم الله عزوجل وحده سواء في دنياها أم في آخرتها وأيضا الموت لا يعلمه الا الله عزوجل, متى وكيف وأين؟ متى سيموت؟ هل اليوم أو غدا أبعد مليون عاما لا احد يعلم؟ وكيف سيموت؟ هل بمرض أم شهيدا أم فجأة, وهل سيموت سعيدا أم شقيّ؟ لا احد يعلم… وأيضا البلد التي سيموت فيها ى أحد يعلمها الا الله تبارك وتعالى, تماما كما في قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو,,بقي أن نوضح شيئا مهما جدا: وهو أنّ الملائكة عليهم السلام الموكلون بتنفيذ أمر الله عزوجل يعلمونه باذنه عزوجل وبالوقت الذي سيتم فيه تنفيذ الأمر وليس قبلا روى الامام أحمد رحمه الله عن أبي بريدة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خمسٌ لا يعلمهنّ الا الله عزّ وجل:
انّ اللهَ عندَهُ علمُ الساعةِ ويُنَزِّلُ الغيثَ ويعلمُ ما في الأرحامِ , وما تدري نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ ’ انّ اللهَ عليمٌ خبير
وروى مسروق رضي الله عنه عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنه قالت: مَنْ حدّثكَ أنهُ يعلمُ ما في غدٍ فقد كذَبَ, ثم قرأت: وما تدري نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ ’ انّ اللهَ عليمٌ خبير
أي ليس لأحد من الناس أن يدري أن يكون مضجعه من الأرض, أفي بحر أم برٍّ, أفي سهلٍ أم جيلٍ, وقد جاء في حديث رواه الكثير منهم ابن مسعود وأسامه بن زيد رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بما معناه: اذا أراد اللهُ قبْضَ عبد بأرض جعل الله له اليها حاجة
انّ الله عزوجل أوضح لنا طريق الخير وطريق الشر وعلينا أن نتبع ما يأمرنا اليه عزوجل لنفوز بخيري الدنيا والآخرة.. أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله! ما عندك من علم الساعة؟ فقال صلوات ربي وسلامه عليه: ضنّ ربك عزوجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها الا الله
أي استأثر الله عزوجل عنده بمفاتيح خمسة أمور لا يعلمها الا الله سبحانه وتعالى
وأشار صلى الله عليه وسلم بيده يعني: خمساً, فقلت: وما هن يا رسول الله؟ قال: علم المنية، قد علم متى منية أحدكم، ولا تعلمونه ، قال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، فلا يدري أحد كيف تكون منيته؟ ولا متى يكون موته وأجله؟ فإن علم المنية مما استأثر الله بعلمه، فلا يعلمه أحد غيره، قال: وعلم المنيّ حين يكون في الرحم، قد علمه وما تعلمونه
أي: علم مآل صاحبه في السعادة والشقاء، والهداية والضلال، وعلم عمره ورزقه، وعلم خلقته وخاتمته، كما ورد أن الملك يُؤمرُ بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، وهذه الأمور التي لا يمكن أن يعلمها أحد إلا الله سبحانه وتعالى وليس الأمر مقتصراً على معرفة أذكر هو أم أنثى؟! كما يظن بعض الناس، بل إن الله سبحانه وتعالى يعلم عنه كل شيء.
قال: وعلم ما في غدٍ، قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه
انظر إلى المربي العظيم والمعلم الجليل صلى الله عليه وسلم! كيف يضرب مثلاً بالشيء الواقعي! فمهما كان هذا الإنسان مثقفاً كبيراً، أو جاهلاً عادياً، فإنه يحتاج إلى الطعام، وكل الناس يحتاجون إليه، حتى الكفار الذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، يحتاجونه، وهم غافلون عنه، فيخبرنا صلوات الله وسلامه عليه : إن الذي يعلم الغيب هو الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك أنك لا تعلم أمر مستقبلك، فما تدري ماذا ستجني غداً؟ وماذا سيعرض لك؟ وماذا ستأكل؟ وقد لا تأكل
ويأخذني الحديث حول هذا الأمر الى مقالة كنت قرأتها للشيخ عصام الشعار رحمه الله حيا وميتا, أود نقلها للقراء كما هي لما تحويه من الاقناع فيقول
لكن هذه الأمور التي يقررها الإنسان قد سبق في علم الله تعالى على أي وجه ستكون، فالإنسان لا يعلم سيتزوج مَنْ في دنياه قبل الزواج، ولكن الله يعلم مِنْ قبل أن يخلق الإنسان مَن ستكون زوجته، فعلم الله يُحيط بهذا كله، وقد أودع الله في كتابه المحفوظ كلّ أفعال العباد واختياراتهم وآمالهم وآلامهم وديانتهم وغير ذلك، وليس معنى هذا أنه أجبرهم على هذه الأمور، ولكنه سبحانه وتعالى علمَ بعلمه المحيط دقائق هذه الأمور قبل أن تق, وهذا ما تجلى في قوله تعالى:
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
ولتقريب هذا المعنى نضرب هذا المثال: بينما يجلس أحد الآباء مع أولاده إذا بصديقه يطرق عليه الباب، فأراد الأب أن يصرف أولاده ليصفو له الجو مع صديقه، فأعطى لكل ولد من أولاده دينارا ليتفرقوا من حوله، وأعطاهم حرية التصرف في هذه الأموال. ثم أقبل الرجل إلى صديقه يحدثه فقال له : أنا أعلم تحديدا ماذا سيفعل كل ولد بما معه من مال، فقال له وماذا سيفعلون؟ فقال: أما الأكبر فإنه سيدخر ديناره ولن ينفق منه شيئا مهما كثرت المغريات أمامه، وأما الأوسط فإنه سيتصدق به، ولن يأخذ منه شيئا لنفسه، وأما الأصغر فإنه سيشتري به حلوى نوعها كذا.
