التصنيفات
منوعات

الذكاءات المتعددة: من التأسيس العلمي إلى التطبيق البيداغوجي }

تقديم:

ثلاث سنوات تفصل بين وفاة جان بياجيه (1980) وظهور كتاب عالم النفس الأمريكي هاوارد غاردنر (1983) حول نظرية الذكاءات المتعددة[1]. إلا أن العلاقة بين الرجلين لا تتأسس فقط على أرضية التنظير للذكاء، بل تحققت قبل ذلك كحضور مباشر بينهما؛ كان ذلك في شهر أكتوبر 1975 بفرنسا خلال مناظرة علمية جمعت عالم اللسانيات نوام شومسكي وعالم النفس جان بياجيه وحضرها هاوارد غاردنر. في تقريره حول هذه المناظرة[2] ينتقد غاردنر تصور بياجيه للذكاء، بل وللعقل الإنساني عامة. ينصب هذا النقد على الجوانب الآتية:
ـ غلو في النزعة العقلانية الموحدة للعقل الإنساني.
ـ استبعاد عوامل الوسط والفوارق أو الاختلافات الفردية
ـ اعتبار التفكير الرياضي مثال ونموذج الفكر الإنساني.
ـ اعتبر الذكاء واحدا عاما يوجد بنفس الشكل لدى الجميع.

