العفة بين أعاصير الفضائيات وطوفان الإنترنت
العفة بين أعاصير الفضائيات وطوفان الإنترنت
د. عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأيقنوا أنّ التقوى هي العزّ والظَّفَر، وفي الحياة الدنيا ـ وايْمُ الله ـ خير ما يُدَّخَرُ، وأولى ما يُتَّعظ به ويُزْدَجَر، وأعدّوا واستعدّوا ليومٍ يُنادَى فيه: {كَلاَّ لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}[1].
أيها المسلمون، الحقيقة التي يشهد بها الواقع، وينطق بها التأريخ، ولا تَتَخَلّف عنها السُّنن بحال؛ هي أنّ الأمم والحضارات لا تقوم أركانها، ولا يعلو بُنيانها إلا على قواعد الفضيلة، ولا تحلّ الانتكاسات، وتَدْلَهِمُّ الارْتِكاسات إلا إذا يَمَّمَتِ الأممُ شطرَ الرّذائل. ألا وإن مما يتحسّرُ منه الغيورون أنّ أمتنا الإسلامية الكَلْمَى لا تزال تَتَناوشُها الأرْزَاء من كل مَضِيق، والخُطُوب من كل فجٍّ عميق. يقال ذلك والأسى مِلْءُ جوانحنا، فمن أمعن النظر في بعض القضايا الاجتماعية وسَبَر غَوْرَها بمنْظَار الفَحْص والافْتِقاد، ودقَّقَ فيها بِمُقَلِ التسديد بُغْية الرشاد؛ أَلفاها ذاتَ سُلَمٍ تستوجِبُ الرُّفُوَّ والإرفاد، ووَهَاءٍ شَنِيع ذَرِيع يهْتِفُ بعاجل الرَّتَقِ والإعْضَاد، إنْ تراخت فيها الأمّة أو هَاوَدَت خَلَصت إلى بئيس القرار ووَبِيل المهاد.
ومع ما رُزِئ به العالم اليوم من حوادث العنف والتفجير، وأقضّ مضاجعه من أعمال الإرهاب والتدمير مما يتنادى العقلاء والشرفاء بتجريمه، ويتوارد علماء الأمة المعتبرون على تحريمه، وتتجرّع الأمة الإسلامية سَلبيّاته وآثاره، فإن من أخطر الحروب التي رُزِأَت بها الأمة، بل وانتكست يوم أن ارْتَكَسَت في حَمْأَتها الأممُ والحضارات هي الحرب على الفضيلة وإعلاء راية الرذيلة.
وقد قصدت الشريعة الغَرّاء إلى إيلاء كافة القضايا العناية والرعاية، ومن أهمها قضية حفظ الأعراض، بل قضية وقاية الأسر وحفظ المجتمعات والأجيال من لهيب الرّذيلة والسفور، وبراكين الفجور، وأعاصير الشرور، وجَحَافِل العُهْر وسَعَار اللذّة والإباحية البهيميّة. وإنّ أَنْكَى سلاحٍ بَتّارٍ أشهره العدو في صدورنا فمزّق به نَظِيم أمورنا، وكدّر به نَمِير حياتنا الروحية، وعَكّر به صفو أحوالنا الاجتماعية؛ هو ذلك الطوفان الغاشم من صنوف الرذيلة مما يُعدّ نوعًا من ألوان الإرهاب الأخلاقي والسلوكي ضد قيم الأمة ومُثُلِها وفضائلها، عبر القنوات الفضائية الإباحيّة، والشبكات العنكبوتيّة الدَّنِيّة في الفضاءات المفتوحة التي عَجَّت من قَتَامِها السماء، وضَجَّت من قَتَارِها الأرجاء، وتلك الأقراص الحاسُوبِيّة الخفيّة بَوْتَقة الإثم التي يَنْتَهِبُها الكبير والصغير والطَّرِير والغَرِير في غفلةٍ أو استغفال من الآباء والأمهات والمربّين والمربّيات، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[2].
والذي يصهر الفؤاد صهرًا من تلك الأرْجَاس والأدْنَاس أنها تُسَوَّق لنا، ونُرْجَمُ بها من قبل عدوٌ مبين، وخَصِيم وراء الأَكَمَة كَمِين عبر سَمَاسِرة الرّذيلة، وقَرَاصِنة الفِكر والفضيلة، من مُلاّكٍ ومُنْتِجِين ومُسَوِّقين يشوّهون بذلك مِلّة الإسلام وهدي سيد الأنام، {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}[3].