وبينما هما كذلك إذ أقبل الأولاد الثلاثة، وقد صنع كل واحد منهم مثلما أخبر عنه أبوه وكأنما كانوا ينفذون خطة مدروسة، أو صفقة محكمة، فتعجب الصديق، فقال له الأب : إنهم أولادي وأنا أعلم بهم. ولله المثل الأعلى, فاذا كان الأب قد علم ما سيفعله أولاده بالنقود من خلال تربيته لهم, فكيف بخالق الوجود وما يدبّ عليه؟ ولأنّ الله تبارك تعالى يعلم من عباده ماذا سيفعلون, فقد كتب لهم ذلك كله في كتابٍ لا يضلُّ ربي ولا ينسى سبحانه وتعالى علام الغيوب, ولذا فتأتي أفعالهم على وفق المكتوب تماما , وفق ما كتبه الله لهم, وكأنهم يؤدون أدوارا في تمثيلية مكتوبة.
وأورد الامام الحافظ أبو يعلي في مسنده عن عبد الله بن عمر عن ابيه عمر رضي الله عنهما قال: لما نزلت: فمنهم شقي وسعيد, قلت يا رسول الله! علام نعمل ؟ على شيءٍ قدْ فُرٍغَ منهُ؟ ام على شيءٍ لم نفرغَ منهُ؟ فقال صلوت الله وسلامه عليه: على شيءٍ قد فُرغَ منهُ, وجرتْ به الأقلامُ , ولكنْ كلُّ ميسَّرٌ لما خُلقَ لهُ
أي ان كان من أهل السعادة فيُيَسَّرُ الى عمَلِ أهل السعادة, وانْ كان من أهلِ الشقاوة فُيَيسّرُالى عملِ أهل الشقاوة
نعم انّ كل نفس بشرية يخلقها الله عزوجل يُكنبُ لها منذ ولادتها ان كانت سعيدة أم شقية, ان كانت من أهل الجنة ام من اهل النار, ولكن ليس كما نفهمها نحن بمفهومنا المحدود, بل بمفهوم الحكمة الالهية كما في قوله تعالى: يعلمُ ما بين أيديهمْ وما خلفَهمْ, ولا يُحيطونَ بشيءٍ مِنْ عِلمهِ الا بما شاءَ, وسِعَ كرسيُّهُ السمواتِ والأرضِ, ولا يَؤودهُ حفظُهُما وهوَ العليُّ العظيم
, وان فهمنا قوله تعالى فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيد على مفهومنا المحدود, فهذا يعني أن نتوقف عن العبادة والعمل, اذ طالما أنّ كل واحد منا بات معروف على أنه سيدخل الجنة أم سيدخل النار,كما في سؤال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فيم العمل؟ أي لمَ نعمل طالما مصيرنا منذ الولادة قد تحدد؟ ولكنّ اذا علمنا أنّ الله تعالى قد قدّرَ أعمال العباد قبل أن يخلقُ السموات والأرض ب 50 ألف سنة عندها نقول قوله تعالى: سبحانك ربنا لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت علام الغيوب
انّ هذا المفهوم المحدود لعقولنا ان أخذنا به فانه يكون وللأسف الشديد من الخطر والخطأ في أن نظن مثل هذا الظن
انّ هذا الظن الخطأ الذي دخل علينا في فهم الاسلام الفهم الصحيح, وهذا التساؤل بعينه كان قد سأله الى جانب عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه, ففي رواية عن الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بقيع الغرقد يدفن جنازة وكان معه عود فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينكث العود بالأرض بهذا العود وهو يقول: ما من نفس منفوسة الا كتب مقعدها من الجنة او مقعدها من النار… وكما في صحيح مسلم أن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: يا رسول الله؛ بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: اعملوا، فكل ميسر لما خُلق لهُ، وفي رواية: كل عامل مُيسر لعمله , وسؤال سراقة رضي الله عنه معناه: أي ما فائدة العمل اذن ان كان قد كتب الله علينا مقعدنا من النار ومقعدنا من الجنة؟ أفلا نتكل على كتابنا؟ أي على ماكتبه الله علينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكلٌّ ميسّرٌ لما خُلقَ له ُ… ثم تلا قوله عزوجل: فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى * فسنيسره للحسنى * وأما من بخل واستغنى * وكذّب بالحسنى* فسنيسره للعسرى
ومن هذه الآيات الكريمات في سورة الليل يكون هناك قد تحددّ مصير أهل الجنة بأعمال عمل أهل الجنة, ومصير أهل النار بعمل أهل النار, اذن:
انفاق + تقوى الله عزوجل + صدق وتصديق = الجنة بتيسيره الى عمل أهل السعادة
