أصل العقيدة تحقيق أركان التوحيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد :
فهذا مقال قصدت به تبيين أركان التوحيد، وهي أركان " لا إله إلا الله " التي هي أصل العقيدة في الإسلام، وقد قدمت بين يدي ذلك فقرات في تعريف العقيدة، وأهمية التوحيد .
تعريف العقيدة :
العقيدة لغة : هي من العقد، والتوثيق، والإحكام، والربط بقوة، تقول العرب : أعتقد الشيء ؛ صلب واشتدّ [لسان العرب / مادة عقد]، والعقيدة : الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده .
وأما تعريف العقيدة شرعاً : فهي الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه الشك لدى معتقده بالله تعالى، ومايجب له من التوحيد والطاعة، وبملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، والأخبار والقطعيات، عملية كانت أو علمية .
ويتضح من تعريف العقيدة لغة وشرعاً أنها هي الأمور التي تصدق بها النفوس، وتطمئن إليها القلوب، وتكون يقينا عند أصحابها، لا يخالطها شك، ولا يهزها ريب، فهي متمكنة من القلوب، وراسخة فيها لا تتزلزل ولا تضطرب.
وهذه الكلمة " العقيدة " لم تذكر في القرآن الكريم ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك رغم تواتر وتتابع علماء المسلمين قديماً وحديثا على العنونة لمباحث هذا العلم بـ " العقيدة " .
ولكن اذا تتبعنا القرآن الكريم، نجد أن مادة كلمة " عقد " موجودة في القرآن الكريم في مواضع عدة، ومن ذلك قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم ولكن يؤاكذكم بما عقدتم الإيمان } والمقصود بـ " عقدتم الإيمان " هنا أن يكون بقصد القلب وعزمه، وذلك بخلاف لغو اليمين التي تجري على اللسان بدون قصد، وفسرها الحافظ ابن كثير ؛ ( أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها ) .
ومن ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود }، والعقود هي أوثق العهود، والعهود ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره .
ونلحظ من ذلك أصل كلمة " عقد " بمشتقاتها التي وردت في القرآن الكريم تدل على اللزوم والتأكد، والاستيثاق، والإحكام، والرسوخ، وهذا هو معنى العام لكلمة " العقيدة " .
وتجدر الاشارة من تعريف العقيدة، أن يعلم أن العقيدة لفظ مرادف للإيمان في المعنى، بل العقيدة قاعدة الإيمان وأصله، ولذا لا بد لهذه العقيدة أن تترجم الي واقع عملي ملموس، مطبق في القول والعمل والسلوك، والمظهر، فتعبر العقيدة عن نفسها وتعلن عن وجودها، وذلك على الجوارح، وإلا فان العقيدة التي تسكن في القلب ولا يكون لها وجود في العلانية على جوارح صاحبها، فهي عقيدة ناقصة، خاوية باردة، ولا تقوم لها قائمة، بل لا تستحق أن يطلق عليها اسم " عقيدة " .
أهمية التوحيد :
إن التوحيد هو حق الله تعالى على العبيد، وهو الغاية التي من أجلها خلقهم، قال تعالى : { وما خلقت الجن والانس الا لعبدون } ، قال أهل العلم : أي ليوحدوني وآمرهم وأنهاهم .
وهو دين الرسل جميعاً، وهو الذي أمروا به، قال تعالى : { وما ارسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } .
والتوحيد هو أن يوحد العبد ربه بأفعاله الربوبية وبأسمائه وصفاته، وفي العبادة، فالتوحيد هو أعدل العدل، فمن وحد الله عز وجل فقد وضع الشيء في موضعه، وأعطى العبادة لمن يستحقها، قال تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماص بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } .
وضد التوحيد الشرك، وهو أن يجعل العبد شريكاً مع الله في أفعاله الربوبية، أو في أسمائه وصفاته، أوفي العبادة .
والشرك أظلم الظلم، فمن أشرك بالله فقد وضع الشيء في غير موضعه وفي غير نصابه، وأعطي العبادة لمن لا يستسحقها، وافتري اثماً عظيماً، قال تعالى حاكياعن لقمان موصيا ابنه { واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } .
وجعل الله سبحانه الشرك محبطا للأعمال، لا يتجاوز عن صاحبه بالمغفرة، قال تعالى { ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفرمادون لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقر افتري اثما عظيماً } .