إخوة الإيمان، لقد تبيّن الصبحُ لذي عَيْنين في غير مَوَارَبة أو مَيْن كون أعداء الفضيلة ودَهَاقِنة الإباحية وجَلاوِزَة المتع الجنسيّة الفاجرة مُنْيَةُ أبصارهم ومَعْقِدُ آمالهم المشؤومة تصديرَ الأوبئة التناسلية والرذائل، في طاعون قاصِف يدكُّ مَعَاقِل المسلمين دَكًّا، مَعَاقِلَ الشرف والفضائل، ومغادرةَ صروح العِفّة والنُّبْل والمروءة، وقد عَفَا عليها الزمان، وباتت في خبر كان.
فما أجسادٌ شبه مُعَرَّاة وسُحَنٌ بالأَصْبَاغ مُطَرَّاة وغِيدٌ رَعَابِيب عَارِمة الأنوثة والغَنَج، ترمي إلى إظهار المفاتِن بكل التّكَسُّر والتمَيُّع الهاتِن، إلا مكيدةٌ نَكْرَاء تُزيّن الفواحش، وتنشر الدعارة، وتصوّر الحياة غرائز يجب انتهازها وإشباعها عياذًا بالله. خرج الطبراني وغيره بسند صحيح أن النبي قال: "سيكون آخر أمتي نساء كاسيات عاريات مائلات مُمِيلات على رؤوسهنّ كأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها"[4].
أمة الطُّهر والفضيلة، إن الفضائيات المُتَهَتِّكَة الخليعة وكذا المجلات الفاضحة الرَّقِيعة والمشاهد الدَّاعِرة والأفلام الفاضحة ذات الصور العارية والأغاني الصاخِبَة التي تدعو جِهَارًا إلى الفحشاء مع الرقص المثير بهزّ الأعطاف والأرداف التي لا تزيد الغَرِيزة إلا شُبُوبًا وضِرَامًا؛ كلها تَتَرسَّبُ في أَحْناء المراهقين والمراهقات، وتتخطّفهم نحو البحث عن اللذة الفاتكة من أي سبيل وفَجّ، بل ما هي إلا السُّمُّ الزُّعَاف بذاته يُصَبُّ ناقِعًا في حياة كل زوج وشاب عَزَب؛ لأن نار الشهوة العاصفة المُلتهِبة في الصدور لا تَخْمُدُ بكل مَنْظر جديد من الخلاعة والتفسُّخ، بل تزداد أُوَارًا، وتستشرف في قَرَمٍ مشهدًا آخر أكثر إثارة وفتونًا عن العلاقة المشروعة برباط الزواج المقدس إلى حياة الجنس والنزوات المُتَقَلِّبة دون كابحٍ أو حاجز، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا}[5].
إن تلك الشَّنَائِعَ والفَظَائِع ـ لَعَمْرُ الله ـ للنَّارُ الملتهبة والقنابل الموقوتة والخناجر المسمومة، تذيب قوالب المجتمع، وتُدَمْدِمُ من الأسرة أركانها، ومن الفضيلة شُمّ بُنيانها، {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}[6]. نعم: عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فهل أنتم ـ يا هؤلاء وأولئك ـ منتهون ومُرْعَوون، وإلا فَأُفٍّ لكلّ يدٍ تمتدّ لنشر الرذيلة، ولا قَرَّتْ لأصحابها عيون.
ومن لَفْح ذلك الأسى المُحْرِق قوله عليه الصلاة والسلام: "لم تظهر الفاحشةُ في قوم قَطّ حتى يعلنوا بها إلا تَفَشَّى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا" خرّجه البيهقي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح[7]. وما يومُ تلك الأدواء بسِرّ، فهي كمثل ريحٍ فيها صِرّ.
ومن يتحرّش بالرَّدَى يَكْرَعِ الرَّدَى…زُعَافًا ومن يَسْتَنْبِتِ النارَ يُحرَقِ
ومن عدل الله وحكمته أن أعقب الفضيلة والنَّقَاء الصحةَ والنشاط، وأعقب الفساد والرذيلة الأدواء والانحطاط.
وأمّا من رَقّ دينُه، واضطرب يقينُه فزعم أن التخَلُّع تمدُّن ورُقِيّ، فالذي أتاه الفَدْمُ أمرًا كُبَّارًا فَرِيًّا، لا بدّ من الاسْتِيقَان بلا مِرَاء، لاسيما من المنهزمين البُلَهاء؛ أنّ الفضائل خيرات وبركات، ومن ثَمَّ عزائم وانتصارات، وأنّ الرذائل مصائب وجِراحات، ومن ثَمَّ هزائم وانتكاسات، {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}[8].