هذه الانتقادات التي طرحها غاردنر في حياة بياجيه سيطرحها أيضا بعد وفاته. فبياجيه – بحسب غاردنر- لم يركز في دراسته للنمو سوى على جانب واحد هو النمو العقلي معتبرا أن كل "الأطفال علميين" بالضرورة، وهذا معناه أن بياجيه، داخل هذا النموذج النمائي، لم يعط ما يكفي من الأهمية والاهتمام للسياقات الثقافية الأخرى غير الغربية ولم ينتبه إلى المجتمعات غير الكتابية، بل من المحتمل أن يكون هذا النموذج النمائي غير منطبق إلا على أقلية في المجتمع الغربي نفسه. أضف إلى ذلك أن بياجيه أهمل دراسة كفاءات ذهنية أخرى (غير الكفاءات العلمية: الرياضية – المنطقية) كتلك المتعلقة بالفن والمحاماة والرياضة والزعامة السياسية[3].
إن تأكيد هذه الانتقادات مرة أخرى معناه أن غاردنر يسعى إلى تفادي اختزالية نظرية بياجيه حول النمو المعرفي، بالرغم من عمقها وأهميتها، وبالتالي تجاوز تصوره حول الذكاء: "بالنسبة إلي – يقول غاردنر- توجد أدلة مقنعة على أن الإنسان يملك عدة كفاءات ذهنية مستقلة نسبيا، سوف أسميها فيما بعد، بكيفية مختصرة: الذكاءات الإنسانية"[4]. وفي سنة 1983 تحدث غاردنر عن سبعة ذكاءات: الذكاء اللغوي، الذكاء المنطقي الرياضي، الذكاء الجسمي الحركي، الذكاء الموسيقي، الذكاء الفضائي البصري، الذكاء التفاعلي، الذكاء الذاتي، ثم أضاف بعد ذلك ذكاءين: الذكاء الطبيعي والذكاء الوجودي. وأفق البحث ما زال مفتوحا أمام ذكاءات مرشحة أخرى.. على أساس أن كل ذكاء لا يعتبر كذلك إلا إذا توفرت فيه مجموعة من المؤشرات والمعايير البيولوجية والسيكولوجية والمنطقية، تشكل في مجموعها الأسس النظرية لنظرية الذكاءات المتعددة[5].
بعد تأسيسه العلمي للنظرية اشتغل جاردنر على مجالات إمكانية تطبيقها. ففي سنة 1984 أسس – مع فريقه العلمي- "مشروع الطيف" الذي يهدف إلى بناء مقاربة جديدة حول التقييم ووضع برنامج تعليمي يلائم السنوات المبكرة وفترة ما قبل المدرسة. ويقوم هذا المشروع على مبدأ أساسي مفاده أن كل طفل يظهر ويوظف مجموعة من الذكاءات، إن لم يكن من الممكن تحديد مدى قوتها فمن الممكن دعمها وتطويرها من خلال الأنشطة والمجالات التي يتفوق فيها الطفل وبواسطة برنامج تربوي مناسب ومتميز[6].
إذا كان "مشروع الطيف" يقدم برامج ما قبل مدرسية، فإن مشروع (Key School) يتعلق بالتعليم الأولي. وهناك مشروع PIFS (Practical Intelligence For School) الذي يقدم برامج للسلك الأول من التعليم الثانوي، ومشروع (Arts Propel) كبرنامج موجه لتلاميذ المستوى الثانوي.
علاوة على هذه المشاريع التي يشرف عليها غارندنر مع فريقه في مشروع الصفر Projet Zero التابع لجامعة هارفارد، هناك تجارب أخرى سابقة زمنيا على نظرية غاردنر ترسخ قوة هذه النظرية. من هذه التجارب طريقة معلم الموسيقى الياباني سوزوكي Shinichi Suzuki والتي ابتكرها قبل الحرب العالمية الثانية، وهي طريقة تقوم على تربية المهارات وتنمية الاستعدادات من خلال برامج وتقنيات حول التربية الموسيقية مبنية بشكل دقيق، ويشرع في تطبيقها منذ الولادة، وهدفها هو إعداد الأطفال ليصبحوا مؤدين موسيقيين في قمة العطاء.
هناك أيضا تجارب فردية استلهمت نظرية الذكاءات المتعددة في حقل الممارسة البيداغوجية (في وضع البرامج واستراتيجيات التعليم وفضاء التعلم وتسيير القسم والتقويم والدعم..)[7]. كما قامت عدة مؤسسات باستثمارات بحثية علمية حول النظرية، وساهمت عدة جمعيات في التعريف بها وإقرارها في برامجها وأنشطتها، وتم تقديمها عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.. وظهرت عشرات المقالات في مجلات وجرائد وصفحات الإنترنت..
وفي المغرب، كان الفضل للدكتور أحمد أوزي في التعريف بهذه النظرية وتقديمها أمام طلبته بكلية علوم التربية- الرباط، ووضع استراتيجية لتجريبها وتطبيقها من خلال نماذج وتجارب ميدانية[8].
ولعل هذا الحوار الذي نقدمه للقارئ من شأنه أن يفتح منفذا في مسار البحث السيكولوجي والتربوي في المغرب، خاصة وأنه يقدم إشارات قوية حول الجوانب البيداغوجية لنظرية الذكاءات المتعددة وآفاق البحث فيها مستقبلا.
نص الحوار:
سؤال: أنتم مشهورون في الولايات المتحدة من خلال تأسيسكم لنظرية الذكاءات المتعددة. ما هي الوقائع التي قادتكم إلى هذه النظرية؟
غاردنر: إن العناصر الأكثر أهمية هي نتائج البحوث التي توصلت إليها مع الأطفال العاديين والموهوبين، وكذلك مع معالجين راشدين تعرضوا لتلف دماغي[9]. ونتيجة لذلك أدركت أن القوة أو الضعف في مجال عقلي معين لا يسمح بالتنبؤ بأن الشيء نفسه يحدث في مجال عقلي آخر. وخلصت حينئذ إلى أن التصور المعياري للذكاء (والذي وفقه لا يوجد سوى ذكاء واحد، هو الذكاء العام) خاطئ. وبذلك وضعت ثمانية معايير لتحديد مفهوم الذكاء، وقمت بفحص عدة ذكاءات "مرشحة" بهدف التأكد أي منها يمكن أن تنطبق عليه تلك الخاصية/المعيار. وفي سنة 1985 أبرزت سبعة ذكاءات، واليوم ارتفع عددها إلى ثمانية أو تسعة.
سؤال: لقد أسستم مشروع الطيف Projet Spectre[10] الخاص بالكشف عن المهارات التي يتميز بها طفل ما في هذا الذكاء أو ذاك. حول ماذا يتعلق هذا المشروع؟
غاردنر: إنه برنامج تربوي يقدم للأطفال الصغار (بين 3 و6 سنوات) بيئة غنية وخصبة من شأنها أن تثير عددا كبيرا من الذكاءات، بحيث يمكن لهؤلاء الأطفال استكشاف هذا الوسط الذي يعتبر بمثابة متحف لهم أكثر مما هو حجرة فصل عادي، ومن خلال ملاحظة الطريقة التي يستثمرون بها مختلف المواد والعناصر المحيطة بهم، يمكن استنباط جانبيتهم في الذكاء[11]. هناك طبعا "مهام الطيف" الأكثر شكلية والمخصصة لتحديد أصناف الذكاءات القوية والذكاءات الضعيفة لطفل ما، سواء في ارتباطها مع الذكاءات الأخرى لدى نفس الطفل، أو بمقارنتها مع ذكاءات الأطفال الآخرين. لقد تم تحويل نتائج هذا التقييم إلى "جانبية الطيف" والذي يتضمن اقتراحات عملية حول الأنشطة التي يجب مباشرتها مع الطفل حسب جاذبيته الخاصة من حيث مكامن القوة والضعف.
سؤال: أليس هناك خطر الإخلال بالتوازن حين يتعلق الأمر بتفضيل أو تشجيع مجال للذكاء يوجد مسبقا وبقوة لدى طفل ما؟
غاردنر: ليس هناك أبدا ارتباط مباشر بين نظرية علمية وبرنامج تعليمي، فكل نظرية علمية حول الذهن الإنساني تقترح العديد من التطبيقات التربوية الممكنة، والتجربة وحدها يمكن أن تدل على نوع التطبيقات التي يكون لها معنى أو تلك التي لا معنى لها. وحتى أجيب بشكل دقيق عن السؤال، لا أعتقد أنه ينبغي تركيز الاهتمام على مجال خاص من القوة لدى الطفل. في الواقع، إن مسعاي ليس على الإطلاق تحويل الأطفال إلى عباقرة في المجال الذي يتفوقون فيه، بل ينبغي فقط اكتشاف ما هي مجالات القوة والضعف لديهم. وبعد ذلك تبقى لكل واحد، انطلاقا من تقييمه الخاص، الحرية في أن يقرر ما إذا كان يفضل الاهتمام أكثر بجوانب القوة أو بجوانب الضعف للطفل، أو يفضل تجاهل النتائج. وبالمقابل ليس هناك أي مبرر للاعتقاد بأن الشخص الذي يبدو ضعيف الذكاء في لحظة ما لا يمكن أن يصبح متفوقا، بل إن ملاحظة قصور في ذكاء ما من شأنه أن يدفع هذا الشخص كي يتصرف بحماس من أجل تطوير ذلك الذكاء، فهناك العديد من الأشخاص عوضوا نواقصهم الظاهرية بالعمل الجاد، بل وأحرزوا أحيانا تفوقا في تلك المجالات. وأكثر من ذلك، يمكنني أن أقدم مثالا شخصيا: فأنا دالتوني [مصاب بعمى لوني يحول دون التمييز بين الأحمر والأخضر] ولدي رؤية مجسادية Stréoscopique ناقصة، وأحتاج إلى عدسات قوية مقومة، ومع ذلك اخترت أن أكرس أطروحتي للدكتوراه حول الفنون البصرية وقضيت وقتا طويلا في الكتابة عن العالم البصري.
هكذا يبدو أن نظرية الذكاءات المتعددة ليست هي القائمة على الحتمية، بل، بالأحرى، أن الأفراد، الذين يلاحظون قصورا عاديا لديهم، عوض أن يقوموا بتعويض ذلك القصور، يعتبرون ذلك علامة تدفعهم إلى التنازل عن مكامن تفوقهم وإهمالها.