بخل وشح + وطمع وجشع + تكذيب = النار بتيسيره الى عمل أهل الشقاوة
الآن وبعد ان اتضحت لنا الصورة نستنتج أنّ كل من أتى بعد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين أوهموا الناس بأنّ الانسان مّسّير وذلك أنهم فصلوا السبب عن القدر مع أنّ السبب جزء من القدر, وسأضرب مثالا بسيطا على ذلك ومن واقع الحياة: مثلا حين يخرج أحدنا الى مكان ما وتصدمه سيارة فيموت, نبقى نقول: لو ما خرج ما مات, وهذا خطأ فادح في شرع الله, اذ لا بدّ له أن يخرج كي يلاقي المكتوب عليه, كي يلقى ما كتبه الله له وقدّر له لأنّ الله تعالى أخرجه ليلاقي قدره المقدر له قبل أن يُخلق, لأنّ السبب جزء من القدر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما معنى الحديث: لا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا, ولكن قل قدّر الله وما شاء الله فعل, فانّ لو من عمل الشيطان
ولعلّ حديث ابو خزامة رضي الله عنه حين قال يا رسول الله! أرأيت رقية نسترقيها وأدوية نتداوى بها, أتردُّ من قدَرِ الله شيئا؟
فقال عليه الصلاة والسلام: هيَ مِنْ قدَرِ الله
أي هي من الأسباب, والله تعالى الهمك لأخذ الدواء فبرأت من المرض, أي السبب هو جزء من القدر
ومن هذا الحديث نستخلص ان المريض لا بدّ له ان ياخذ الدواء حتى يشفى لقوله تعالى: فيه شفاء للناس وقوله تعالى: واذا مرضت فهو يشفين ولقوله صلى الله عليه وسلم بما معناه: تداووْا عبادَ الله, فانّ اللهَ لم يضعْ داءً الا وأنزلَ لهُ دواءً
اذن المرض قدَرٌ مُقدّرٌ من الله عزوجل, والدواء سببٌ لمداواةِ هذا المرض وعلاجه, والدواء هنا سبب, والمرض قدَر, وبهذا يكون السبب جزء من القدر
انّ من يعتقد بأنّ الانسان مسيّر في كلّ شيءٍ فهو باعتقاده هذا يُعطلُ القرآن والسنة, لأنه باعتقاده الخاطىء هذا يعني أنه لم يَعدْ لنا حاجة بهما, وبذلك نكونُ قد أبطلنا الأحكام الشرعية, وعطلنا أحكام الله عزوجل, فلا يُجلدُ شارب خمر ولا يُجلد زانٍ ولا يُرجم, ولا يُقتلُ القاتل قصاصا, ولا تُقطع يدُ السارق, لاعتقاده بأنّ ما فعله الانسان مكتوب له في الأزل أن يفعله , ولو أننا اعتمدنا هذا المفهوم الخاطىء على هذا الأساس اذن لم نبلغ السلطات عند حدوث أيّ جريمة أو اعتداء طالما نعتقد أنّ هذه الأمور ومنذ الأزل مكتوبة علينا أن نفعلها , وما دمنا نعتقد هذا الاعتقاد, اذن لم نُبلغُ عنها؟ أليس مكتوب علينا من أزل أنه سيُعتدى على حرمات بيوتنا أو سرقتها أو حتى القتل؟ لا تعتقد يا أخي اعتقادا كهذا , فاعتقادك بهذا يعني ضياع الدين, فباعتقادك هذا وكأنك تقول أنّ انزال الكتب عبث, وارسال الرسل عبث, وهذا الكلام لا يقبله أحد عاقل مطلقا, بل لأنّ الله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون فانه يحدث لك ما يكون, وكما قال العلماء رحمهم الله بأنّ: الايمان بالقدر لا يُقبل الا مجملا… بمعنى أنه لا يجوز لنا أن نبحث وراء الايمان , ولا يجوز لنا أن ننقب عن ثغرة من ثغراته, لماذا؟ لأنّ حكمة الله عزوجل اقتضت ألا نبحث في شيء لا يستطع أي انسان أن يصل اليه, بل انّ علم الانسان وادراكه محدود جدا بالقدر الذي حدده الله عزوجل له, وأيضا ما نراه وما يحصل معنا يبقى محصورٌ في علم الله عزوجل وحده, والقَدَر أمر ثابت وهو من أصول الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عليه الصلاة والسلام عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام له : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره
فالإيمان بالقدر أصل ثابت من أصول الإيمان، والله عزوجل قدّرَ أشياءً وكتبها سبحانه وتعالى علينا قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فخلق العبد وقدّر له رزقه وأجله وشقاوته وسعادته، وهذا أمرٌ معلومٌ لا خلاف فيه ولا جدال عليه باجماع اهل السنة والجماعة, ومَنْ خالفهُ فهو كافرٌ بنص القرآن والسنة.