معاشر المسلمين، إن القلم المُجَلَّلَ بسواد الألم الرّاعِفَ بدماء اللَّوْعَة والظَّلَم والمآسي التي عصرت القلب بما به ألَمَّ لَكَهَامٌ تِلقاء وصف هذا الحال المرير الهالِع، والمآل الخطير الخالِع، برهان ذلك إحصاءات مذهلة، وحقائق مُروِّعة، وأعداد مُفْجِعة: (260) موقعًا إباحيًّا يتم إنشاؤها يوميًا على ما يُسمّى بشبكة الإنترنت، و(63) من المراهقين والمراهقات يرتادون صفحات الدَّعَارة ولا يدري آباؤهم ماذا يتصفّحون، (83) من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية صور إباحية، يا لله! هولٌ هائل، وبلاءٌ مُدْلَهِمّ نازل، لا تَسَعُه لَهَاتُ القائل! أليس من الأولى، بل من المتعيّن أن تصرف الأموال الطائلة في التسابق الإباحي على ما فيه إنماء المجتمعات ورفع مستوى الشعوب؟! وفي دراسة علمية لبعض الباحثين المتخصّصين عن سبب الإدمان الإباحي يقول: غالبًا ما ينطلق الإدمان بفضول بريء، ثم يتطور إلى إدمان له عواقب وخيمة دينية واجتماعية واقتصادية وأمنية، والله عز وجلّ يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}[9].
إخوة العقيدة، إن الانحرافات الغَرِيزيّة وتجارة الإباحية التي أرخصت قيمة الإنسان، وأهدرت حقوقه ذَكَرًا وأنثى، وعَفَّرَت في الرَّغَام الأعراض، وطمست الحشمة والحياء دون خجل أو اعتراض؛ امتدّت في قذارة ودناءة إلى طهارة المجتمعات بأسرها التي تفتك بها ذئاب الرذيلة بينما هي تُلِّوحُ بالإنسانية والتقدُّميّة والمدنيّة، فيا ويحهم على الوِلا، وكلاّ للإغضاء ولا، {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[10].
أمة الإسلام، وفي عُرَام البثّ المباشر لسَعِير الشهوات القبيحة والحياة المنحرفة الذَّرِيحة التي تُؤجِّجُها في الصدور أوساط إعلامية؛ أنّى للجيل النَّزِيه النَّضِّ والنَّشء العَفِيف الغَضّ سواءٌ البنين والبنات أن تتوفر له بيئة نقية تُهذّب قواه الفكرية، ومداركه العقلية والذهنية، وعواطفه القلبية، وتهفو به إلى المعالي، وتَرْنُو ببصره إلى أسمى المعاني، فلا يجنح إلى امْتِطَاء أفكار منحرفة، ولا تُطَوِّحُ به عن شاطئ السلامة تيارات مُنْجَرِفَة.
ألا فلتشهد الدنيا يمينًا نعلنها صريحة مُدَوِّية دونها المَشْرَفِيّات البَوَاتِر أنه ما أُهدِرت الفضيلة وأدبرت، واستُرخِصت الرذيلة وأقبلت؛ إلا دُمِّرت القيم والأخلاق، وأَلَمَّ بالأمة الذلّ والهوان وحاق، وهل كان من وراء ذلك الفجور إلا انحلال عِرْض، واحتلال أرض، وفساد دين، واختلال أمن، وضَيْعة آمال، وتحطيم مآل، ومَحْو تاريخ، وتشتيت أجيال، وفشوّ زِيْجَات آنِيَّة سِرِّية، مُبتدؤها اللذّة والمُتعة، وخبرها الطلاق والفُرْقة، قد جَفّت منها مُضامين الزواج ومقاصده؟! وهل كان وراء المجاهرة بالفسوق إلا أن تَمَدَّل السفهاءُ الفُجّار بالمرأة، عَبْر مَوَاخِير السِّفاح، في أَفَارِين اللذّة والشهوة والغِوَاية على سمع وبصر من أنصارها المزعومين.
فيا أيها المُنْتَحِبُون على قضايا المرأة وحقوقها، دونكم قضيتَها الكبرى، انتَشِلوها بضاعة ساقطة من أوكار قنوات الزنا ومراقص الخنا، أنقذوها ينبوعًا للحنان ومدرسة للأجيال ومَحْضِنًا زكيًا للرجال، وانزعوا عن بُنَيّات الطريق وأُقْصُوصَتِها والأطروحات المثيرة التي تَتَلَمَّظُون بها حينًا بعد حين إن كنتم صادقين، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[11].
