د. سلمان بن فهد العودة 2/10/1429
01/10/2008
من أسماء ربنا جل وعز: «البديع». وقد جاء في القرآن الكريم في قوله سبحانه: (( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )) [البقرة:117]، وفي قوله: ((بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الأنعام:101].
و«البديع»: معناه المبدع، فهو الذي أبدع السماوات والأرض، فأنشأهما على غير مثال أو نموذج سابق.
إن الإنسان لو أراد أن يبني بيتًا صغيرًا في حجمه ومساحته، لوجدته يعتمد على نماذج اعتمدها من قبله، وقد يستطيع أن يدخل تعديلًا هنا أو هناك، أو يختار ما يتناسب مع ذوقه وظروفه واعتباراته الخاصة، ولكنه يظل مرهونًا بما قبله وبما حوله، ويتقيد بتجارب سابقة وأنماط محددة، هذا هو الإنسان في ضعفه وفي قدرته المحدودة.
وأما الله عز وجل فهو الإله الخالق المبدع الذي خلق السموات والأرض وما فيهما من المجرات والنجوم، والجمادات والإنسان والحيوان، والطير والنبات، والماء والهواء والنور، وغيرها من الأشياء التي يضج بها هذا الكون الذي يشارك فيه كل المؤمنين بالله تبارك وتعالى، إيمانًا وتسبيحًا، واعترافًا وتعظيمًا لهذا المبدع الحكيم سبحانه وتعالى الذي هو: ((بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)). أي: خالقهما ومخترعهما على غير نموذج سابق ولا مثال متقدم.
إن الإنسان لو لم ير بعينه الماء، ثم جاءه شخص يصف له هذا الماء الذي هو كائن تراه العين وتلمسه اليد، لربما اعتقد أنه يتكلم بضرب من الخيال أو الوهم أو الجنون، أو أنه يخادعه ويمازحه.
ولو أراد إنسان أن يصف لك النور الذي يكشف الأشياء ويظهرها، ويجليها، ويقع عليه نظر الإنسان ويحسه، وهو مع هذا ليس له جرم مادي، وليس بمقدور أحد أن يمسكه بيده، ثم أراد أن يصف لك النار، ويفرق بينها وبين النور، وكيف أن النار لها إحراق وتوهج وضراوة، بخلاف النور الذي هو أقرب إلى الإضاءة والكشف، لكان الأمر محيرًا.
ولو أراد أن يصف لك الهواء الذي يستنشقه الإنسان، وكيف أثره في حياة الإنسان والنبات، وفي حياة الكون ووجوده ووجود العديد من الأشياء المحسوسة المدركة تمامًا، ومع ذلك لا تراه العين، ولا تمسكه اليد، لكانت دهشته منه أشد، ولكن هذه الأشياء أصبحت من المألوفات، وكم أفسد الإلف والاعتياد بهجة مشاهدة بديع خلق المبدع الحكيم الخالق جل وتعالى، ولو أن الإنسان تأمل في هذا الكون وهذا التنوع الشامل، لأدرك جانبًا من معنى قوله سبحانه: (( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )).
إن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن في غير ما موضع الاحتجاج بآيات الله تعالى الكونية في الآفاق، في الكون، وفي النفس، واحتج بها على عظمة الله وقدرته سبحانه، وأن الكون منه وإليه، واحتج بها على البعث بعد الموت كما في الاحتجاج بالسماء، (( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الخُرُوجُ )) [ق:6-11].
فهذا دليل على القدرة الإلهية الكاملة، ودليل على بعث الناس بعد موتهم وخروجهم من قبورهم.
إنك لو تأملت كريات الدم الحمراء التي تسبح في عروق جسدك، وتؤدي مهمتها العظيمة على أكمل وجه، لوجدت هذه الكريات الهائلة العدد، الصغيرة التي لا تراها العين لو وضعت في امتداد على خط واحد، لكانت تحيط بالكرة الأرضية كلها خمس مرات على رغم صغر حجمها، حيث يبلغ عددها خمسة ملايين كرة دم حمراء في كل مليمتر مكعب واحد من الدم، وهذه الخلية التي يتكون منها جسد الإنسان، والتي هي جرم صغير جدًّا تقطع في دورتها في جسم الإنسان قرابة (1150) كم، فتأمل هذه المسافة الهائلة في هذه الدورة العظيمة وأنت غافل عن ذلك لا تدركه ولا تحس به.
