عبدالله آل ملحم
لو كنا نتكلم شعراً لصار النثرُ القصيدَ الذي يطربنا ولا شيء سواه، والشعراء قديماً لم يرتفع شأنهم إلا لقلتهم، ولكونهم الاستثناء أمام أغلبية لا تقول الشعر. الشعر ديوان العرب، ولأهميته نمقوا حوله الأساطير، وزعموا أن الشاعر لا يكون شاعراً إلا إذا كان له قرين من الجن يوحي له بما تجود به قريحته، وفي سبيل ذلك انتحلوا أبياتاً زعموا نظم الجن لها، وكأنهم أرادوا أن يعتذروا لأنفسهم إذ لم يتحلوا بفضيلة نظمه، ومن هنا جاء احتفاؤهم بميلاد كل شاعر يولد بينهم، وهو احتفاء محسوب؛ كون شاعر القبيلة كان بمنزلة وزارة إعلام تنشر أخبارها، وتبشر بانتصاراتها، وتنعى فرسانها، وتؤرخ لمآثرها، وتصف كل ما يتعلق بثقافتها.
ومن الناحية الفنية فالقصيدة – أي قصيدة – لم تكن لتحظى بكل ذلك الاحتفاء إلا لأنها محكومة بقانون الجودة والندرة معاً، وهما المعياران اللذان يهبان لجمالياتها قيمة تذوقية لها طعم الشهد، ولون الربيع، وأريج العطر، وأحياناً تكون لقصائدهم سطوة على وعي السامع ووجدانه فتذره وكأن عليه شيء من أثر السحر على المسحور، أما الذين لم يكونوا شعراء قط فلن تراهم في الغالب يقتربون من حمى الشعر، أو يدعون الانتماء إليه، أو يحشرون أنفسهم في زمرة مُنتسبيه، بل إن بعضهم كان يبالغ في مداراة موهبته، حتى وبذرة إبداعه تتفتق متحفزة للظهور، ومع ذلك يكذب مخاض ظهورها، ويتكتم على إخفائها، حتى لكأنه يئدها وأداً، غير أن هذا الكبت لا يدوم طويلاً حين ينفجر ينبوع الشعر رغماً عنه، كما انبجست مواهب النابغة الذبياني والنابغة الجعدي وسواهما. وحين سمعت عن قرب إصدار نادي الأحساء الأدبي «معجم شعراء الأحساء المعاصرين»
أحسست بشيء من الفرح؛ لأني سأمسك المشهد الشعري من أطرافه، وسأقرأ لتلك الأسماء التي أعرفها، ولتلك اللآلئ المخبوءة التي لم أعرفها، غير أني لما احتويت المعجم بين يدي صدمت وأنا أرى من بين أولاء وأولئك أسماء لا علاقة لها بالشعر، إلا أن تكون لقبيلة كندة العربية صلة بدولة كندا الأمريكية! وأياً كانت الظروف فليس من المبرر أن يضع الجواهري مقتنياته النفيسة إلى جانب مصاغات مغشوشة وأخرى مقلدة، وهذا الذي اجترحته لجنة المعجم، فولد معجمها كسيحاً متعثر الخُطى، وهذا الذي جعل البعض ينأى بشعره عن الانضمام لهذا الحراج الشعري الذي ضم معروضات قيمة وأخرى رديئة، والسبب برأيي أن التبني المفتوح الذي أشرعت أبوابه لجنة المعجم هو ما جعل المتشاعرين يجترئون على تقحم هذا المعجم الذي استحال إلى معسكر إيواء لاحتواء المشردين شعرياً، وإذا ما تعمقت في المعجم فستجد في الداخل: محرر صحيفة لم يجرؤ قط على الانتساب لقبيلة الشعراء إلا أنه لما رأى الناس يدخلون دخل معهم، وآخر خطيب جمعة لم يُعرف إلا عبر منبره فلما رأى الناس يدخلون دخل، وآخر تخرج فلم يجد عملاً فأحب أن يكون شاعراً بدلاً من عاطل فدخل مع الداخلين، وقاصة لم تُعرف بغير كتابة القصة رأت الباب موارباً فدفعته ودخلت، وأكاديمي نظام قيل له إنك شاعر فصدق المسكين ودخل.. وما ينبغي لعشيرة الدخلاء فهمه أن التبني الشعري لا يكفل للمُتبنى حقوق البنوة، ولا نفقاتها المستحقة، ولا تركتها المفروضة إذا ما تعنت قسمتها يوماً. أجمل ما في هذا المعجم أنه جدد انتماء غازي القصيبي لبيئته الشعرية التي وُلد فيها، بعد أن حاول البعض نفيه عنها، فأضعف بتعصبه الأيديولوجي شعراء مصره حين أبعد عنهم أحد أقوى فرسانهم. وفي العموم، هذه المقالة لا تقلل من الجهد المبذول بقدر ما تبين أن في هذا المعجم متشاعرين كثراً إلى جانب شعرائه المستغنين بتفوقهم عن كل إشادة وإطراء!
*نقلا عن "الجزيرة" السعودية