وقد يَتَشَبّث بعضُهم بأمور قد تكون في الأصل مشروعة، لكنّها تؤول إلى أمور ممنوعة، ومن القواعد المقرّرة في الشريعة: أنّ الأمر المشروع إذا أدّى إلى الممنوع فهو ممنوع، كما في قاعدة اعتبار المآلات التي نص عليها جمع من أهل العلم المحقّقين كالشاطبي وشيخ الإسلام رحمهما الله.
فيا إخوة الإيمان، ويا أيها المسؤولون مَعَاقِد الآمال، ويا أيها المصلحون حُمَاة الذِّمَار، هل تفلح أمةٌ تَبَطَّحَت أمام مُستنقعات الفَجَرَات، وأدمنت العَبَّ من قنوات الشهوات؟! لاهَ الله، رَبَّاه رَبَّاه، واخَجَلَتَاه؛ مما أصابنا من ضُمُور الغَيْرة واخَجَلَتاه!
ألا فَلْتَنْثَنُوا ـ يا رعاكم الله ـ في هِمّةٍ بَدْرِيّةٍ كاسِحَة، وَحَمِيّة إسلامية مَاسِحَة، دون تلك الخَلاعات والدِّنايات صَفًّا، وجمعًا مُلْتَفًّا؛ لِدَحْر تلك الويلات ساعدًا وكَفًّا، ودفعًا لأعاصير السُّفُور وكَفًّا.
هِمَمٌ غُرٌّ تَعَافُ الدَّنَسَا…وذِمَمٌ طُهْرٌ تُجَافِي النَّجَسَا
واعلموا أنه لا ارتفاع لرايات المؤمنين، ولا تَألّق لجبين الصالحين المصلحين، إلا بمقدار انتصارهم على شهواتهم، وامتلاكهم أَزِمَّة رغباتهم. وإن المسلم منيعُ حِجَاب القُبَّة الذي يغار لعينيه أن تسترقّهما وَهَنَانَةٌ حَسَّانة، فَيَكْْرَعُ من الإثم والندامة صَرَى، وتلك عاقبة التمرُّغ بأوحال الرذائل.
فيا هذا وذاك،
أتفرح بارتكابك للمعاصي…وتنسى يوم يُؤخذ بالنَّواصِي
فلا تَرْضَ المعايِبَ فهي عارٌ…عظيم يورِث الإنسانَ مَقْتًا
وتَهْوي بالوجيه من الثُّرَيّا… وتُبْدِلُه مَكان الفوق تَحْتَا
والدعوة الحرَّا موجّهة إلى الآباء والأمهات، وأرباب الفكر ورجال الإعلام، والمعنيين بقضايا التربية؛ أن يسهموا في انتشال الأمة من التردّي في مستنقعات الرذيلة، واضعين الأكفّ بالأكفّ لإيجاد البدائل المشروعة، والحلول العاجلة التي تُقَلِّم أظفار الإباحية، وتُجفّف منابع الرذيلة، مما يحقّق الطموحات والآمال، ويسير بالمجتمع نحو التوازن والاعتدال، ويقصد إلى جلب الخيرات والمصالح ودرء المفاسد والقبائح، وكان الله في عون العاملين المخلصين لدينهم وأمّتهم ومجتمعاتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[12].
أجارنا الله وإياكم من مُضِلاّت الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وحفظنا جميعًا من الرذائل والدنايا، وعصمنا من البلايا والرزايا، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، سبحانك الله وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك، ونتوب إليك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المُتفَضِّل بالإنعام وسابِغ المِنَن، حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستعصم بها من مَهَاوِي الفتن، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله خير من دعا إلى أقوم الهدى وأزكى السُّنن، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه المُقْتَفِين لخير السَّنَن، ومن تَرَسَّم هداهم ما غَرَّدَتْ وَرْقَاءُ بِفَنَن.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله على الدّوام وأطيعوه، وراقبوه في الخلوة والجَلْوة ولا تعصوه.
