وتوارت ضحية انفصال الأبوين
قرابة ربع القرن أمضيتها في رحاب التدريس وفي ردهات الحقل التربوي , وبين فصول المدارس , شكلت هذه السنوات , حصيلة من الذكريات القيمة , التي تملأ جوف الذاكرة , وتثقل حقائب العمر , ومخزونا من العبر والدروس والذكريات والمواقف التي لاتنسى مهما تراكمت عليها غبار السنين , وتعاقبت عليها الليالي والأيام , لأنها جزء من التكوين الذاتي لمن يعيشها أو يعايشها , وكنت على فصولها شاهدة وموثقة وعلى دراية بكل يوم مضى منها
مغربا والأجواء مشجعة ومحفزة والطالبات
على قدر كبير من الاحترام والتقدير والرغبة
في التعليم , كانت اياما جميلة مرحة , كلما أشرق
صبح جديد , تداعى الجميع إلى المدارس معلمين
ومعلمات طلابا وطالبات , بكل فرح وسرور ومرح
على الرغم من أن الوسائل العليمية والقنية
وغيرها لم تكن متوفرة بهذا المستوى , ولم تكن
في مناول الجميع , لكن الروح التي كانت سائدة
هي الأهم وهي التي تقود الجهود والمبادرات
والإخلاص في العمل وحب الغير واحترام الكبير
والرحمة بالصغير فهذه الروح خلقت أجواء في كل
مدرسة وكأنها أجواء الأسرة الواحدة
روح الفريق
كل المدراس كانت هكذا , أو قل غالبيها , ولكن
أول مدرسة عملت بها كانت مميزة أكثر من
غيرها , لأنها ضمت كوكبة من المعلمات يندر
اجتماعهن في مكان واحد , ويجمعن في صفاتهن
حسن التعامل , والتميز في الأداء , والإخلاص في
العمل , والتعاون فيما بينهن , وحب الخير والعمل
الصالح ( خصوصا الدعوي ) وهذه الصفات لم
ضع هباء منثورا بل انعكست على الطالبات أدبا
واحتراما وتقديرا , وتميزا في المستوى التعليمي
والتحصيل العلمي , فضلا عن الأخلاق والسلوك
وحسن التعامل والمعاملة في الوسط المدرسي .
روح الفريق الواحد التي اتسمت بها المدرسة ,
والظهر الفريد الذي ميزها عن غيرها كثيرا , لم
يأت من فراغ , بل كان نتيجة البيوت التي قدمت
منها المعلمات وكونهن قدوة حسنة لطالباتهن
وكذلك ماتسمت به ادراة المدرسة من الوعي
والعقل والحكمة , كان يشجع ويحفز وجود
هذه الروح وتنميتها من خلال هذه الوضعية
الخاصة , استطعنا أن نوجد تجانسا بين المعلمات
والطالبات فضلا عن الثقة التي تعززها الإدارة ,
والتعاون المثمر الذي تتسم به العلاقة معها , مما
كان له الأثر الواضح في وجود روح أخوية بين
الإداريات والمعلمات وغيرهن , وكذلك روح الأمومة
بين الطالبات والمعلمات , ماانعكس ايجابيا على
صعيد المستوى التعليمي , وخلو المدرسة من
المشاكل " إلا مالايذكر "
أزمة في البيت
في هذه الأجواء كانت هناك تلميذه تدعى ضحى
متميزة محبوبة من كل المعلمات والزميلات
وكذلك الإدارة , وكانت تحصد غالبية الجوائز ,
خصوصا في التفوق العلمي والسلوك , والطالبة
المثالية , وكانت تجد في أحصان المدرسة مرتعا
لها , وجوا مرحا سعيدا وراحة نفسية تجعلها
تستوعب كل الدروس , وتتعامل مع زميلاتها بكل
الحب والإحترام ولا تود مفارقتهن أبدا , وعند نهاية
اليوم الدارسي ودعهن على مضض , ويبدوا انها
كانت تعيش أجواء غير مستقرة في البيت , ربما
كانت تلاحظ بعض المشاكسات بين والديها , أو قد
تكون لمست عدم تعاونهما , أو أن العلاقة بينهما
ليست على مايرام .