كذلك القلب الذي يضخ الدم في البدن بلا توقف سنوات طويلة تبلغ سبعين، أو ثمانين، أو أكثر، فهل نعلم إن كان عمر الإنسان المتوسط ما بين الستين والسبعين سنة فإن قلبه يكون قد ضخ (56) مليون لتر دم في أنحاء البدن، ومع ذلك فهذا القلب لا يحتاج إلى أي أعمال إجرائية تحتاجها أكثر الأجهزة حداثة ودقة وتقنية وتصنيعًا، ولا يحتاج غالبًا إلى صيانة ولا راحة، فهو دؤوب دائم قائم بمهمته الجوهرية، حتى لو كنت تجهل اسمه أو عمله!
كما نرى مخلوقات متناقضة في ظاهرها كالنار والماء، والنور والظلام، ومع ذلك جعلها الله سبحانه وتعالى متوافقة منسجمة متداخلة في منظر بديع، وصورة حسنة، وإبداع جميل، تجعل الإنسان لا يملك إلا أن يسبح لهذا المبدع الحكيم الذي جعل هذه المواد المتناقضة تتكامل منسجمة متوافقة، ويتكون منها منظر لا تمل العين رؤيته ومشاهدته.
فسبحان المبدع الذي تسرح العيون في خلقه، وتشاهده وتتعجب منه، ولا يزال العلم يكتشف كل يوم جانبًا من جوانب العظمة والإبداع في خلقه سبحانه، وقد يظن كثيرون أن العلم اليوم شيخ كبير هرم قد ملك من ألوان المعرفة الشيء الكثير، وأن عنده لكل سؤال جوابًا، في حين أن الواقع يشهد أن العلم لا يزال فتىً في مقتبل عمره، قاصرًا في نظره إلى عالم الكون العظيم الذي لا يزال مجهولًا بالنسبة إليه، ولم يكتشف منه إلا النـزر اليسير.
والخلق قد يبدعون، ولكنه إبداع بقدر معلوم في ضمن ما خلق الله تعالى، فالإبداع الملتزم المنضبط مطلب بشري ضروري، كالإبداع في القول والبيان، ومن عجائب صنع البديع سبحانه وتعالى: إقدار البشر على النطق والفهم، ولو إن إنسانًا تفكر كيف يخرج الصوت، وكيف يختلف من شخص إلى آخر، وكيف نشأت اللغات بين أهلها، لتملَّكه الدهشة والعَجَب!
إن الإنسان قد يبدع بالكتابة، ويبدع بالخطابة، ويتنوع في ذلك، وقد يبدع في الصناعة والاختراع، وفي الكشف والإدارة، وفي فنون العمل وشؤون الحياة كلها، ولكن هذا الإبداع بكل حال هو ضمن دائرة المباح الواسعة، وضمن البحبوحة التي جعل الله تبارك وتعالى آفاقها مفتوحة لعباده، بشرط أن يكونوا مطيعين له، ولا يجوز لهم أن يخرجوا عن طاعته والتزام أمره، وهكذا أيضًا أغلق الله تعالى عليهم باب الإبداع -أو الابتداع- في الأمور الإلهية التعبدية الخاصة، فليس من حق البشر أن يبتدعوا عبادة خاصة من لدن أنفسهم يتقربون بها إلى ربهم؛ لأنهم لا يعرفون كيف يتقربون إليه إلا من بما علمهم ودلهم عليه سبحانه وتعالى، مثل ما أنزله الله تعالى في كتابه من صور العبادات المختلفة كالصلاة والركوع والسجود، وإذا تأملت وجدت أن هذا مثل ذاك كله من عظمة الله ومن توسيعه على عباده.
توسيعه سبحانه أن يفتح للعباد آفاق الإبداع، وأن يحرك عقولهم ومواهبهم وملكاتهم في دروب من الابتكار والاختراع في مجال الحياة كلها، وبالمقابل أن يمنعهم أن يتدخلوا في الجانب التعبدي، لئلا تتحول حياتهم كلها إلى أنماط عبادات مخترعة: ((مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)) [يوسف:40].
وجزاكي الله كل خير وزادك ِ حسنات
تقبلي مروري
بنوته سوريه