أيها الإخوة في الله، ولما كانت الإجازة الصيفية مَظِنَّة الفراغ ومَوْئل الأفراح والمناسبات فإن التنبيه يوجّه إلى أهل الإيمان ـ سيّما الأخوات المؤمنات ـ بإعلاء راية الفضيلة، وذلك بالتمسّك بالحجاب والعفاف والاحتشام، وعدم التشبّه بأزياء غير المسلمات، والانسياق المذموم واللهَّثِ المَحْمُوم خلف الموضات والتّقْلِيعات التغريبية المستوردة، والحذر من التبرّج والسفور والاختلاط المحرّم، وما يصاحب ذلك من آلات اللهو والمعازف، إذ لا يُعْقِب ذلك إلا المهالكَ، والشرورَ الحَوَالِك، وإذا كانت بعض الأحوال من هذا السِّفَال أنّى تتنَزّل رحمات الله وبركاته؟! أبانتهاك حدوده وحرماته؟! فلا خير في الأفراح إذا أدّت إلى أَتْراح، أين الغيرة على الأعراض والمحارم؟! وأين الحفاظ على الشرف والمكارم؟! عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "إن الله تعالى يغار، وغَيْرة الله أن يأتي المرء ما حرّم الله عليه" رواه البخاري[13].
أحبّتي في الله، ومن مظاهر الرذيلة التي كَلَّت من سُوئها نَوَاظِر ذوي الشرف كَلاّ، وتلَّ الطُّهرُ والخجلُ للجَبِين تَلاّ؛ ما يُعرض بجسَارَة وصَفَاقة في بعض الأسواق ووسائل الإعلام والقنوات الفضائية من الأزياء المحرّمة التي تُشِفّ، وللسَّوآت تُبَيِّنُ وتصفّ، فأي داء حَطّم الحياء وأي بلاء؟! هل تبكي الفضيلة من الرذيلة؟! هل تنتحِبُ الفضيلة بقولها على الأعراض والعفاف الرِّثاء، وسَطّروا على تلك الأطلال عبارات العَزَاء؟! يُضاف إلى ذلك ظاهرة حديثة مُنْكَرة وجريمة شنيعة مُدَمّرة تَسلَّلت لِوَاذًا لمجتمع الحياء والحشمة والطُّهر المكَين ألا وهي ظاهرة تصوير النساء المؤمنات الغافلات والفتيات الشريفات العفيفات عبر الهواتف المحمولة في الأفراح والمناسبات، ورفع تلك الصور على رِماح أغراض دَنِيئة مما عظمت به المصيبة على أهل الغَيْرة والحياء، فكم كانت سببًا في دمار البيوت وتفكّك الأسر وهتك الأعراض ونشر الأحقاد والضغائن! يأبى، ثم يأبى أهل الشرف والعفّة والفضيلة أن تُهدَر أعراضهم، وتُنْتَهك محارمهم بتصرُّف غِرٍّ مَأفُون قليل الذوق عديم المروءة لا يبالي بحرمات المسلمين وصون أعراضهم. ولكن نحمد الله، ونثني عليه أن أقام الصُّدُقَ والغُيُر من أهل الغَضْبة المُضَرِيّة لتلك الدسائس بكل مرصد، وفي صدارتهم رجال الحسبة الميامين، لازالوا بالتوفيق مَكْلوئين.
فيا من عزمتم على الأفراح، احذروا التلطّخ بهذه الأَتْراح، والتلبّس بهذه المنكرات والآثام، واسعوا جميعًا إلى مرضاة الملك العلاّم. فكيف ـ يا أمة الطُّهر والنّقاء ـ بما يُجاهَرُ به كثيرًا من تفسّخ وميوعة مرذولة، فإلى الله نَجْأر بشكوانا، فهو العالم بسرنا ونجوانا.
وها هو الغيور يصطرخ في وَجْدٍ لَهِيف لكل قلب شَفِيف: اللهَ اللهَ في مكنونات شرفكم، غارُوا عليها واحفظوها، وفي أعراضكم حَذَارِ حَذَارِ أن تهتكوها، ولا يستخِفَنّكم الذين أُشْرِبت قلوبهم التَّفَرْنُجَ والاستغراب، وانساقوا وراء شعارات العولمة والانفتاح والخراب.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وسيروا على دروب الفضيلة، وصونوها أن يمسّها يراعُ طائش، أو يَثْلِمَها تصرُّف دَعِيّ فاحش، واللهَ المسؤول أن يحفظنا والمسلمين من أدران المعاصي والرذائل، وأن يُزيّننا بحُلى الإيمان والفضائل، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول.
هذا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأنام، النبي المصطفى من ولد عدنان، الذي أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فقد أمركم بذلك المولى الرحيم الرحمن، فقال تعالى قولاً كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[14].
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد…