من يتعرض للمشيخة قبل النضوج في الأحوال ينكشف أمره في الحال كيف؟ يبدأ يطلب من هذا ويسأل من هذا ويحتاج من آخر ويشتكي من فلان ويقول فلان لم يأتِ بشيء وهكذا ، لكن الذي من عالم المعنويات ، مثل سيدي أبو الحسن الشاذلي عندما قال له ربنا :
" انزل اهدِ الناس إلينا "
قال : يا رب تنزلني إلى خلقك ، هذا يطعمني ، وهذا يردني ، قال: لا ، أنفق، إن شئت من الجيب وإن شئت من الغيب أي معك التفويض أنفق ولا تخـشَ إن شئت من الجيب وإن شئت من الغيب فلا يخاف بعد ذلك لأنه قد غطَّاه الله جلَّ في علاه
إذاً خلاصة الكلام أن الإنسانَ أعطاه الله من القدرات الروحانية والخصائص الربانية ما تعيا وتعجز عنه كل ألسنة الخلق ولو اجتمعوا على أن يبينوا بعض المزية التي تفضل عليه بها رب البرية عز وجل ، لا يستطيع أحد أن يبين ما للإنسان فهو الذي ينزل نفسه عن مقامه العالي الذي جعله الله فيه
نحن جميعاً _ الآن _ كلنا نتوجه إلى السماء ، وأهل السماء جميعاً يتوجهون إلى عالم الأرض ؛ ليستشفعوا بالصالحين من أهل الأرض إلى الله ، والإمام أبو العزائم يخاطب الأرض ، ويقول لها ذلك : وي عجيبٌ صارت الأرض سما ، والسما قد سُخّرت بالمجمل فالسماء مسخرة لنا ، لكن " الأرض سما " لمن؟ لأهل السماء
كما نرى نحن النجوم ، فأهل الملكوت الأعلى يرون البدور والشموس النورانية والروحانية التي أوجدها في عالم الأرض الحي القيوم فهم النجوم التي يستضيئوا بها
وي عجيب صارت الأرض سما…والسما قد سُخّرت بالمجمل
أيها الأرض بمن نلت العــلا…بالحبيب محمد وبآله بالأمثل
{تجهلهم بقاع الأرض وتعرفهم بقاع السماء} الناس هنا لا يعرفونهم _ لأن الناس لا يعرفون إلا أهل المادة _ لكن من يعرفهم؟ هم أهل السماء وهم الذين يزورونهم ويؤنسونهم : {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} فصلت30
بالله عليكم من تتنزل عليه الملائكة يحتاج من فلان بك؟ أو فلان باشا؟ أن يذهب ليزوره؟ ماذا يفعل به؟ إن الملائكة تنزل عليه لتزوره باستمرار تتنزل باستمرار {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فصلت30
ماذا يريد بعد ذلك؟ فعند نزول الملائكة تعرض عليهم الخدمات والطلبات وهم ليست لديهم طلبات إلا رضاه ، فما الذي في الدنيا يستحق أن يبحث عنه الإنسان؟ ليس فيها إلا رضاء الله ، فالعُبّاد يذمون الدنيا لكن الإمام أبو العزائم رضي الله عنه وأرضاه قد مدحها :
آه يا دار الفنا فيك البقــا … فيك رضا الله وفوز باللقا
فيك منهاج الحبيب المصطفى … سلم للوصل سهل المرتقى
من سيخرج من الدنيا ولم يأخذ منها ما ذكرناه؟ ماذا يكون قد أخذ؟ لأنها في رضا الله والفوز بلقاء الله ، ويسأل البعض الإمام علياً : هل تمنيت أن تكون قد مت صغيراً ؟ قال: لا ، قيل: ولم؟ قال: لأني عشت حتى عرفتُ ربي عز وجل
فأنا قد جئت في بعثة من عالم الملكـوت الأعلى من الجنان وأنزلت إلى الأرض لكي أعرف الله وإذا خرجت من الدنيا ولم أعرف الله فماذا أكون قد عرفت فيها؟ عرفت فلان وفلان وعلان ماذا أفعل بهؤلاء؟
عرفت أخبار اليهود وغيرهم ماذا أفعل بهم هناك؟ أريد أخبار المقربين والمرسلين وأخبار الصالحين والمتقين فهي التي ستنفعني هناك فالذي يكرمه الله من يحرص على هذا المنهاج
فيك رضا الله وفوز باللقـا…
فيك منهاج الحبيب المصطفى…سلم الوصل سهل المرتقى
لكن بعد خروجي من هنا ماذا أعرف؟ وماذا أعمل؟ لا شيء لأني قد انتهت مدتي فالدنيا كسوق وقد غُلِّقَتْ أبوابه كيف سأشتري؟ فإذا لم أستغل عمري في طاعة ، فسأظل طول مرحلة الدنيا كمن في السوق يبحث لكي يشتري؟ إلى أن انتهى اليوم وغلقت الحوانيت متى يشتري؟ أيشتري غداً؟ لا يوجد "غدا"
لكن المؤمن ليس لديه وقتٌ ليضيِّعه هنا وهناك فوقته يغتنمه في طاعة الله والفوز برضاه جلَّ في علاه لكي يحظى بما أعده الله لعباده الصالحين والمفلحين وأوليائه المتقين – الذين نسأل الله أن نكون منهم في كل وقت وحين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين