كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالصلاة هي أشرف عبادات البدن، وهي آخر ما وصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان كلما أفاق من مرض موته -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الصَّلاةَ الصَّلاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصحه الألباني).
ومهما تأملت في الصلاة وجدت أن معانيها ولطائفها لا تكاد تنحصر، ومنها: أن الصلاة صلة مستمرة بين العبد وربه.
ومنها: أن الصلاة صلة مستمرة بين العبد وبين القرآن؛ حيث لا تجب قراءة القرآن إلا في الصلاة؛ لوجوب قراءة الفاتحة "أم الكتاب" فيها، فضلاً أن قراءة القرآن تزداد حلاوة في قلب صاحبها إذا كانت القراءة في صلاة من إمام أو من مأموم، وهذا صحابي جليل يسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بالطور يمد بها صوته حتى كاد ينخلع قلبه، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ الَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى الَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ) قَالَ: "كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ" (رواه البخاري).
ومِن حكم الصلاة ولطائفها: استقبال القبلة الواحدة، وكون هذه القبلة "كعبة" لها أربعة أوجه بحيث يتجه المسلمون في كل بلد شطر الوجه الذي يواجههم من الكعبة، فكأنما صفوف الصلاة في العالم كله صورة مكبرة من الصفوف الدائرية في الحرم لمن يشاهد الكعبة!
وهي قبلة توافق السن الكونية في دوران الأجسام في مدارات دائرية حول مركز، ولا يكاد في الكون ارتباط بين أجسام مختلفة بغير هذه الصورة، وهو ما يميز تلك القبلة عن التوجه قِبَل جهات ما: كالشرق عند المجوس، وعنهم أخذه النصارى.
ناهيك عما قدره الله ل"مكة" منذ القدم أن تكون أمًا للقرى، فكانت بركة بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- مركزًا للهدى والنور، وكانت قَبل هذا يوم خلق الله الأرض مركزًا جغرافيًا لليابسة من الأرض(1).
فالقبلة الواحدة هي أحد أهم مقومات الأمة الواحدة، عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ الَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلا تُخْفِرُوا الَّهَ فِي ذِمَّتِهِ) (رواه البخاري)، وفي رواية: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا الَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الَّهِ فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا الَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الَّهِ وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا وَصَلَّوْا صَلاتَنَا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلا بِحَقِّهَا لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصحه الألباني). ومنه عبَّر كثير من السلف عن الأمة بتعبير أهل القبلة.
إذن فهاتان نكتتان عظيمتان في الصلاة: الصلة المستمرة بالقرآن أو على الأقل بالسورة الجامعة لمعانيه "الفاتحة"، والصلة المستمرة برمز وحدة الأمة واجتماعها.
وهاتان الخاصيتان متى تحققتا في الأمة: الصلة بالقرآن، والوحدة الإسلامية الوجدانية؛ فلا يمكن لقوة أن تقف أمامها، ولو استطاعت قوة أن تقف أمام أمة الإسلام حال تمسكها بمقوماتها ومِن أبرزها هذين المقومين لاستطاعت جيوش فارس والروم أن توقف زحف الصحابة -رضي الله عنهم-، وفارس والروم آنذاك هما قطبي النظام العالمي، وقد خرج عليهم المسلمون من جزيرة العرب بعدة لا تقارن بعدتهم، وبزاد إذا ما قورن بزادهم لكان إلى فضل الزاد أقرب منه إلى الزاد، ولكنهم واجهوهم بقلوب دائمة الصلة بربها في الصلاة، وفي غيرها..
كلام الله معهم في حلهم وترحالهم يداوي أمراضهم، ويقوي قلوبهم، وإذا ما نزلت بهم نازلة فبحثوا عن حكم القرآن في أمثالها وجدوه وكأنه لم ينزل إلا لنازلتهم تلك(2)!
وهم فوق هذا يهرعون إلى صلاتهم يغتسلون بها من همومهم، ويقون بها عزم قلوبهم؛ متأسين بفعل بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- الذي كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
والقرآن والصلاة والقبلة توحِّد مشاعرهم تحت راية: "لا إله إلا الله"، ومِن الملفت للنظر حقًا أن يعي الأعداء هذه الحقائق، ولا ندري: هل هذا نابع من وضوحها وظهورها أم نابع من فرط حرص الغرب منذ ظهرت حركة الاستشراق على الدراسة المكانية لكل ما هو إسلامي؟
ولد الاستشراق ليمهد لغزو ثقافي لبلاد المسلمين، وجاءت طلائعهم الأولى في الهند، وجزيرة العرب، ومصر، ولكنهم سرعان ما استغاثوا بالساسة الأوروبين أن الأمر لن يُحل إلا بتدخل عسكري، وأن دين الأمة الإسلامية أثبت من أن يزعزعه سفسطة مبشر، أو فلسفة مستشرق.