سؤال: أين يتحدد موقعكم داخل النقاش حول مسألة الفطري والمكتسب؟
غاردنر: على غرار معظم الباحثين في البيولوجيا أرفض التعارض بين هذين المصطلحين، وأعتبر أن كل سلوك إنساني محكوم بالعنصر الوراثي، ولكن، من جانب آخر، لا شيء يمكن أن يتحقق بدون وسط مناسب يمارس تأثيره ليس فقط منذ الولادة بل مع بداية العمل. لنأخذ الموسيقى كمثال: فأنا مقتنع بأن مورثات موزار كانت أكثر ميلا إلى الموسيقى عما هو الأمر عند معظم الأشخاص الآخرين، ولكن يمكن لبيداغوجية ماهرة أن تمكن أي كان من العزف على آلة موسيقية في مستوى عال من الإنجاز. لما بلغنا، نحن الأمريكيين، لأول مرة وجود أطفال يابانيين يعزفون بشكل رائع على الكمان، اعتقدنا أن ذلك يرجع إلى موهبة خارقة لديهم. لكن بعد ذلك اكتشفنا طريقة معلم الموسيقى الياباني شينيشي سوزوكي Shinichi Suzuki المعروفة بـ"تربية القدرات"، فأدركنا حينئذ بأن الأمر لا يتعلق بعبقرية الأطفال، بل يعود إلى الطريقة البيداغوجية، ذلك أن نجاح سوزوكي يرجع إلى كونه قام بتحديد العوامل التي تمكن من تطوير وتنمية الكفاءات الموسيقية لدى الأطفال الصغار، ومن هذه العوامل مثلا: خفة تحريك الأصابع في العزف على الكمان – أصناف المواضيع التي يمكن للأطفال التعرف عليها وإنشادها بسهولة- الميل إلى تقمص شخصيات رفاق أكبر سنا. وهكذا تيقنت بأنه يمكن التعامل مع كل الذكاءات الأخرى بنفس الطريقة التي نجح بها سوزوكي في تعامله مع مجال الموسيقى.
سؤال: ما هي بالضبط القيمة العملية لنظرية الذكاءات المتعددة في الحقل البيداغوجي.
غاردنر: ليست نظرية الذكاءات المتعددة غاية في ذاتها، بل هي أداة للمدرسين المتبصرين الذين يسعون إلى تطوير قدرات معينة لدى تلامذتهم. مثلا: إذا كنا نبتغي أن يكون الأطفال متخلقين فيما بينهم، سنحتاج إلى تنمية ذكائهم الشخصي[12]. بالإضافة إلى ذلك، طبعا، تمكن هذه النظرية من تحسين تقديم المواد الدراسية، مثلا: إذا كان على كل تلميذ أن يتلقى مادة التاريخ أو الجغرافية، فليس هناك أي مبرر كي يتعلم كل واحد هذه المواد بنفس الطريقة أو يخضع لنفس التقييم.
لقد مكن مشروع الطيف من تعيين جوانب التفوق المتميزة لدى العديد من الأطفال، وكان من الممكن أن تبقى مجهولة بدون ذلك؛ فأثناء القيام بإحدى التحريات مع فريقي في البحث صادفنا طفلا في السادسة من عمره، ينحدر من أسرة مفككة ويواجه خطرا كبيرا ناتجا عن الفشل الدراسي، وبحكم أن نتائجه لم تتغير خلال حصص التحضيري فقد قررت مدرسته إجباره على التكرار بعد شهرين من حضوره داخل فصلها. ومع ذلك فقد كان الطفل ناجحا بشكل يفوق الآخرين في فك وإعادة تركيب مواد مستعملة. بعد تصويره وهو يقوم بأنشطة عرضت سلسلة اللقطات المصورة على معلمته، وكم كان ذهول هذه الأخيرة كبيرا جراء ما رأت إلى درجة أنها لم تذق راحة النوم لمدة ثلاث ليال. منذ تلك اللحظة غيرت بشكل جذري نظرتها حول الطفل، وبدأت النتائج المدرسية لهذا الأخير تتحسن بشكل ملموس.
سؤال: ما هي ردود الأفعال التي خلفتها نظرية الذكاءات المتعددة؟
غاردنر: معظم علماء النفس، خاصة المحسوبين على القياس النفسي، عارضوا هذه النظرية. ويمكن فهم موقفهم بسهولة ما دامت نظرية الذكاءات المتعددة تهدد موارد عيشهم بل ومبرر وجودهم. لكن مقابل ذلك هناك علماء متخصصون. كالبيولوجيون مثلا، وجدوا في النظرية ما يكفي من الأهمية. علاوة على ذلك، كانت لنظرية الذكاءات المتعددة أصداء قوية داخل الوسط التعليمي الأمريكي، فأثناء العقد الأخير لم يحتل سوى عدد محدود من الأفكار التربوية نفس قيمة هذه النظرية بالولايات المتحدة. ولكن ذلك لا يعني تأييدا لها بالضرورة، فهناك الكثير من التطبيقات تبقى سطحية، كما أن جزءا من هذا التأييد كان في الواقع مجرد تقليعة.
إن نظريتي (حول الذكاءات المتعددة) تؤثر بشكل كبير في الممارسة التربوية لأنها تتفق مع الملاحظة الجماعية للمدرسين والآباء والتي تكشف عن وجود اختلافات بين الأطفال على الصعيد المعرفي. فكلنا يتوفر على عناصر تفوق وجوانب قصور متفاوتة في مختلف المجالات العقلية، لكن معظم الجهود في مجال التربية لا تعترف بوجود تلك الفروقات، وتشجع نمط التفكير القائم على اللغة والمنطق، وتلك بالضبط هي حالة التفكير الديكارتي/المنهجي العقلاني في فرنسا. وعلى النقيض من ذلك تنطلق مقاربتي من الجانبيات العقلية المختلفة، لذلك أقترح أن تأخذ التربية بعين الاعتبار هذه الفروقات لإنجاز تعليم بأعلى مستوى من الفعالية. فإذا أردنا توجيه التعليم إلى كل الأطفال، وليس فقط حصره على أولئك الذين يتوفرون على استعدادات منطقية ولغوية، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار الاكتشافات التي توصلت إليها نظرية الذكاءات المتعددة.
وأخيرا، لم يكن للباحثين في حقل التربية موقف نقدي خاص تجاه النظرية، بل إن بعضهم سعى فعلا إلى تطويرها. كان ذلك هو هدف مجموعة من طلبتي المرموقين، أمثال: Tom Hatch – Mara Krechevsky – Mindy Kornhaber – Bruce Torff وغيرهم..
سؤال: تؤاخذون أحيانا أنكم لم تهتموا بما فيه الكفاية بصلاحية هذه النظرية، وبشكل خاص لم تحددوا مجموعة الاختبارات التي تمكن من تقييم هذا الذكاء أو ذاك.
غاردنر: إن مشروع الطيف هو مجهود لتقييم مختلف أصناف الذكاءات لدى الأطفال الصغار، ويمكن تكييفه ليتلاءم مع السنوات المبكرة. مبدئيا ليس لدي أي اعتراض لتقييم الذكاءات ما دام هذا التقييم يتم بطريقة عادلة ومنصفة، وليس بواسطة اختبار معياري من صنف اختبارات "الورقة والقلم". فإذا أردت مثلا تقييم الذكاء الفضائي لشخص ما فلا تقدم له اختبارا، بل علمه خط سير جديد ثم لاحظ بأية سرعة سيصل إلى التحكم في اتجاه السير وكيف سيقوم بتذكره.
هناك باحثون آخرون قاموا بتطوير اختبارات الذكاء، ولست من أنصار هذه الاختبارات، لكني أحكم عليها حسب حالة كل اختبار. وأعتقد أننا أمضينا وقتا طويلا في تقييم وتصنيف الأطفال، ولم نمنحهم سوى وقتا ضئيلا لمساعدتهم. لذلك، فالمبرر الوحيد، بالنسبة إلي، لتقييم الذكاءات هو مساعدة المتعلمين للتعلم بشكل جيد، وذلك بتوظيف الذكاءات الأكثر تفوقا وتقوية الذكاءات التي هي في حاجة إلى ذلك، في الوقت نفسه.
سؤال: كيف تنظرون إلى مستقبل البحث في الذكاءات المتعددة؟ ما هي المسالك التي يجب استكشافها والطرق المسدودة التي يجب تجنبها؟
غاردنر: أتمنى تطوير النظرية في اتجاهات مختلفة. لكن ما يهمني بشكل أساسي أن نفهم كيف يمكن لطفل استعمال ذكائه أو ذكاءاته بهدف التحكم الجيد في المواد الدراسية وأن يجد له مكانة داخل المجتمع وتطويرها.. علاوة على ذلك أتوخى مستقبلا اكتشاف ذكاءات أخرى وفهم الكيفية التي تشتغل بها. وأريد بطبيعة الحال أن أعرف بشكل جيد كيف يتم التعبير عن نفس الذكاء داخل مختلف الأوساط الثقافية. وأود كذلك معرفة كيف تتمكن الذكاءات المتعددة من الاشتغال بيسر وسهولة، وكيف يمكن تنميتها منفصلة عن بعضها وفي ارتباط بعضها البعض، وكذا استكشاف العلاقات الموجودة بين الذكاءات والابتكار والقيادة.
أما بالنسبة إلى الطرق المسدودة التي ينبغي تجنبها، أرى واحدة هي أهمها: لا ينبغي السعي من أجل المقارنة بين المجموعات بمصطلحات الذكاء (كالمقارنة بين الرجال والنساء أو بين المجموعات العرقية إلخ..) نظرا إلى المخاطر المترتبة على وقائع محرفة. وكمثال على ذلك، أنه في استراليا تم وضع لائحة لكل مجموعة عرقية، من خلال جزء من الأدوات المدرسية المعتمدة من طرف إحدى الولايات. وداخل كل لائحة تم تحديد الذكاءات التي تتفوق وتضعف فيها كل مجموعة بدون أي سند علمي. اعتبرت ذلك انزلاقا، وأعلنت موقفي في برنامج بالتلفزة الاسترالية. وفي اليوم التالي، مباشرة بعد تصريحي، قام الوزير الأول بإلغاء هذا "الخلط" التربوي الذي يتأسس على الوهم العلمي.

