إن الأمم في مشارق الأرض ومغاربها تطمح إلى أن يكون الحكم السائد في بلادها الديمقراطية والتي هي شكل من أشكال الحكم وأسلوب من أساليب الحياة وتعني كلمة الديمقراطية بالتحديد حكم الشعب وقد وصف الرئيس الأمريكي إبرا هام لينكون مثل ذلك الحكم بأنه حكم الشعب بالشعب وللشعب.
وظل الإقرار بمبادئ المساواة وحرية الفرد على مر التاريخ من أهم السمات للحياة الديمقراطية وتبعا لذلك فينبغي للمواطنين وبالتساوي أن يحددوا الحماية لأشخاصهم وممتلكاتهم وحقوقهم وينبغي أن يمنحوا فرصا متساوية لممارسة حياتهم وأعمالهم كما يحب أن يكونوا أحرارا في حدود القانون ليعتقدوا ويسلكوا ويعبروا عن أنفسهم بحرية تامة.
ونحن كأمة إسلامية ندين بالرب إلها وبالرسول صلى الله عليه وسلم نبيا قد هدينا إلى الصراط المستقيم والطريق القويم وذلك بإتباعنا للوحي الذي أنزله الله على رسوله الأمين ونحن لنا ما يخصنا دون سائر الأمم ونسير في إطار الشريعة والتي هي حكم الله , وبالتالي فنحن مطالبين بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في سائر الأمور , وإن كنا ذكرنا الديمقراطية في هذا المقال لأنها أصبحت الكلمة التي يعشقها كثير من أبناء وبنات هذه الأمة وإلا ففي ديننا الكفاية والشمولية وهو كما قرره علماءنا الفضلاء بأنه صالح لكل زمان ومكان.
وإن المتأمل في واقع الأسرة يجد أنها نظاما فيه شعب وله زمان ومكان في هذه الكرة الأرضية , وشعب الأسرة هم كل من الزوج والزوجة والأطفال من كلا الجنسين . وإني ومن خلال عملي كمستشار في شؤون الأسرة أجد أن النظام القائم لإدارة هذه الشعوب الأسرية هو النظام الديكتاتوري المقيت فالأب هو الآمر الناهي وهو المتفرد بالقرارات وإن لم نقل كل القرارات فأغلب القرارات من لباس الزوجة إلى تخصص الأبناء الدراسي إلى ما يشاهدون وما لا يشاهدون في التلفاز إلى اختيار الألعاب وألوانها وأحجامها ونحو ذلك. وهذا الأب الدكتاتوري قد يكون من المطالبين والحالمين بتطبيق نظام الديمقراطية بمفهومها السابق على ارض دولته ( أُسرته) التي يعيش فيها والتي ذكرت جزء منها في أول هذا المقال ولكنه في مقابل حماسه وأحلامه للتطبيق على مستوى الدولة نجده من أول الفاشلين في تطبيقه على مستوى دولته الصغيرة ( أسرته ) .
ولعلي أضرب بعض الأمثلة لمثل تلك الأنظمة الديكتاتورية التي تمارس ضد الأسرة :
- اتصلت بي أحد الفتيات وهي تبكي والسبب في ذلك أن زوجها ضربها حتى أغمي عليها أمام أبنائها الثمانية والسبب في ذلك أنها تمنعه من الاستمتاع مع الخادمة.
- زوج عمره 53 سنة ومتزوج من 38 سنة يضرب زوجته على مرأى ومسمع من أولاده التسعة والسبب أنه يتقدم لخطبة بعض الفتيات ويرفضون وبالتالي من المؤكد أنها قد عملت له سحرا وبالتالي فهي تستحق الضرب.
