الاحتـــــــــــــــــراس.
وهو أن يكون الكلام محتملا لشيء بعيد فيؤتى بما يدفع ذلك الاحتمال، وهذه بعض المواضع من كتاب رب البرية ظهر فيها هذا النوع البلاغي
كقوله تعالي
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} القصص ((32)) ، فاحترس سبحانه بقوله[ من غير سوء ]عن إمكان أن يدخل في ذلك البهق والبرص.
وقوله تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} المائدة ((54)) فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة وهو السهولة لتوهم أن ذلك لضعفهم فلما قيل{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} علم أنها منهم تواضع ولهذا عدي الذل بعلى لتضمنه معنى العطف.
وقوله تعالى: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} النمل ((18)) فقوله {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} احتراس بين أن من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنهم لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بالا يشعروا بها.
وقد قيل: إنما كان تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها ولذلك أكد التبسم بالضحك لأنهم يقولون تبسم كتبسم الغضبان لينبه على أن تبسمه تبسم سرور.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هود ((44)) ،فإنه سبحانه لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان عقبهم بالدعاء عليهم ووصفهم بالظلم ليعلم أن جميعهم كان مستحقا للعذاب،.
احتراس من ضعف يوهم أن الهلاك بعمومه ربما شمل من لا يستحق العذاب فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم على استحقاقهم لما نزل بهم وحل بساحتهم مع قوله أولا: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} هود37
وأعجب احتراس وقع في القرآن قوله تعالى
مخاطبا لنبيه عليه السلام: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} القصص ((44)) الآية.
وقال عن موسى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ}مريم ((52))
لما نفى الله – تعالى – عن رسوله وحبيبه – صل الله عليه وسلم – كونَه بالمكان الذي قضى لكليمه الأمرَ ، عرّف المكان بالجانب الغربي ، ولم يصفه باليمين ؛ لإرادة اللطف مع النبي الكريم أن ينفيَ عنه كونه بالجانب الأيمن ، والتيامن أمر محبوب عند العرب وفي الإسلام ، ولذا جرى التعبير على ما جرى عليه ، مع الأخذ بالإشارة : أن سيناء تقع غرب مكة
ذكر الجانب الأيمن تشريفا لموسى فراعى في المقامين حسن الأدب معهما تعليما للأمة وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب.
وقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} المنافقون ((1)
"وجملة والله يعلم إنك لرسوله معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وهذا الاعتراض لدفع إيهام من يسمع جملة والله يشهد إن المنافقين لكاذبون أنه تكذيب لجملة إنك لرسول الله فإن المسلمين كانوا يومئذٍ محفوفين بفئام من المنافقين مبثوثين بينهم هجّيراهم فتنة المسلمين فكان المقام مقتضياً دفع الإِيهام وهذا من الاحتراس
ومنه قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} النحل ((26)) ، والسقف لا يكون إلا من فوق لأنه سبحانه رفع الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون من تحت بالنسبة فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لآخرين فرفع تعالى هذا الاحتمال بشيئين وهما قوله: عَلَيْهِمُ ولفظة خَرَّ لأنها لا تستعمل إلا فيما هبط أو سقط من العلو إلى سفل.
وقيل: إنما أكد ليعلم أنهم كانوا حالين تحته والعرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط فجاء بقوله:[ مِنْ فَوْقِهِمْ ]ليخرج هذا الشك الذي في كلامهم فقال:[ من فوقهم ]أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما افلتوا.
وقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} البقرة ((223)) لأنه لما كان يحتمل معنى [كيف] و[أين] احترس بقوله: [حرثكم] لأن الحرث لا يكون إلا حيث تنبت البذور وينبت الزرع وهو المحل المخصوص.
وقوله: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} الزخرف ((39)) وذلك لأن الاشتراك في المصيبة يخفف منها ويسلى عنها فأعلم سبحانه أنه لا ينفعهم ذلك
قوله تعالي :
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) سورة آل عمران (92)
"ولما كان الإنفاق على أي وجه كان مثابا عليه العبد، سواء كان قليلا أو كثيرا، محبوبا للنفس أم لا كان قوله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله (وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه."
قوله تعالي :
(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) سورة الحج (78)
"ولما كان قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ )ربما توهم متوهم أن هذا من باب تكليف ما لا يطاق، أو تكليف ما يشق، احترز منه بقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )أي: مشقة وعسر، بل يسره غاية التيسير، وسهله بغاية السهولة، فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس، لا يثقلها ولا يؤودها، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف، خفف ما أمر به، إما بإسقاطه، أو إسقاط بعضه.
ويؤخذ من هذه الآية، قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " فيدخل في ذلك من الأحكام الفرعية، شيء كثير معروف في كتب الأحكام."
قوله تعالى :
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) سورة الحديد (10)
"ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله: (وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى )أي: الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، كلهم وعده الله الجنة، وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم حيث شهد الله لهم بالإيمان، ووعدهم الجنة."