كان البيت يعيش أزمة صامتة , لكن صوتها بدأ يعلو
بالتدرج , وكانت هذه الصغيرة البريئة تكتم ذلك
في العقل الباطن وتحاول ان تتناساها أثناء اليوم
الداراسي , لكنه كان يطفو إلى السطح ربما في
السماء أو الأحلام , لكنها لم تتأثر بذلك على
المستوى التعليمي بشكل مباشر , ولكن السيناريو
في البيت لم يتوقف أبدا , حيث ساءت الأوضاع
وأخذت تتجه نحو الهاوية .
تفاقمت الأوضاع
لاحظت المعلمات أن مستوى ضحى أخذ
يتدهور بشكل مفاجئ , وأنها صارت تنشغل أثناء
الدروس , وتشرد بذهنها بعيدا , ونكمش في
علاقتها مع الفتيات , كما أن مساحة نشاطها أخذت
في الإنحسار بشكل ملحوظ , وبينما هي في تلك
الظروف , تفاقم الوضع في المنزل , وفاقمت
حالتها النفسية , وصارت تغيب عن المدرسة بعض
الأيام , وفجأة انقطعت عن الدراسة وحينما أرسلنا
إلى ولي أمرها وطلبنا حضور والدتها , عرفنا أن
والديها انفصلا وعادت أمها إلى بيت والدها في
مدينة أخرى , وانتقلت معها ضحى متأثرة بما
جرى لها دون عابئة بالدروس , ثم تم طلب نقلها
إلى مدرسة قريبة منهم , ووفاء لوفاء تلك الفتاة
الفريدة ظللنا بعض الوقت نابع حالتها , لكن
للأسف عرفنا بعد أكثر من سنة أنها تركت الدراسة
لأن والدتها تزوجت من رجل مزوج , وكان يضربها ,
وتحدث مشكلات مع بنات زوج أمها , أما والدها فقد
تزوج من امرأة أخرى , وأهملها تماما , وظلت تائهة
وحائرة بين الوضعين , وأخذت تنتقل بين منزل
جدها الذي لم يكن متفرغا لتربيتها أو العناية بها ,
وتارة تبحث عن أبيها وتعاني ما تعاني من زوجة
أبيها , ثم تعود إلى أمها حبا وحنانا لكنها تصطدم
ببناته وبمعاملته القاسية , وعيد الكرة مجددا ,
وبينما هي على هذا المنوال , صار بينها وبين
المدرسة بونا شاسعا , وتأكد لنا تماما أنها تركت
المدرسة وانقطعت علاقتها بها نهائيا .
حسرة المعلمات
كانت تأتينا أخبارها , قبل أن تنقطع عن طريق
احدى قريباتها التي ظلت مواصلة في الدراسة ,
وكانت تتبع أحوالها , وآخر ماتناهى إلى مسامعنا
أن ضحى الذكية المتميزة في كل شيء, أصبحت
لاشيء وأصبحت فتاة متبلدة لاهم لها ولا طموح
ولا تطلع ولا أمل غير أن تأكل وتتشرب وتنام وتتنقل
بين الأسر التي لاتملك لها نفعا ولا ضرا .
هذا قضاء وقدر ولا اعتراض عليه , لكن الحسرة
كانت تخنق المعلمات والإداريات وزميلات ضحى
بالمدرسة , كيف تتحول زهرة المدرسة الذبول
المبكر , واليباس في موسم الربيع ؟ وكيف نتهي
مسرحية ضحى قبل أن تبدأ وقبل كشف الستار
عنها ؟ وكيف تسبب الخلافات الزوجية في ضياع
زهرات العمر وانقضاء أيام الربيع في بدياتها ؟
كل هذه التساؤلات كانت تجول في خاطرنا ونحن
نستحضر أيامها الجميلة ومشاركاتها
وحضورها في كل شيء , لكنها صفحات مضيئة
انظوت بفعل خلافات الزوجين , وبفعل التضحية
بمستقبل الأجيال نزولا عند رغبة الأباء واي رغبة ؟
انها الرغبة في حل الخلافات الزوجية
على حساب الصغار الأبرياء .
نعم كانت نجمة المدرسة , لكن نجمها أفل قبل
آوانه , ووارى خلف غمامة لاتتزحزح أبدا حى
يبين النجم مرة أخرى , انها أيام ضحى انطوت
وهي مازالت في ضحى العمر .
المصدر : مجلة بنات اليوم
لكم أرق الأمنيات السعيدة وأعذبها