المصدر: حوار مع هاوارد غاردنر Howard Gardner
ترجمة وتقديم: عبد الواحد أولاد الفقيهي
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ ــــــــ

[1] – ظهر الكتاب في نسخته الأمريكية الأصلية سنة 1983 بعنوان: Frames of mind : the theorie of multiple intelligence. وترجم إلى الفرنسية سنة 1997 تحت عنوان: Les formes de l’intelligence.
[2] – انظر نص التقرير في: هاوارد غاردنر، "طبيعة الفكر واللغة، مواجهة بين شومسكي وبياجيه"، ترجمة أحمد أوزي، مجلة علوم التربية، عدد 14، فبراير 1998، ص103-109.
[3] – Howard Gardner, Les formes de l’intelligence, Odile Jacob, Paris, 1997, p31.
[4] – المرجع نفسه، ص18.
[5] – لمزيد من التفصيل، انظر المرجع السابق، ص70- 74.
[6] – لمزيد من الاطلاع انظر:
H. Gardner, D, H. Feldman, M. Krechevsky (General Editors), Project Spectrum : Early Learning Activities, Teachers college, New York, 1998, p2-3.
[7] – من الكتب التطبيقية التي قدمت تجارب تعليمية بتطبيق نظرية الذكاءات المتعددة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
Thomas Armstrong, les intelligences multiples dans votre classe, traduit de l’américain par : Jean Blaquière, Chenelière, Montréal, 1999.
Bruce Campbell, les intelligences multiples : Guide pratique, traduit par : Danièle Bellchumeur, Chenelière, Montréal, 1999.
[8] – أحمد أوزي، التعليم والتعلم بمقاربة الذكاءات المتعددة، منشورات مجلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، 1999، الدار البيضاء.
[9] – نشير إلى أن هاوارد غاردنر، المزداد سنة 1943 أستاذ علوم التربية وعلم النفس بجامعة هارفارد وأستاذ علم الأعصاب في كلية الطب ببوسطن حيث اشتغل على أشخاص تعرضوا لحوادث وأمراض أصابت مناطق معينة من دماغهم.
[10] – داخل نص التقديم ومتن الحوار ترجمنا (Projet Spectre) بـ(مشروع الطيف). ونميل إلى اختيار هذه العبارة لأن كلمة "طيف" تدل على الصورة التي تحدث عند مرور الضوء الأبيض عبر موشور، ثم تفككه إلى سبعة ألوان مضيئة: (الأحمر – الأخضر – الأزرق – الأصفر – البرتقالي – البنفسجي – النيلي). وهذه الألوان السبعة تماثل كميا الذكاءات السبعة التي أبرزها غاردنر سنة 1983، وعلى ضوئها أسس مشروع الطيف سنة 1984، كما يوجد تماثل كيفي يتمثل في الاستقلال النسبي بين مجموع الذكاءات/الألوان.
[11] – على غرار بعض الباحثين في الحقل التربوي اخترنا لفظ (جانبية) كترجمة للفظ الفرنسي (Profil) انظر مثلا: المكي المروني، البيداغوجية المعاصرة وقضايا التعليم النظامي، منشورات كلية الآداب، الرباط، شركة الهلال العربية للطباعة والنشر، الرباط، 1993، ص151-152.
[12] – داخل الذكاء الشخصي يميز غاردنر بين: الذكاء التفاعلي (القدرة على فهم الآخر)، والذكاء الذاتي (القدرة على فهم الذات). انظر: الفصل التاسع من: Les formes de l’intelligence




