بسم الله الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى اله وصحبه ومن والاه أما بعد :
لقد سمع الكثير منا سعي السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس إلى استصدار قرار من الأمم المتحدة يعترف بقيام دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين الحبيبة.
وقد أيدت أكثر من 120 دولة من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية هذه المبادرة ولكن كالمعتاد فقد عارضت ذلك المشروع الولايات المتحدة الأمريكية ودولة اليهود في فلسطين بينما لا تزال أوروبا مترددة .
كما قامت منظمة آفاز بعمل حملة للاعتراف بدولة فلسطين فقد حصلت تلك الحملة على 841 , 404 توقيعا والمطلوب نصف مليون توقيع .
والذي يهمنا هنا ما مدى تأثير تلك الخطوة على الموقف المتحد استراتيجيا بين أمريكا ودولة اليهود في فلسطين .
من تابع خطب رؤوساء الدول في الجمعية العمومية للأمم المتحدة يجد أن خطبة نتنياهو كانت مباشرة بعد خطبة عباس وليس هذا الترتيب اعتباطيا, ذلك حتى ينسف نتنياهو بعض الاتهامات التي كالها عباس إلى دولة اليهود, والتي منها عدم جدية اليهود في السلام ومن ثم يكر نتنياهو في اتهام الفلسطينيين بالإرهاب الإسلامي وغيرها من الاتهامات التي تصب في مصلحة الدولة اليهودية . كل هذا يحدث ليُعرَف مدى تغلغل الدوائر اليهودية في أروقة ومؤسسات الأمم المتحدة التي نشكو إليها مظلمتنا . فكنا كمن يشكو إلى الذئب عدوانه على الغنم .
لقد اظهر نتنياهو خلال خطابه براعة في التمسكن والمظلومية والتباكي كعادة اليهود والتي لن تنفك عنهم وكما قال تعالى : {… وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }البقرة .
فادعى أنه هو الطرف المظلوم في طرف المعادلة الفلسطينية اليهودية وان الآلاف من الصواريخ تنهال عليه من قبل المقاومة الفلسطينية. وان الآلاف من اليهود قد قتلوا بيد الفلسطينيين في دولته, وقد ضخم من قضية اسر الجندي شاليط وأنها خلاف المواثيق الدولية وخلاف حقوق الإنسان ونسي الآلاف من الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال!
فصدق فيهم قول الصحابي الجليل عبد الله بن سلام الخبير بهم أنهم قوم بهت .
إن قلب نتنياهو للحقائق الواضحة وضوع الشمس في رابعة النهار والتي لا ينكرها عاقل, ذلك لغياب الحق في مثل تلك المؤتمرات والتي ترد عليه وتوقفه عند حده وتسكِت لسانه.
وكان مثله كمثل قول أبو الطيب المتنبي:
وإذا ما خَلاَ الْجَبانُ بأَرْضٍ … طَلَبَ الطعْنَ وَحْدَه والنّزالا
وكقول أبو العتاهية:
وإذا الجبان رأى الأسنة شُرَّعاً … عاف الثباتَ فإن تفرد أقدما.
لقد ركز نتنياهو في خطابه على عدة نقاط منها يهودية الدولة وجَعَلَها من مسائل الخلاف القوية والأساسية مع الفلسطينيين وكذلك قضية الأمن واللاجئين .
فعن يهودية الدولة فقد أرعد نتنياهو وأزبد بضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل وأنها من الشروط للتوصل لأي اتفاق مع الفلسطينيين وخلال خطابه تبجح بان اليهود امة سلام وليسوا بعنصريين وذلك لأنه يعيش الآن في دولة اليهود والمحتلة عام 48 حوالي مليون عربي بين غالبية من اليهود .
ولكن نقول له من فمك أدينك: الإصرار على يهودية الدولة في تلك البقعة من الأرض والتي تحوي على أديان وطوائف عديدة أليس هو مصادرة لحقوق الآخرين من المسلمين والنصارى وغيرهم وتسمية الدولة باسم قسم من المجتمع دون الآخر أليس هذا هو العنصرية بعينها؟!! نحن هنا نقيس الأمور بمقياسهم طبعا .
ثم هضم حقوق حوالي 4.7 مليون فلسطيني في الشتات وعدم السماح لهم بالعودة إلى أرضهم وديارهم أليس هذا هو قمة الظلم والعدوان .
كذلك للاستدلال على يهودية تلك الدولة قال نتنياهو إن يعقوب عليه السلام قد سكن تلك الأرض أي فلسطين قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة ونقول له إن يعقوب عليه السلام نبي التوحيد نحن الذين ننتسب إليه وليس انتم الذين غيرتم وبدلتم, ولكن مرة أخرى ولنتكلم بمقاييسهم, من سكن قبل يعقوب تلك الأرض؟ بل قبل هجرة إبراهيم عليه السلام لها لم تكن ارض فلسطين خالية بل كان فيها السكان الأصليين ثم إن يعقوب عليه السلام لم يحكم تلك الأرض بل كان قد سكن فيها .