فجاء الاحتلال الذي يسمونه زورًا بالاستعمار؛ ليفاجأ بأنه ألقى بجميع ما في جعبته على أمة كانوا يرونها في حالة احتضار، ومع هذا فهي صامدة أمام قصفهم العسكري، صامدة أمام غزواتهم الفكرية، وبحث هؤلاء عن تلك الصخرات الدفاعية التي تتكسر عليها هجماتهم؛ فاتفقت كلمة معظمهم على أنها: "القرآن" و"الكعبة"!
يقول "وليم جيفورد" مبعوث "نابليون" للتنصير في جزيرة العرب وما حولها: "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيدًا عن محمد وكتابه".
وبعده بعشرات السنين جاء الورد "كرومر" إلى مصر ليردد نفس الكلام تقريبًا، حيث قال: "جئت لأمحو ثلاثًا: القرآن، والكعبة، والأزهر"! وغني عن الذكر أن الأزهر آنذاك كان الجامعة الأكثر عناية بالقرآن في العالم الإسلامي.
إذن لقد رأى الأعداء في القرآن والكعبة المصادر الأولى للهوية الإسلامية التي ما جاءوا إلا لطمسها؛ فزالوا وبقي القرآن والكعبة -بحمد الله تعالى-، وصار من أصدق من ينطبق عليه البيت القائل:
كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
بل إن مِن مكر الله بهم أن جعل خريجي الجامعات التي أعدت لإخراج جيل يؤمن بالمبادئ الغربية ويكفر بدينه هم مَن يحمل هم الإسلام ويحفظ القرآن، ويحج إلى بيت الله الحرام!
وبعد عشرات السنين من الجهود المضنية أدرك الاستعمار أنه جاء في التوقيت الخاطئ، وأن عليه أن يمهد الأرض بالحرب على القرآن والكعبة، والقضاء عليهما قبل أن يأتي، وربما لن يكون ساعتها في حاجة إلى أن يأتي.
واستمر الطابور الخامس يحاربون القرآن بإثارة الشبهات حوله؛ لأن تفجير الأوضاع من الداخل هي الطريق الأمثل لهذه، وربما تخلى بعض الكفار عن حذره أو غلبته حرقته على القرآن، أو تشوفه لتحقيق حلم الانتصار عليه الذي طال انتظاره، وسيطول أكثر وأكثر إلى ما لا نهاية -بإذن الله-؛ فيدخل على خط الهجوم إلا أنهم سرعان ما يعودون أدراجهم تاركين المهمة لأذنابهم.
وبينما يتحاشى هؤلاء الأذناب الهجوم الصريح على الكعبة، بل يتشدق الكثير منهم بحرصه على الحج والعمرة إلا أنه لا يمنع من وجود بعض المتهورين أو المتهورات ممن يهاجمون تعظيم الكعبة هجومًا صريحًا.
بيد أن العالمانين وجدوا في مسألة زيادة الطلب على النقد الأجنبي في موسم الحج، والمواسم التي تكثر فيها العمرة: ك"رمضان" ذريعة اقتصادية للمطالبة للحد من الحج والعمرة!
بيد أن هذا المبر ليس كافيًا لمنع الناس الذين تحن قلوبهم إلى البيت الحرام مِن المسارعة إلى تلبية نداء الله بإتيانه، ومِن ثمَّ استخرج هؤلاء فتاوى من بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة مِن أن الصدقة بقيمة الحج والعمرة أفضل من تكرارها! بل وزاد بعضهم مِن أن: الصدقة بقيمة الأضحية أفضل من فعلها!
ويكفي أن نعرف لسقوط هذه الدعاوى أن الدراهم والدنانير كانت موجودة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا بالغ في الحض على الأضحية حتى قال: (مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا) (رواه أحمد وابن ماجه والحاكم، وصحه الألباني)؛ مما يدل على أنها شعيرة مقصودة لذاتها.