م/ن



خليجية



خليجية




التصنيفات
التربية والتعليم

مفهوم العمل البيداغوجي

من الضروري التميزبين الخطاب التربوي والخطاب البيداغوجي .فالاول يشمل عقلنة التربية الاسرية والمدرسية والمجتمعية بينما الثاني اي الخطاب البيداغوجي يشمل فقط التربية المدرسية اي التعليم وبالتالي فهو جزء من الخطاب التربوي العام.
ضمن الخطاب البيداغوجي لابد كذلك من التميز بين ثلاثة خطابات فرعية
1- البيداغوجية المطبقة او الممارسة من طرف المدرسين في جميع مستويات التعلم
2- البيداغوجية المدرسة بمراكز تكوين المدرسين ومراكز تكوين المراقبين التربوين
3-البيداغوجية العالمة والتي ينتجها الباحثون كقاعدة او نمودج للاخرين.
والعلاقة بين هذه الخطابات الفرعية الثلاث عندنا في المغرب هي علاقة تنافر وليس علاقة الافادة والاستفادة. واذا كانت البيداغوجية المطبقة الى جانب المدرسة محاصرة الى حد كبير بيداغوجية المذكرات الرسمية فمن المفيد ان نقول ان البيداغوجية العالمة هي اكثر انعتاقا واستشرافا للمستقبل .وهي التي يجب ان ينشغل بها المدرس المغربي لطرح البدائل والتصورات المنعتقة في افق التاسيس لبيداغوجية متحررة تستجيب لتطلعات الواقع التعليمي المازوم بلادنا. في سياق الدينامية النظرية والعملية التي شهدها مجال البيداغوجية والبحث البيداغوجي عندنا في السنوات الاخيرة اتى الاهتمام بطرح بعض الاسئلة البيداغوجية مع محاولات الاجابة عنها نادرا باللجوء الى البحث الميداني وغالبا باللجوء الى استيراد واستهلاك اجابات مصبرة كما تم مع بيداغوجية الاهداف وصولا الى الادماج في وقتنا الحالي وهي اجابات تحولت لدى الكثيرين عندنا الى قالب نظري سحري للاجابة عن اسئلةوهموم محيطنا التعليمي .وهذه الدينامية على علاتها نرى انه يمكن المراهنة على بعض وليس كل من عناصرها وادواتها في اثارة اسئلة وتقديم اجابات اولية للمساهة في التاسيس لتصور تربوي منفتح على مختلف مجالات المعرفة الانسانية ويستحضر معطيات المحيط للمعني الاول بالامر في العمل التعليمي ونعني به المدرس والمتمدرس المغربي.ان من عوائق التاسيس البيداغوجي التربوي عندنا نجد
1- هيمنة الاختزال البيداغوجي اي تفسير مردودية المدرس والمتمدرس باسباب بيداغوجية فقط بعد ان هيمن التفسير الاختزالي السوسيولوجي لسنوات طويلة وتزداد خطورة هذه الهيمنة عندما نجدها بكثافة حاضرة في تقارير التفتيش التربوي التي تختزل تفسير العملية التعليمية التعلمية بهذا الجانب فقط …بينما ظاهرة التعليم والتعلم لايمكن تتبعها بشكل دقيق وموضوعي الا بالكشف عن قوانينها الشيئ الذي لا يتاتى الا بالتجريب والتنظير الذي لن يتمكن من الياته وهمومه سوى المدرسين باعتبارهم اكثر المحتكين بواقع الممارسة البيداغوجية التربوية اليومية…ان المؤشر الوحيد على بداية انطلاقة علمية للتنظير والممارسة التعليمية عندنا مرهون بانتاج معرفة تربوية تتاس على تقديم اجابات على الاقل اولية لمجموع العوائق التي تواجه المدرس المغربي في علاقته مع الادارة التربوية ومع المفتشين ومع الاباء ومع التلاميذ …مع المناهج الدراسية ومع التخطيط التربوي ومع اشكال تكوينه وضرورة تجديدها واستمراريتها …وقبل هذا وذاك توفير الشروط المادية الملائمة للمدرس باعتباره باحثا مشاركا في تطوير منظومتنا التعليمية التربوية .
