خالد بن سعود البليهد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد فإن من الأمور المبكية المحزنة ما حدث في الآونة الأخيرة من ظاهرة خطيرة في بيوت الله من سماع النغمات الموسيقية المنبعثة من الهواتف الجوالة في كثير من المساجد والأحوال مع قلة النكير والنصيحة واتخاذ الإجراءات الواقية من ذلك.
إن وجود هذه الظاهرة وكثرتها لهو دليل على استخفاف الفاعلين واستهانتهم بحرمات الله وقلة تعظيمهم لشأن الصلاة. فإن كانوا مصرين فالجرم عظيم وإن كانوا متهاونين وهو الغالب عليهم فلا عذر لهم عند الله لأنهم مفرطون في التعظيم الواجب وترك صيانة بيوت الله من العبث واللغو الذي لا يليق بها.
إن بيوت الله من أطيب البقاع وأحبها إلى الله كما ورد في الأثر: (أحب البقاع إلى الله المساجد و أبغض البقاع إلى الله الأسواق). رواه أحمد . وإنها بنيت للتسبيح والتهليل والتكبير وقراءة القرآن والصلاة وغير ذلك مما يكون من جنس العبادة.إنها دور الله وحقها التعظيم والإجلال والصيانة من كل دنس حسي ومعنوي. قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ). وقال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ). وفي سنن أبي داود قالت عائشة رضي الله عنها: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن كل قول وعمل يدنس المسجد وينقص حرمته ويفسد مهابته مما يقصد به الدنيا والمال. كما ثبت في السنة عن نهيه عن إنشاد الضالة كما في صحيح مسلم أنه قال: (من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد فليقل : لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لذلك). ونهى عن البيع والتجارة فيه بقوله: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك). رواه الترمذي. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أمور مباحة في الأصل لكونها ذريعة إلى امتهان المسجد وصرفه عن الغاية والهدف الذي بني من أجله فكيف والعياذ بالله ارتفاع معازف الشيطان هذه النغمات الموسيقية في المسجد أثناء الصلوات المفروضات فياله من منكر عظيم.
إن الوقوف بين يدي الله ومناجاته لأمر عظيم يفرق منه المؤمن ويشعر بهيبة الموقف وعظم الملك الجبار الذي يقف بين يديه ويخاطبه ويناجيه يرجو رحمته ويخاف عذابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا عظم الموقف: (إن أحدكم إذا كان في الصلاة كان الله قبل وجهه فلا يتنخمن أحد منكم قبل وجهه في الصلاة). متفق عليه. وعند النسائي: (إن أحدكم إذا قام في صلاته فانه يناجي ربه وإن ربه بينه وبين القبلة). وقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن المصلي إذا صلى فإنما يناجي ربه تبارك وتعالى فلينظر بما يناجيه و لا يجهر بعضكم على بعض). رواه أحمد.
إن تساهل بعض المسلمين اليوم بهيبة المسجد وعظم الموقف لهو حالة مرضية تدل على ضعف الإيمان وقلة البصيرة والذهول عن الوعد والوعيد وكثرة الغفلة ولو أن أحدهم وقف أمام ملك من ملوك الدنيا أو مسئول لرأيته خاشعا ساكنا لا يشتغل بأمر إلا بالإنصات وحسن الحديث وهذا أمر طبيعي لا يعاب عليه المرء ولكن المصيبة أن لا يعامل رب هذا الملك بمثل معاملته أو أعلى منه.
إن الانسان يستطيع أن يتخلص من هذه العادة المنكرة بإغلاق الجوال نهائيا للتفرغ للعبادة فإن لم يفعل فليضعه على الوضع الصامت أو يبرمجه على برنامج الإنصات أوقات الصلوات وهو متوفر في جميع المراكز. ومع ذلك فإن ظهر منه تقصير مرة واحدة ثم ندم واستغفر فيتجاوز عنه ويغتفر ولكن أن يستمر هذا السلوك معه في كثير من الأحيان ويصر عليه مع مناصحته ويرى أن الأمر سهل لا يحتاج إلى إنكار ومبالغة فهذا والله منكر لا يسع السكوت عليه.