- ثلاث أخوات أعمارهن كالتالي 27 و23 و22 سنة ووالدهم من أصحاب التخصصات الأكاديمية العالية ويرفض فكرة زواجهن على كثرة الخاطبين ويرفض أن يتدخل أحد لمعالجة الوضع وعندما تدخل خال البنات أسكته بأن ذلك يخصه وبناته فقط والبنت الكبيرة أصيبت بحالة نفسية شديدة بسبب هذا الوضع ومع ذلك فلا يكف والدهن من السفر للخارج والزواج وأخر فتاة تزوجها عمرها 16 سنة , واجتمعن البنات وكتبن لوالدهن العبارة التالية على مكتبه ( حرمك الله السعادة كما حرمتنا الزواج والأولاد ) وحجته الغريبة أنه يخشى عليهن من الطلاق .
- شاب عمره 26 سنة متزوج يرفع الصوت على أمه ويضرب زوجته لأتفه الأسباب لدرجة أنه يقوم بتقطيع شعر رأسها لأتفه الأسباب.
- امرأة متزوجة من رجل مطلق وعنده ولد وقامت بتربيته والمشكلة التي تعانيها هو أن هناك قاعدة تسير حياة زوجها وبالتالي حياة الأسرة وهذه القاعدة هي ( أن المرأة تابعة وليست متبوعة ) بمعنى أن عليها طاعته بكل ما يريد علما أنه لم تتواني في خدمته هو أو ولده في شيء وتذكر أن من أثار هذه القاعدة أنه كل يوم والآخر يختلق المشاكل لأتفه الأسباب .
- أخت لها أخ عمره 39 وجامعي وموظف رفع في أحد الأيام صوته على أمه ولما ناصحته أخته بعدم تكرار ذلك ضربها بوحشية بالغة طالبا منها عدم التدخل في مثل هذه الشؤون.
- زوج ناقشته زوجته عن كثرة خروجه وبينت أن لهم حق عليه فقام بضرب زوجته –فبماذا تتصورون ضربها – لقد قام بضربها بأحد أبنائها الصغار على بطنها وكانت حاملا في أشهرها والأولى والنتيجة أن أسقطت الحمل .
- زوج في مكان مرموق في الدولة ابتعثه إدارته لدورة لمدة سنة إلى بريطانيا ورفض مقابل ذلك أن يأخذ زوجته وولديه معه علما أن زواجهما من ثلاث سنوات فقط وإذا فاتحته عن ذلك أسكتها وغضب عليها بشدة وفي النهاية سافر وتركها لوحدها.
ولو تسألنا عن واقع الديمقراطية في السنة النبوية ؟ أو ما هي ملامح الديمقراطية –الجميلة كما هي تحلو لكثير من الناس – في السنة النبوية ؟ نعم لو تأملنا في ذلك لوجدنا كيف أسس نبينا صلى الله عليه وسلم تلك الديمقراطية الأسرية بكل إيجابية بما يكفل تحقيق النتائج الإيجابية في حياة الشعب الأسري –الزوج وزوجته والأبناء عموما- فهل يمكن أن نكون ديمقراطيين في بيوتنا مع زوجاتنا وأبنائنا وهل يمكن أن نبتعد في المقابل عن النظام الديكتاتوري المقيت.
الديمقراطية في السنة النبوية :
التأمل الأول :
ومن تلك الديمقراطية ما ورد في حديث أنس –رضي الله عنه –في البخاري قال : "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه نفسها قالت: يا رسول الله ألك بي حاجة ؟ …" وهذا فيه حرية التعبير وهي مطلب من مطالب الديمقراطية وقد قال ابن حجر في شرح هذا الحديث فيه جواز عرض المرأة نفسها على الرجل وتعريفه رغبتها فيه وأن لا غضاضة عليها في ذلك .
التأمل الثاني :
الاهتمام برضا من هم تحت ولايتك فعن أبي هريرة –رضي الله عنه-حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تنكح الأيم حتى تستأ مر ولا تنكح البكر حتى تستأذن …"قال ابن حجر ويؤخذ من قوله حتى تستأ مر أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك وفي هذا كفالة لحق الرأي وعدم المصادرة لأراء الآخرين وأنت في بيتك قد توجد عندك بنتا بكرا أو ثيبا فكن ديمقراطيا معهن كما في هذا الحديث.
التأمل الثالث :
ما جاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بُضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها "والمراد لا يتبعه رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها قبل الغزو فهنا قدم الدخول والتمتع على الجهاد وهذا فيه احترام مشاعر من هم معك حتى في مثل هذه المواقف الحرجة.
التأمل الرابع :
الوصية العظيمة بالنساء فقد قال صلى الله عليه وسلم :" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيرا …"فتأملوا كيف جمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر وعدم إيذاء الجار والوصاية بالنساء بل إني أرى أن من أعظم المجاورات على الإطلاق مجاورة الزوج لزوجته فكأنه يريد أن يقول من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره والمرأة من الجيران فاستوصوا بهذه الجارة خيرا.
التأمل الخامس :
أن الجميع يتحمل المسؤولية الزوجة والزوج على حد سواء وهذا من أسس الديمقراطية الحديثة بل إن الجميع يتحمل المسؤولية فعن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم :" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته … والرجل راع على أهله وهو مسؤول والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة … ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول ".وبالتالي فزوجتك وأبناؤك من جملة رعيتك ونفس الخطاب متجه للزوجة وفي نفس الحديث فزوجك وأبناؤك
التأمل السادس :
الاقتراع لتحقيق الرضا بين الأطراف ومن ذلك ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه.وهذا ما يحدث في بعض الأحيان عندما ترغب الأسرة السفر إلى أحد المناطق سواء الداخلية أو الخارجية فيقع بينهم الخلاف فيحملهم الأب على ما يريده دون مراعاة لمشاعر من معه وأذكر في هذا الجانب أنني كنت في زيارة لأحد البلاد العربية وقابلت أحد الشباب وكان حديث عهد بالزواج وكان يتذمر من المقام في هذا البلد فلما دار الحديث بيننا اتضح أنه لا يرغب في هذا البلد وإنما كان استجابة لإصرار زوجته وبعد لقاء به بيوم أو يومين رأيته قد حمل حقائبه فلما سألته قال لم أستطع إكمال الأيام وسأذهب للدولة التي ارغب بها , وما اعتقده لو استخدما هذين الزوجين نظام القرعة وخرجت القرعة لزيارة هذه الدولة التي لا يرغب بها الزوج فأعتقد أن سيسلم بالأمر لأن هناك قرعة وهو راض على كل حال.
هذه نماذج لروائع الديمقراطية النبوية وليس المقصود التكلف فيها بل هي مبثوثة بشكل سهل ويسير مارسه النبي صلى الله عليه وسلم ومارسه الصحابة من بعده وهكذا استمر الوضع على ذلك فمن مقل ومن مكثر ومن معتدل وما نريده هو الاعتدال وما نريده هو أن يعرف كلا الزوجين أن الزواج حياة شعب وليس حياة رجل فقط . وعلى ذلك لينوا في أيدي نسائكم وأبنائكم بما لا يفسدهم عليكم وعليكم بالرفق وهو من الديمقراطية الحديثة وهو موجود في تراثنا الإسلامي فقد قال صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة :" يا عائشة ارفقي فإن
الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه ولا نزع من شيء قط إلا شانه " وهو من حديث عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف " وفي رواية جرير قال قال صلى الله عليه وسلم :" من يحرم الرفق يحرم الخير كله ".وإن كان موضوعنا عن الأزواج فهو ولا شك حديث عن البيوت واستمتعوا بما قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر حيث قال صلى الله عليه وسلم :" إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق" فكما هو حديث جميل تبهج له الأنفس وتتلذذ لسماعه القلوب الواعية .
وفي الختام اللهم كما حسنت خلقنا فحسن أخلاقنا مع زوجاتنا وأبنائنا وإخوانا المسلمين والمسلمات .