واياك أن تقول أنا لست مقتنعا بهذا الكلام, لأنك لو فعلت ذلك لكفرت, لأنّ عدم اقتناعك به يُعتبَرُ كفرٌ بالقدَر, بل علينا جميعا أن نستسلمَ للقدَر لأنه من أمرُ الله عزوجل
وعلينا أن نؤمن ونستوعب بأنّ قضية القضاء والقدر لا تدخل تحت فَهم الانسان ولا تحت ادراكه ابدا, خاصةً وأنّ هناك أحداث جارية على مدار اليوم والساعة وتحوط بنا ونحن لا نفهم كنهها, هذه الأحداث متصلة بحلقات لا نجد لها تفسيرا لأنها محوطةٌ بعلم الله وحده, فلا يعلمها الا الله عزوجل, واذا كنا نعتقد وهذا واجب علينا اعتقاده بانّ الله عزيز حكيم, اذن علينا ألا نعترض لا على حكم الله ولا على قضاءه وقدره, لأننا لا نعلم الا ما علمنا الله اياه, وعلى هذا فمهما بلغنا من العلم يبقى علمنا محدودٌ جدا, وعلى هذا فلا يجوز لنا أن نسأل عن أشياء تفوق مداركنا المحودة ولا ننقب عنها حتى لا يشملنا قوله تعالى
قل هلْ نُنّبِئُكُمْ بالأخسرينَ اعمالاً* الذينَ ضلَّ سَعْيُهُمْ في الحياةِ الدنيا وهم يحسبونَ أنهُمْ يثحسنونَ صُنعاً
والآن نعود الى قوله تعالى في صدر سورة الانسان : إنا هديناهُ السبيلَ اما شاكراً واما كفوراً أي : انا بيّنا له الطريق ووضحناه له وبصرناه به, وعليه ان يختار اما الايمان واما الكفر تماما كقوله تعالى في سورة الكهف: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وكقوله تعالى في سورة فصلت 17: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ، وكقوله تعالى في سورة البلد : وهديناه النجدين ، أي : بينا له طريق الخير وطريق الشر وعليه أن يختار واحد منهما
وأما عن قوله تعالى : إما شاكرا وإما كفورا :أي إما شقيا وإما سعيدا ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم ، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمُوبِقُها أو مُعتِقُها . وكقوله تعالى في سورة الروم 30 : فِطْرَتُ اللهِ التي فطَرَ الناسَ عليها , وكما في رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ، فإذا أعرب عنه لسانه ، فإما شاكرا وإما كفورا
وروى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان : راية بيد ملك ، وراية بيد شيطان ، فإنْ خرجَ لما يُحبُّ اللهَ اتبَعهُ الملَكُ برايته ، فلم يَزلْ تحت راية الملَكِ حتى يَرجِعَ إلى بيته . وإنْ خرجَ لما يُسخطُ اللهَ اتبعهُ الشيطانُ برايتهِ، فلم يزلْ تحت رايةِ الشيطان ، حتى يرجِعَ إلى بيته
وروى الإمام أحمد رحمه الله أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه: أعاذك الله من إمارة السفهاء . قال : وما إمارة السفهاء يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام: أمراء يكونون من بعدي ، لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، فمن صدّقهُمْ بكذِبِهمْ وأعانَهمْ على ظُلمهمْ ، فأولئك ليسوا مني ولستُ منهم ، ولا يرِدونَ على حوضي . ومَنْ لم يُصدقُهُمْ بكذبهم ولم يُعنهمْ على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم ، وسيرِدونَ على حوضي . يا كعب بن عجرة ، الصوم جُنَّةٌ ، والصدقة تُطفئُ الخطيئةَ ، والصلاةُ قُربانٌ – أو قال : برهانٌ – يا كعبُ بن عجرة ، إنه لا يدخل الجنة لحمٌ نبَت مِنْ سُحتٍ ، النار أولى به . يا كعب ، الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها
والآن تعالوا بنا نستعرض بعض آراء العلماء في قضية هل الانسان مسير أم مخير يقول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هذه القضية
الإنسان له وصفان مسيَّر ومخيَّر، مسيَّر ليس له خروج عن قدر الله عزَّ وجلَّ، فالله سبحانه وتعالى قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث الشريف، والقَدَر أمر ثابت وهو من أصول الإيمان، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال في جوابه: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.
فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان، فالله قدر أشياء وكتبها سبحانه قبل أن يخلق الناس، خلق العبد وقدر رزقه وأجله وشقاوته وسعادته، هذا أمر معلوم وقد أجمع عليه أهل السنة والجماعة، فهو مسير من هذه الحيثية، من جهة أنه لا يخرج عن قدر الله.
ولكنه ميسر لما خلق له، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من الناس أحد إلا وقد وجد مقعده من الجنة ومقعدة من النار، فقالوا: يا رسول الله، فلِمَ نعملُ؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له , فأما أهل السعادة فيُسِّروا لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فَيُسِّروا لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا قول الله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى
بيَّن عليه الصلاة والسلام أن جميع الأمور مقدرة، وأن أعمال العبد وشقاوته وسعادته وسائر شئونه قد مضى به علم الله، وكتبه الله سبحانه وتعالى، فليس للعباد خروج عما كُتب في اللوح المحفوظ، وعما قدره الله عليهم سبحانه وتعالى، وهو من هذه الحيثية مسير ومُيَسَّر أيضاً.
أما من جهة التخيير فالله جل وعلا أعطاه عقلاً وسمعاً وبصراً وأدوات فهو بها يعرف ما يضره وما ينفعه وما يناسبه وما لا يناسبه، فإذا أتى الطاعة فقد أتاها عن اختيار وإذا أتى المعصية فقد أتاها عن اختيار ، فليس بمجبور ولا مكره بل له عقل ينظر به يميز بين الضار والنافع يبصر به، وله أدوات يأخذ بها ويعطي، ورجل يمشي عليها إلى غير ذلك، فهو بهذا مخير….
فهو المصلي، وهو الصائم، وهو الزاني، وهو السارق، وهو الذاكر والغافل، كل هذا من أعماله، فأعماله تنسب إليه وله اختيار وله إرادة، كما قال عزَّ وجلَّ في سورة التكوير: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وقال تعالى في سورة المدثر 55- 56: فَمَن شَاء ذَكَرَهُ* وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ، وقال تعالى الانفال 67: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ, وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وقال تعالى الانفال 67: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وقال تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ، فنسب فعلهم إليهم، وقال تعالى في سورة الاحزاب 35: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.
فأعمالهم تنسب إليهم خيرها وشرها، فالعبد هو الصائم، وهو الذاكر، وهو الغافل وهو العامل، وهو المصلي إلى غير ذلك، فيؤجر على طيب عمله الذي أراد به وجه الله، ويأثم على ما فعله من الشر؛ لأنه مختار عامل لهذا الشيء.
فإذا فعل ما شرع الله عن إخلاص ومحبة لله آجره الله؛ من صلاة وصوم وصدقة وحج وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وغير ذلك، وإذا فعل ما نهى الله عنه من السرقة والزنا وقطيعة الرحم والعقوق شهادة الزور وما أشبه ذلك أخذ بذلك، وأثم في ذلك واستحق العقاب؛ لأن هذا من فعله واختياره، ولا يمنع ذلك كونه قد قُدِّر وسبق به علم الله.
فقد سبق علم الله بكل شيء سبحانه وتعالى، ولكن العبد يختار يريد وله مشيئة، فإذا شاء المعصية وأرادها وفعلها أُخِذ بها، وإذا شاء الطاعة وأرادها وفعلها أُجرِ عليها.
فهو مخير ومسير، وتعبير السنة(ميُسَّر)، وهكذا تعبير الكتاب، قال تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، والتعبير بمُيسَّر أولى من مسير كما جاءت به السنة، ويُقال: مسير كما قال الله تعالى يونس 22: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فهو سبحانه الذي أعطاه العقل والقدرة على الفعل والعمل، فهو من جهة مسير وميسر ولم يخرج عن قدر الله، ومن جهة أخرى هو مخير وله مشيئة وله اختيار، وكل هذا واقع، وبهذا قامت عليه الحجة، وانقطعت المعذرة، واستحق الثواب والعقاب على أفعاله الطيبة والخبيثة، فالطيبة؛ له ثوابها، والخبيثة عليه وزرها، وبهذا يتضح معنى المُسَيَّر والمُيسَّر ومعنى المخير.
ويقول الشيخ ابن عيثيمين رحمه الله : القول الفصل في هذه المسألة أن الإنسان مخير وأن له اختياراً كما يريد كما قال الله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون وكقوله عز وجل في سورة التكوير: لمن شاء منكم أن يستقيم.. وهذا أمرٌ معلوم بالضرورة فأنت الآن عندما قدمت لنا هذا الكتاب هل قدمته على وجه الإكراه وأنك تشعر بأن أحداً أكرهك على تقديمه أم أنك قدمته على سبيل الاختيار فأخذت الورقة وكتبت وأرسلت الخطاب أو أرسلت الكتاب لا شك في أن هذا هو الواقع ولكننا نقول كل ما نقوم به من الأفعال فإنه مكتوبٌ عند الله عز وجل معلومٌ عنده, أما بالنسبة لنا فإننا لا نعلم ما كتب عند الله إلا بعد أن يقع ولكننا مأمورون بأن نسعى إلى فعل الخير وأن نهرب عن فعل الشر, وليس في هذا إشكالٌ أبداً, نجد الطلبة يتجهون إلى الكلية مثلاً أو إلى الجامعة فمنهم من يختار كلية الشريعة ومنهم من يختار كليه أصول الدين ومنهم من يختار كلية السنة ومنهم من يختار كلية اللغة ومنهم من يختار كلية الطب , المهم أن كلاً منهم يختار شيئاً ولا نرى أن أحداً يُكرهه على هذا الاختيار كيف نقول مسير ومخير؟ , ولو كان الإنسان مجبراً على عمله لفاتت الحكمة من الشرائع, ولكان تعذيب الإنسان على معصيته ظلماً, والله عز وجل منزهٌ عن الظلم بلا شك, فالإنسان يفعل باختياره بلا شك , لكن إذا فعل فإنه يجب عليه أن يؤمن بأن هذا الشيء مُقدّر عليه من قبل , لكنه لم يعلم بأنه مُقدر إلا بعد وقوعه, ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار.. قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: اعملوا فكلٌ مسيرٌ لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ قوله تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى.. فالصواب مع أخيك أن الإنسان مسيرٌ ومخير, ومعنى مخير أن له الاختيار فيما يفعل ويذر ويترك, لكن هذا الذي اختاره أمرٌ مكتوبٌ عند الله عزوجل, وهو لا يعلم ما كتبه الله عليه إلا بعد أن يقع , فيعرف أن هذا مكتوب, وإذا ترك الشيء عليه أن يؤمن أنه ليس بمكتوب عليه ولأجل هذا تركه..
وتقول الأخت الداعية الفاضلة الدكتورة حنان الادريسي من المغرب
ان الإيمان فطرة في الإنسان، لقوله تعالى فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.. يعني أن الإنسان يخلق على الفطرة السليمة وأن الخير أصيل في الإنسان أما الشر فهو عارض، ولكن المجتمع هو الذي يفسده والبيئة التي يعيش فيها هذا الإنسان هي التي تلوث فطرته وتفسد خلقه ودينه ولاسيما الأبوين.
وفي الحديث القدسي الجليل يقول المولى تبارك وتعالى :يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا… واقتضى عدله سبحانه أنه يهدي من قبل طريق الهداية ، فالله عز وجل دلنا على الطريق الموصل إلى الجنة وهو الصراط المستقيم (أركانه، أقواله، وأفعاله، وأعماله ..) وأيضا وضح لنا ما يوصل إلى النار وهذا كله مبين في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما على الإنسان إلا أن يفهم دينه ويتفقه فيه فيزداد إيمانا واتباعا لطريق الجنة، يأتي بعد ذلك دور الإنسان في طلب المعونة و الهداية.