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولقد أوحي اليك والي الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين }، وقال سبحانه بعد أن ساق اسم ثمانية عشر نبياً : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } .
والذي تميز به اهل السنة والجماعة من السلف الصالح ومن سار على هديهم – على مر العصور والأزمان – هو اهتماهم بهذا التوحيد الخالص وطرح الشرك به سبحانه، بينما انحرف أناس كثر عن هذا التوحيد – فضلا عن الدعوة إليه – فوقعوا في الشرك، وخالفوا ما أمرهم الله به من اخلاص الدين له وحده لا شريك له .
فذلك يجب عليك – أخي القارئ – أن تعلم ماهو التوحيد – الذي أوجبه الله عليك – بأركانه وشروطه ونواقضه، ثم تعمل بمقتضى هذا العلم .
أركان التوحيد :
الركن الأول : الكفر بالطاغوت :
لايكون العبد موحداً حتى يكفر بالطاغوت، ولن يكفر بالطاغوت، حتي يعلم ما هو الطاغوت، فالطاغوت لغة : مشتق من الطغيان، صفة مشبهة، بمعني مجاوزة الحد، كما في قوله تعالى { انا لما طغى الماء حملناكم في الجارية } أي : لما زاد الماء وتجاوز حده المعتاد، وأما تعريفه في الشرع : فالطاغوت : هو كل لمن طغي وتجاوز حده وأخذ حقا من حقوق الله تعالى ونسبه لنفسه، وجعل ندا لله فيما يختص به سبحانه .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الطاغوت : الشيطان .
قال ابن كثير – رحمه الله – معلقاً على ذلك : ( ومعني قوله في الطاغوت : إنه الشيطان، قوي جدا، فانه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها، والاستنصار بها ) أ.هـ [تفسير القرآن العظيم 1/418].
ويقول الامام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – : ( والطاغوت عام، فكل ما عبد من الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت ) [الجامع الفريد :ص265] .
وأحسن وأجمع ما قيل في تعريف الطاغوت، هو ماذكره العلامة ابن القيم رحمه الله : ( الطاغوت : كل ماتجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أومطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله ) أ.هـ [اعلام الموقين 1/50] .
قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – توضيحاً لعبارة ابن القيم : ( ومراده بالمعبود والمتبوع والمطاع غير الصالحين، أما الصالحون فليسوا طواغيت وإن عبدوا – أو اتبعوا – أو أطيعوا فالاصنام التي تعبد من دون الله الواغيت، وعلماء السوء الذين يدعون الي الضلال والكفر، أو يدعون الي البدع، او الي تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله طواغيت، والذين يزينون لولاة الأمر الخروج عن شريعة الإسلام بنظم يستوردونها مخالفة لنظام الدين الإسلامي طواغيت، لأن هؤلاء تجاوزوا حدهم، فان حد العالم أن يكون متبعاً لما جاء به النبي صلىالله عليه وسلم، لأن العلماء حقيقة ورثة الأنبياء، يرثونهم في أمتهم علماً، وعملاً، وأخلاقاً ودعوة وتعليماً، فاذا تجاوزوا هذا الحد وصاروا يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام بمثل هذا النظم فهم طواغيت، لانهم تجاوزوا ما كان يجب عليهم أن يكونوا من متابعة الشريعة .
وأما قوله – رحمه الله – " أو مطاع " فيريد به الأمراء الذين يطاعون شرعاً أو قدرا، فالأمراء يطاعون شرعاً اذا أمروا بما لا يخالف أمر الله ورسوله، وفي هذا الحال لا يصدق عليهم أنهم طواغيت، والواجب لهم على الرعية السمع والطاعة، وطاعتهم لولاة الأمر في هذا هذا الحال بهذا القيد طاعة لله عز وجل ) [شرح ثلاثة الأصول :ص151].
ومما تقدم – من نقول – يتبين لك – أخي القارئ – معني الطاغوت، وخلاصته، تتمثل في أن يصرف مخلوق لنفسه أحدى هذه الأمور الثلاثة:
1- أن يصرف مخلوق لنفسه فعلا من أفعال الله عز وجل، كالخلق أو الرزق، او التشريع. . . الخ .
2-أن يصرف مخلوق لنفسه صفة من صفات الله عز وجل، كعلم الغيب .
3-أن يصرف مخلوق لنفسه عبادة من العبادات، كالدعاء، أو النذر، أو ذبح القربان، والتحاكم. . . الخ .
فهذه الأمور الثلاث من صرف منها شيئاً لنفسه فهو طاغوت وند لله تعالى .
رؤوس الطواغيت :
ذكر أهل العلم أن الطواغيت كثيرة، ولكن رؤوسهم خمسة :
1- إبليس : لعنه الله، وهو الشيطان الرجيم قال تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم الا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } .
2- من عبد وهو راض : أي عبد من دون الله وهو راض بالعبادة، سواء عبد في حياته، أو بعد مماته اذا مات وهو راض بذلك . قال تعالى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } .
3- من دعا الناس الي عبادة نفسه { وان لم يعبدوه، وسواء أجيب لما دعا إليه أم لم يجب } .
4- من ادعى شيئاً من علم الغيب، قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا الا من ارتضي من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } .
5- الحاكم بغير ما أنزل الله عز وجل : لأن الحكم بما أنزل الله من توحيد الربوبية، لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضي ربوبيتة، وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم فقال سبحانه { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا الهاً واحداً لا إله هو سبحانه عما يشركون } .
كيف يتحقق الكفر بالطاغوت ؟
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : ( فأما صفة الكفر بالطاغوت فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم ) [ الجامع الفريد : 265] .
ومعني كلامه – رحمه الله – أن صفة الكفر بالطاغوت يلزم منها خمسة أمور :
الأول : الاعتقاد ببطلان عبادة الطاغوت، قال تعالى { ذلك بأن الله هوالحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هوالعلي الكبير } .
الثاني : الترك والاجتناب : وهو ترك عبادة الطاغوت، قال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
والترك هنا على ثلاثة أقسام : الترك بالاعتقاد، والترك بالقول، والترك بالفعل، ولا يكون العبد مجتنبا للطاغوت وتاركه حتي يأتي بهذه الأقسام الثلاثة من الترك :
لأن من الناس من يترك بقوله وفعله ولا يترك باعتقاده، وهذا هو حال المنافق .
ومن الناس من يترك باعتقاده ولا يترك بقوله ولا بفعله وهذا من يسجد للطاغوت أو يستغيث به، أو ينذر له، أو يذهب ويتحاكم إليه، ويدعي أن اعتقاده سليم .
الثالث : العداوة : قال تعالى حاكيا عن ابراهيم عليه السلام في قوله { قال أرأيتم ما كنتم عبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فانهم عدولي إلا رب العالمين } .
الرابع : البغض : قال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } .
وفي الدرر السنية الدعوة النجدية [1/93]، وذلك في تفسير قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } : ( هذه الآية تدل على أن الانسان اذا عبد ربه بطاعته ومحبته ومحبه ما يحبه، ولم يبغض المشركين ويبغض أفعالهم ويعاديهم فهو لم يجتنب الطاغوت، ومن لم يجتنب الطاغوت لم يدخل في الإسلام فهو كافر، ولو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل ويصوم النهار، وتصبح عبادته كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة، أو كمن يصوم في شدة الحر وهو يفعل الفاحشة في نهار رمضان ) أ.هـ
الخامس : تكفيره : أي تكفير الطاغوت، وتكفير من عبده وتولاه، وتكفير كل من أتى بملة الكفر أو دعا إليها .
الركن الثاني : الإيمان بالله :
وأما الركن الثاني من أركان التوحيد فهو الإيمان بالله وحده .
والإيمان بالله : هو أن تؤمن بالله عز وجل وتفرده بجميع أفعاله الربوبية، واسمائه وصفاته، وتفرده بجميع أنواع العبادة التي لا تكون إلا له .
ومن هنا فان الإيمان بالله تعالى على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : الإيمان بربوبية الله : وهو أن تؤمن بأفعال الله تعالى الخاصة بربوبية، كالخلق والرزق والتشريع وغيرها من أفعال الله وتوحده وتفرده بها دون ان تصرف منها شيئاً لغيره، قال تعالى : { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } .
القسم الثاني : الإيمان باسماء الله وصفاته : وهو أن تؤمن بما أثبته الله تعالى لنفسه من الاسماء والصفات، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل، قال تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .
القسم الثالث : الإيمان بألوهية الله : وهو أن تؤمن بأن الله هو الاله المعبود وحده، وأن جميع العبادات من دعاء واستغاثة ونذر وغيرها من العبادات هي حق محض له سبحانه وتوحده وتفرده بها دون ان تصرف منها شيئاً لغيره، قال تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } .
وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[مجلة النفير | عدد يوليو 2001م]