بعض الناس ينكر ما اعتاده المسلمون من كونهم يمسحون وجوههم بأيديهم بعد الفراغ من الدعاء، فهل يشرع مسح الوجه باليدين بعد الدعاء؟
وهل يختلف الحال في الدعاء داخل الصلاة عن الدعاء خارجها؟
إن الدعاء مِن أعظم ما يزِيد الإيمان، ويُقوِّي حلاوته في القلب، وهو مِن أفضل العبادات؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ}غافر.
وقد أمر الله تعالى بالدعاء وحثَّ عليه؛ فقال تعالى: {وَاسْأَلُوا ٱللهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء:32]، وقال تعالى {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ} [غافر:14]، وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} إلى قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:55-56]، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم الدعاء والسؤال لله عز وجل، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيه.
والله عز وجل لا يَرُدّ عبده إذا رفع العبد يديه بِذُلٍّ وإلحاح وتضرع دون أن يقضي له حاجته، ولقد بارك الله لرجل في حاجة أكثر الدعاء فيها، أعطيها أو منعها؛ يقول النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلهَا.
وقد نص الأئمة والفقهاء على استحباب مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء؛ قيل: وكأن المناسبة أنه تعالى لما كان لا يردهما صِفْرًا فكأن الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم.
جاء في حاشية الشرنبلالي على درر الحكام من كتب الحنفية في باب "صفة الصلاة" في ذكر الأدعية والأوراد التي وردت السنة بها بعد الصلاة لكل مصلٍّ، ويستحب للمصلي الإتيان بها: "ثم يختم بقوله تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ} الآية؛ لقول عليٍّ رضي الله عنه: "مَن أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام مِن مجلسه {سُبْحَانَ رَبِّكَ} الآية"، ويمسح يديه ووجهه في آخره؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا دَعَوتَ اللهَ فَادْعُ بِبَاطِنِ كَفَّيْكَ وَلَا تَدْعُ بِظُهُورِهِمَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ} رواه ابن ماجه كما في البرهان.
وقال النفراوي في الفواكه الدواني من كتب المالكية: "ويُسْتَحَب أن يَمْسَحَ وجهه بيديه عقبه – أي: الدعاء- كما كان يفعله عليه الصلاة والسلام".
وقد ذكر الإمام النووي من الشافعية من جملة آداب الدعاء مسح الوجه بعد الدعاء في باب الأذكار المستحبة في كتابه المجموع فقال: "ومن آداب الدعاء كونه في الأوقات والأماكن والأحوال الشريفة واستقبال القبلة ورفع يديه ومسح وجهه بعد فراغه وخفض الصوت بين الجهر والمخافتة"
وجَزَمَ الإمام النووي في التحقيق أنه مندوب كما نقله عنه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، والشيخ الخطيب الشربيني .
وقال العلامة البهوتي من الحنابلة: "(ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيهِ هُنَا) أي: عقب القنوت (وَخَارَجَ الصَّلَاةِ) إِذَا دَعَا.
والدليل على ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح وجهه بيديه بعد الدعاء؛ فعن عمر رضي الله تعالى عنه قال: {كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَدَّ يَدَيهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ.
قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: "أخرجه الترمذي، له شواهد منها حديث ابن عباس عند أبي داود, وغيره, ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن"
قال الصنعاني في سبل السلام: "فيه دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَسْتُرُوا الجُدُرَ، مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ، سَلُوا اللهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا، فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ".
قال أبو داود: "رُوِي هذا الحديث من غير وجه عن محمَّد بن كعب كلها واهية، وهذا الطريق أمثلها، وهو ضعيف أيضًا" .
ونَقَلَ السيوطيُّ عن شيخ الإسلام أبي الفضل ابن حجر في أماليه قوله في الحديث: هذا حديث حسن .
وعن يزيد بن سعيد بن ثمامة أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيهِ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيهِ.
ومما روي عن الصحابة رضي الله عنهم في مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد في باب "رفع الأيدي في الدعاء" من فعل ابن عمر وابن الزبير في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء فقال: " حدَّثنا إبرَاهيمُ بن المنذِر قال حدَّثنا محمَّدُ بن فُلَيح قال أخبرني أبِى عن أبى نُعَيم وهو وَهْب قال : "رَأَيتُ ابنَ عُمَرَ وابنَ الزُّبَيرِ يَدْعُوانِ يُدِيرَانِ بِالرَّاحَتَينِ عَلَى الوَجْهِ".
ومحمَّد بن فليح وأبوه فليح بن سليمان قد أخرج لهما البخاري في صحيحه واحتج بهما.
وقد نقل السيوطي في "فض الوعاء" عن الحسن البصري فعله لمسح الوجه باليدين بعد الدعاء: "قال الفريابي: حدثنا إسحق بن راهويه أخبرنا المعتمر بن سليمان قال: رأيت أبا كعب -صاحب الحرير -يدعو رافعا يديه، فإذا فرغ مسح بهما وجهه. فقلت له: مَن رأيتَيفعل هذا؟ قال: الحسن بن أبي الحسن. إسناده حسن".
أما ما نقل عن الإمام العز بن عبد السلام بأنه لا يفعل المسح للوجه بعد الدعاء إلا الجاهل، فقد أجاب الزركشي في كتابه " الأزهية في الأدعية " عن ذلك فقال: "وأما قول العز في فتاويه الموصلية: مسح الوجه باليد بدعة في الدعاء لا يفعله إلا جاهل, فمحمول على أنه لم يطلع على هذه الأحاديث وهي وإن كانت أسانيدها لينة لكنها تقوَّى باجتماع طرقها".
أما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء بعد الفراغ من القنوت في الصلاة فهو وجه عند الشافعية قال به القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو محمَّد الجويني، وابن الصبَّاغ، والمُتولِّي، والغزالي، والعمراني صاحب البيان ، وهو المعتمد من مذهب الإمام أحمد كما سبق نقله عن العلامة البهوتي.
وعليه فما يصدر من بعض المتسرعين في الإنكار على من يمسح وجهه بعد الدعاء من الناس لا وجه له؛ ومن المقرر شرعًا أنه إنما يُنكر المتفق عليه ولا يُنكر المختلف فيه، ومَن أبى ذلك تقليدًا لمن أنكر ذلك فلا حرج عليه بشرط عدم الإنكار على مَن فعلها؛ لأنه لا إنكار في مسائل الخلاف. والله أعلم.