فالاستفادة من الانساق البيداغوجية يستدعي توفير وسائل تعليمية او ما اصطلح على تسميته بالتيكنولوجية التربوية ‘ واذا كانت هذه جد ناقصة او غير متوفرة ‘ فكيف يمكن التوفيق بين العمل التعليمي الذي يرتكز على منطق الانساق البيداغوجية واستخدام وسائل تعليمية كلاسيكية مثل الطباشير والسبورة الخشبية .ان الاستفادة من الانساق البيداغوجية بمختلف تلاوينها لا يمكن ان يتم الا في سياق اصلاح بيداغوجي شامل .ذلك ما يستدعي اعادة النظر في كثير من العناصر والمحاور منها
-تدعيم البنيات التحتية وتحديد البنيات التشريعية التربوية على اساس العدل والمساواة في الفرص
-التكنولوجية التربوية ‘ ضرورة توفرها واشكال توظيفها
-الادارة التربوية ‘ اعادة النظر في اشكال تكوينها وعملها وتحديد طبيعة العلاقة التي تجمعها بهيئة التدريس على اس قانونية واضحة
-تكوين المدرسين بتجديد تكوينهم الاولي وعقلنة التكوين المستمر
-ضرورة تجاوز الارتجالية في التخطيط التربوي.
-ضرورة التميز بين الوسط القروي والحضري في صياغة المناهج الدراسية …
انها محاور الى جانب اخرى يجب التفكير فيها كشروط اولى واولية قبل التفكير في توظيف/قبل البحث في مى اجرائية طروحات ومفاهيم الانساق البيداغوجية
.2-الكتابات البداغوجية التربوية المعمول بها في بلادنا غارقة بشكل مؤسف في اشكالات وانشغالات مجتمعات اخرى سافرت الينا في سياق هيمنة المركز على المحيط .سافرت الينا واستوطنت مؤسساتنا التعليمية والتربوية دون شروط . النظرية تسافر بشروط ومتى غابت تلك الشروط المعرفية ‘ غابت فعالياتها ومن الممكن جدا ان تتحول من اداة تطوير وتغيير اي الارتفاع بالفعل والتفكير التربوي من مستوى العفوية الى مستوى العقلنة والعلمية ‘ الى اداة تكريس وتجميد لفعالية المدرس والمتمدرس
]ولا يمكن ان نؤسس لخطاب تربوي اصيل ومستقل الا بان يكون
خطابا مرتبطا ومجيبا عن الانشغالات التربوية البيداغوجية للمدرس العضوي الملتحم باشكالات ومعوقات وهموم الممارسة البيداغوجية التربوية اليومية.وتخليص البيداغوجيات الرسمية من اسها النظرية الوحيدة وتفتيحها على مختلف الانساق السيكولوجية المختلفة كالتحليل النفسي والسيكولوجية التكوينية وعلى مختلف المعارف الانسانية والطبيعية التي يمكن اجرائيتها على مستوى الممارسة التربوية وعلى مختلف التجارب المعقلنة للمدرسين .وفي هذا السياق يقول فردناند اوري عن فريني ( نحن في سنة 1933 معلم بسيط ينتقد الطرق المستعملة في التدريس ويضع موضوع سؤال معارف وسيكولوجية المرحلة ويقترح بمقابل ذلك تقنيات تعطي لابناء الشعب وسيلة للتعبير …انطلاقا اساسا من عقلنة تجربته التربوية الذاتية وتجارب الاخرين.

] 3- ذكرنا ان البيداغوجية المطبقة الى جانب المدرسة محاصرة الى حد كبير بيداغوجية المذكرات الرسمية .انها ليست بيداغوجية متحررة منفتحة انها تختزل الممارسة البيداغوجية التربوية في مجموعة من القوالب الجاهزة ليست منفتحة ومتواصلة منقحة بانشغالات وهموم وابداعات المدرسين. يجب قلب المعادلة ان بيداغوجية الوزير ليست بالضرورة علمية ولعلمنتها لا بد من اعادة الاعتبار لبيداغوجية المدرس .ان تدريس المدرس الهادف ليس هو التدريس المحاصر بالمذكرات الوزارية انه التدريس العلمي مقاربة مفتوحة لدراسة الظواهر البيداغوجية ‘ انطلاقا من الخلاصات النهائية لمختلف مجالات المعرفة الانسانية والطبيعية التي يمكن اجرائيتها داخل محيطنا ‘ وانطلاقا من استثمار التجارب الذاتية المعقلنة للمدرسين الذين ان الاوان للتوقف عن التعامل معهم كمجرد منفذين بسطاء للقرات الرسمية والاكاديمية




م/ن



خليجية



خليجية



خليجية