إن الذي ينبعث من جواله نغمات موسيقية داخل المسجد واقع في عدد من المفاسد:
1- كون هذا النغمة منكر مخالف للشرع.
2- أنه استهان بحرمة المسجد ومهابته.
3- أنه فرط بتعظيم شعائر الله.
4- أنه أفسد على الناس صلاتهم.
5- أذهب الخشوع عن نفسه وغيره.
إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إيذاء المصلين بالروائح الكريهة كما قال: (من أكل البصل و الثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). رواه مسلم. وهذا إيذاء حسي فكيف بمن يؤذي المصلين إيذاء معنويا أشد يشغلهم عن التعقل والتدبر في صلاتهم ويقطع عنهم الخشوع والسكينة. و والله لو تفكر وتأمل هذا المتساهل في شناعة فعلته لأيقن أنه متعد على حرمة المسجد والصلاة وحقوق المصلين لو تصور مثلا حضور فرقة موسيقية إلى باحة المسجد وقيامها بالأغاني داخل المسجد وأثناء الصلاة فكيف سيكون الحال لا شك أنه سينفر من ذلك ويقوم بأشد الإنكار عليهم لظهور المنكر وفعله هو من جنس فعلهم وإن كان أخف مخالفة ومرتبة لأنه نقل صوت الموسيقى داخل المسجد وهذا هو عين المنكر الذي نهى عنه الشرع ولا يختلف حكم التحريم في كلتا الحالتين وإن كانا يتفاوتا في درجة التحريم. وهو آثم شرعا والواجب عليه أن يتوب ويكف عن ذلك ويستغفر الله ويقدر قدره.
إن الواجب على كل مسلم أن يعظم حرمة المسجد ويصونه من كل دنس حسي ومعنوي ويكون معظما لشعائر الله لتعظيمه لله وإجلاله لأحكامه وشرعه قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ). وقال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
إن الواجب على الأمة أن تنهض وتجتهد في إنكار هذا المنكر الذي يغزو بيوت الله ويصيب المؤمن في مقتل في أعظم أحواله وأجمل أوقاته وأطيب أفعاله في محراب عبادته. إن على الإمام مسؤولية عظيمة في الحد من هذا المنكر وتقليله في التنبيه للمصلين قبل الدخول في الصلاة وتوعية المصلين بحرمة هذا العمل أثناء الكلمات وتكرار التوجيه. وكذلك جماعة المسجد إذا تعاونوا لهم دور عظيم في النصيحة والإنكار كل على حسب استطاعته وقدرته. وكذلك المسئولون عن الشؤون لدينية على عاتقهم مسؤولية عظيمة في إزالة هذا المنكر وتقليل وقوعه في مساجد المسلمين عن طريق النشرات وعقد اللقاءات والبحث مع العلماء والمختصين عن وسائل وقائية تمنع وقوعه في الأصل أو تقلله وتحد من انتشاره ومن اهتم لأمر وتكلف إصلاحه وصدق العزم حري بأن يوفقه الله. والعالم المسلم التقني الذي يخترع جهازا مناسبا للقضاء على هذا المنكر في المساجد له ثواب عظيم في حفظ عبادات الناس وتعظيم الصلاة ويرجى أن يكون عمله من السنة الحسنة والوقف الذي لا ينقطع ثوابه.
أما أن يترك الحبل على الغارب ولا يحرك هذا المنكر ساكنا في المسلمين ولا تقوم جهود وأعمال كبيرة تناسب كثرته وانتشاره في المساجد في الوقت الذي نحظر فيه تشغيل الجوال أو استعماله في أماكن وأحوال لأجل سلامتنا في الأبدان فهذا والله من الحرمان من الخير وضعف الغيرة وقلة الاهتمام بهذه الشعيرة العظيمة التي شدد في أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
خالد بن سعود البليهد
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
[email protected]
5/4/1430