ومِن جملة مصالحها: إطعام الفقراء الحم، وليس هذا هو كل مقاصدها، وكذلك: رغب النبي -صلى الله عليه وسلم- في المتابعة بين الحج والعمرة، ولم ينصح بالصدقة بدلاً عن التكرار مع وجود الفقراء في عصره -صلى الله عليه وسلم-، بل مع شدة حاجتهم حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الله -تعالى- يَقُولُ: إنّ عَبْداً أصْحَحْتُ لهُ جِسْمَهُ وَوَسَّعْت علَيْهِ في مَعيشَتِه تَمْضِي عليْهِ خَمْسَةُ أعْوَامٍ لا يَفِدُ إلَيَّ لمَحْرُوم) (رواه ابن حبان، وصحه الألباني).
بل بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن الحج والعمرة ينفيان الفقر كما ينفيان الذنوب، مما يدل على أن النفقة فيهما مخلفة على المنفق؛ مما يتيح له المزيد من الصدقة.
بل إن الحج من أسباب الرواج الاقتصادي وليس العكس، وأما كون هذا الرواج نتيجة التقسيم السياسي الجائر لبلاد المسلمين يعود على بلد على حساب اقتصاد بلد آخر، فوهم أراد أصحابه أن يصدوا الناس عن البيت؛ وإلا فالعاملين في مجال الحج والعمرة في الداخل كثيرون -والحمد لله-.
بل بالنسبة لمصر خاصة فإن كثيرًا من العاملين في السعودية في هذا المجال وغيره من المجالات التي تزدهر في موسم الحج من المصرين الذين يتقاضون رواتبهم بتلك العملات الأجنبية، ثم تعود مرة ثانية على هيئة تحويلات.
فالأمر من كل الجهات يؤدي إلى طريق واحد.. طريق تلبية نداء الخليلين: "إبراهيم" و"محمد" -صلى الله عليهما وسلم-.
طريق الحفاظ على وحدة الأمة والارتباط برمز وحدتها.
طريق إغاظة الكافرين والمنافقين.. وإعلامهم أن القرآن باق ليس في المصاحف وحسب، بل وفي الصدور.
وأن الكعبة باقية ليس بنائها فحسب، بل بمكانتها في قلوب المسلمين.
وأن صلة المسلم بقرآنه وكعبته لا تنقطع أبدًا، بل تت في الصلاة بفرضها ونفلها.
إلا أنه من السن الشرعية المرعية وجود مواسم للخير تمثل محطات للتزود بالإيمان والتقوى، واستحضار لمعان فاضلة، وموسم الحج موسم يزداد فيه نصيب الأمة من الارتباط بقبلتهم بين حاج بدنه وحاج بقلبه.
وشهر رمضان موسم يزداد فيه ارتباط المؤمنين بقرآنهم قراءة وقيامًا وتدبرًا، بل ويزداد فيه الارتباط بالكعبة أيضًا فهو موسم فاضل تزداد فيه العمرة ثوابًا، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي) (متفق عليه).
ومِن محاسن التشريع: أن هذين الموسمين من مواسم الطاعة ينتهيان بعيدي المسلمين السنوين اللذين لا يعرف المسلمون غيرهما.
نسال الله أن يحفظ الإسلام وأهله، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يجعلنا من أهل القرآن، وأن يزيد بيته الحرام تعظيمًا وتشريفًا، وأن يعيد الأعياد على المسلمين في عز ونصر وتمكين، وعمل بالدين القويم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) يشغل المحيط الهادي نصف الكرة الأرضية تقريبًا، ومِن ثمَّ فرغم كروية الكرة الأرضية إلا أن الجغرافين يجعلون لها باعتبار اليابسة شرقًا وغربًا؛ فتمتد اليابسة التي تخللها بعض المياه من السواحل الشرقية لقارة آسيا شرقًا إلى السواحل الغربية للأمريكتن غربًا، كما أن لها شمال وجنوب عند القطبين، وعندما حاول بعض الجغرافين تمرير دائرة بهذه الأطراف وجد أن مركزها هو مكة!
كما وجد أيضًا أن مكة هي المركز المغناطيسي للأرض، فعندها تتجمع الموجات المغناطيسية المسببة لقوى التجاذب مع سائر الكون.
ونقل الدكتور "زغلول النجار" عن بعض الجغرافين قوله: إنه لو أعيد تقسيم خطوط الطول بجعل خط الطول المار بمكة هو خط الطول صفر سوف يلغي الانحراف الموجود بين الشمال المغناطيسي والشمال الجغرافي.
(2) ومِن ثمَّ تكرر مِن السلف قولهم: إن آية كذا.. نزلت في واقعة كذا.. يعنون أنها منطبقة عليها تمام الانطباق، لا أن الواقعة كانت.. فنزل القرآن بيانها.