فهما سبب رئيسي من أسباب الاستقامة أو الاعوجاج، يعني أنه لو خلي بين هذا اختياره للإيمان سبحانه يهدي من قَبِلَ واختار بإرادته الالتزام بالطريق الموصل إلى الجنة، واستعان بالله صادقا طالبا توفيقه وهدايته إلى هذا الطريق: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ .. ولا يضل سبحانه إلا من يستحق الإضلال ممن رفض الالتزام بطريق الله وعاش حياته غير مهتم بطريق الله فكان ممن قال الحق فيهم : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
ان الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان كما بينه رسولنا الكريم في حديث جبريل عليه السلام المعروف أن تؤمن بالقدر خيره وشره، وكل ما يحدث للإنسان من قدر خير أو شر سبق في علمه سبحانه وتعالى، فالمؤمن يعرف أن ربه هو العليم وعلمه سابق لما كان ولما سيكون، وهو ما كتبه الله عز وجل في اللوح المحفوظ. وروى الامام مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال: قيل يا رسول الله أَعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم. قيل: ففيما يعملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له.
ومعنى هذا أن تقدم علم الله وكتابته وتقديره الأشياء قبل خلقها لا ينافي وجود الأعمال التي بها تكون السعادة والشقاوة، وإن من كان من أهل السعادة فإنه يُيسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فإنه يُيسر لعمل أهل الشقاوة.
فلا تناقض اذن بين الإيمان في علم الله السابق والإيمان بفاعلية الأسباب ومنها قدرة الإنسان ومسؤوليته، وما يدعم الأسباب حديث رواه ابن ماجه والترمذي انه قيل يا رسول الله : أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى تسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله .
إذن فالأخذ بالأسباب واجب والذي يترك الصلاة فانه يتركها بإرادته دون إكراه أو إجبار , وكذلك كل الأعمال التي تبعد الإنسان عن ربه كهجر القرآن وعقوق الوالدين والإفساد في الأرض… وأسوق لكم مثالا – ولله المثل الأعلى- الأستاذ الذكي الخبير بأحوال طلابه أثناء امتحانه لهم يعرف مسبقا من منهم سينجح وهم فئة المجتهدين ومن منهم سيرسب وهم فئة الكسالى، وكونه يعرف ذلك اذن علم من اجتهادهم أو كسلهم.
فلله المثل الأعلى فالله سبحانه تعالى خلق الخلق وهو العليم بأحوالهم: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ… علم الله عز وجل سابق لأعمال العباد, وليس سائق لأعمال الإنسان.
إذا كان سر خلق الإنسان هو قاعدة الابتلاء لنبلوكم أيكم أحسن عملا وإذا كانت الدنيا دار عمل وانقسم الناس بين مجد ومجتهد في طريق التزكية والتقوى وبين معرض غافل في طريق المعصية والشقاء، فلابد من دار للجزاء تمنح فيها العطايا والهدايا لمن اتبع وصدق بطريق الله تعالى ومن عدالته أيضا أن يلقى المعرضون الضالون جزاءهم في هذه الدار الآخرة.
ولنتعلم حسن الظن بالله تعالى، فنحن نقدم أعمالا صالحة تثقل ميزاننا يوم العرض عليه، ونرجو أولا و أخيراً رحمته عز وجل. اللهم ارحمنا اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وتولنا برحمتك يوم الوقوف بين يديك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رحمنا الله وإياكم وسهل لنا طريق الجنة ووقانا من عذاب النار، ما أحوجنا أن نعرف ربنا كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، فهو سبحانه رحيم بعباده ورحمته أكبر من رحمة الأم بولدها. وحاشاه أن يعذب من لا يستحق العذاب، وهو سبحانه عز وجل عادل وغير ظالم لعباده .
وعلى ضوء ما تقدّم بما يسّره الله لنا من علمه الذي لا ينضب ومن شرح على قدَرِ فهمنا المحدود جدا, ومما أفاد به الشيوخ الأفاضل رحمهم الله أحياء وأمواتا, نقول: إن كل ما يجري في هذا الكون كبيره وصغيره ودقيقه انما يجري بقضاء الله تعالى وقدره وبسبق علمه سبحانه وتعالى به في سابق أزله، تماما كما قال الله تعالى في سورة القمر 49: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وكقوله تعالى في سورة : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل الذي نذكر منه ما يبيّن لنا ما نحن بصدده : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة
وفي سنن أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما خلق القلم، فقال له اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
وفي حديث مسلم رحمه الله: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس.
ويدخل في عموم شيء أفعال العباد، وهي تشمل حركاتهم وأفكارهم واختيارهم فكل ما يعمله الإنسان أو يحصل من خير أو شر فهو مقدر قبل مولده بمئات الالاف من السنين
ومع ذلك فقد جعل الله تبارك وتعالى للعبد اختيارا ومشيئة وإرادة بها يختار طريق الخير أو الشر، وبها يفعل ما يريد، وعلى أساسها يُحاسب على أفعاله التي اختارها لنفسه لأنها أفعاله حقيقة، ولذلك فالاختيار مع وجود العقل وعدم الإكراه هو مناط التكليف إذا فُقِد ارتفع التكليف. ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه إذا سُلب ما وهب أسقط ما أوجب.
ومما يدل على خلق الله لأفعال العباد قوله تعالى في سورة الصافات 96: وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ وقوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وفي الحديث الذي رواه الحاكم والذهبي وصححه الألباني قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله خالق كل صانع وصنعته. .
فقد أثبت في الآيتين أن لهم عملا ومشيئة وأسندهما إليهم وأثبت أنهما من خلق الله. وعلى هذه المشيئة والعمل الذي يفعله العبد باختياره يُحاسب العبد ويجازى ويسامح فيما فعله من دون قصد أو كان مضطرا إليه، وذلك أن الله خلق الإنسان وأعطاه إرادة ومشيئة وقدرة واستطاعة واختيارا، وجعل فيه قابلية الخير والشر. كقوله تعالى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا .
وكقوله تعالى في سورة المائدة 34 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ.. وكقوله تعالى في سورة آل عمران 79: فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
وكقوله تعالى في سورة آل عمران 145: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا
وكقوله تعالى في سورة الانسان والمزمل: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً : وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده.
وقد كلف الله الإنسان وألزمه الأحكام باعتبار ما أعطاه من العقل والطاقات والإرادة، فإذا فقد هذه الأشياء فعجز أو أكره أو حبس لم يعد مكلفا.
ولا يقال إن الإنسان مسير أو مخير بالإطلاق بل الحق أن الإنسان مخير ومسير، فهو ميسر لما خلق له، أما كونه مخيراً فلأن الله تعالى أعطاه عقلاً وسمعاً و إدراكاً وإرادةً فهو يعرف الخير من الشر والضار من النافع وما يلائمه وما لا يلائمه، فيختار لنفسه المناسب ويدع غيره، وبذلك تعلقت التكاليف الشرعية به من الأمر والنهي، واستحق العبد الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية. قال تعالى في صدر سورة الانسان إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
وأما كونه مسيراً فلأنه لا يخرج بشيء من أعماله كلها عن قدرة الله تعالى ومشيئته، قال عز من قائل في سورة التكوير : وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ
وروى الترمذي وابو داوود عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:
إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب مقادير الخلق إلى يوم القيامة
قال الامام النووي رحمه الله في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره.
فما يفعله العبد من الأفعال يفعله بمحض اختياره وإرادته، وكل إنسان يعرف الفرق بين ما يقع منه باختيار وبين ما يقع منه باضطرار وإجبار، فالإنسان الذي ينزل من السطح على السلم نزولا اختياريا يعرف أنه مختار، على العكس من سقوطه هاويا من السطح إلى الأرض، فإنه يعلم أنه ليس مختارا لذلك، ويعرف الفرق بين الفعلين، فهو في الأول مختار، وفي الثاني غير مختار.
وبناء على هذا، فإن الإنسان يعمل باختياره يأكل ما شاء، ويتزوج من شاء، ويعمل ما شاء، والله يراقب أعماله ويجازيه على اختياره ما دام عاقلا
قال تعالى في سورة التوبة 105: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وقال تعالى في سورة النحل 32: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
وقال الشيخ الألباني رحمه الله: أدلة الوحي تفيد أن للإنسان كسبا وعملا وقدرة وإرادة، وبسبب تصرفه بتلك القدرة والإرادة يكون من أهل الجنة أو النار.
هذا؛ ويجب التنبه ثم التنبيه للأخوة والأخوات الكرام البعد ما أمكن في الخوض عن أمر القدّر ما أمكن حتى لا نوقع أنفسنا في متاهات لا يعلمها الا الله عزوجل فيتحقق فينا قوله عليه الصلاة والسلام
انّ احدكم ليقول الكلمة من سخط الله لا يأخذُ لها بالا فيهوي بها في جهنم سبعين خريفا
وحتى لا يتحقق فينا قوله تعالى في آية من خواتيم سورة الكهف
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا
نفعنا الله واياكم بالقرآن العظيم وبهديه عليه الصلاة والسلام وبمن اهتدى بهديه الى يوم الدين , وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ما أصبت به فمن الله عزوجل وحده, وما أخطأت فمن نفسي الخاطئة ومن الشيطان
لا تنسونا من دعوة خفية بظهر القلب ولكم مثلها ان شاء الله تعالى