ثم كعادة اليهود لم ينسى أن يعزف على سيمفونية المحرقة أبان حكم النازية .
تلك المحرقة والتي كم فعل اليهود أضعافها من المحارق وعلى مدى تاريخهم, هذا إن سلمنا بوجود محرقة أصلا وقد فندنا تلك الأساطير بمقالات سابقة .
من المؤسف أن ممثلي المسلمين في تلك المؤتمرات وأمثالها يتحاشون التكلم عن الإسلام أو التحاكم إليه, وأما هذا اليهودي فيصر وعبر اكبر مؤسسة أممية في العالم على نعت دولته باليهودية بل ويطعن بالمسلمين حيث يدعي إن هنالك إرهاب إسلامي .
إن تلك الحجج والشبهات التي أثارها نتنياهو يستطيع اصغر فلسطيني الرد عليها وبسهولة وبدون عناء ولكن كما قلنا قد خلت الساحة لهذا اليهودي دون أن يجد من يرد عليه الصاع صاعين .
ذلك الموقف المزري يذكرنا بموقف هارون الرشيد المشرف عندما رد على نقفور ملك الروم الذي منع إعطاء الجزية للمسلمين حيث رد عليه هارون رحمه الله على ظهر الرسالة التي بعثها إلى هارون فقال له فيها: من هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم … الرسالة . فما كان من هذا النصراني إلا أن أدى فروض الطاعة إلى هارون الرشيد رحمه الله .
نحن الآن لا نطمع بمثل هذا الموقف ولا بنصفه بل بعشر معشاره وَليَحزن المرء أن يصل بنا الحال أن نستجدي السلام من عدونا .
ولرب سائل يسأل لماذا سمحت أمريكا لعباس على حشد كل تلك الدول والمنظمات الداعمة لمشروع إقامة دولة فلسطينية ولدى أمريكا من الامكانيات على وأد ذلك المشروع قبل وصوله إلى الأمم المتحدة بالضغط على عباس نفسه او غيره وتلك الطرق تعرفها أمريكا قبل غيرها .
لقد بلغ اوباما في اجتماع له مع عباس انه سوف يستخدم حق النقض ( الفيتو ) في حال طلب عباس من الأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطينية .
وقد قال بان كيمون نفسه في مؤتمر صحفي بنيويورك بالحرف :
"أطلب منهم (الفلسطينيين) الدخول في مفاوضات مفيدة، وعلى المجتمع الدولي واجب إيجاد الظروف الملائمة لذلك".
أما كاثرين آشتون ممثلة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فقد أعربت في بيان لها عن أملها في استئناف المفاوضات بين تل أبيب ورام الله .
وقال موظف بارز في الأمم المتحدة في هذا السياق إن اشتون تحاول للوصول إلى صفقة مع الفلسطينيين تتضمن بيانا من الرباعية يحدد الخطوط العريضة لمستقبل محادثات السلام وقرار للجمعية العامة للأمم المتحدة يكون مقبولا لدى الغرب .
هذا موقف تلك القوى من هذه الخطوة التي تبنتها السلطة .
أي أن المشروع قد قتل قبل وصوله إلى الأمم المتحدة إذا لماذا السماح لعباس بالسعي الحثيث والوصول بهذا العدد من الدول المؤيدة لخطوته في إقامة دولة فلسطينية ؟!
السبب والله اعلم : هو استدراج عباس لتحشيد اكبر عدد ممكن من الدول لتأييد مبادرته ومن ثم عند وصول تلك المبادرة الى الاعتراف بدولة فلسطينية يتم وأد تلك المبادرة عن طريق فيتو أمريكي جاهز .
ذلك لارسال عدة رسائل منها :
1- إصابة الفلسطينيين ومن آزرهم من العرب بالإحباط والهزيمة فأنصاف الحلول هزائم. إذ عند الشعور بالوصول إلى الهدف بعد كل تلك الجهود وتكون النتيجة سلبية فما هي النتيجة إلا الإحباط والهزيمة النفسية.
2- عندما يستعمل الفلسطينيون أقوى أوراقهم ولم يصلوا الى نتيجة فعندئذ يمكن إملاء أي شروط من قبل اليهود والأمريكان ويتقبلها الطرف المفاوض الفلسطيني لأنه سيشعر انه هو الطرف الضعيف ( ونحن نتكلم عن عموم الشعب حيث صور لهم أن هذا مشروع ضخم ومن وراءه نتائج ايجابية تصب في مصلحة الشعب الفلسطيني).
3- بعد هزيمة المشروع في الأمم المتحدة هذا يثبت أن دولة اليهود دولة قوية وغير ممكن ازاحة مواقفها بسهولة وفي ذلك جرعة معنوية للشعب اليهودي في فلسطين وخاصة بعد التخلخل الذي حصل وتغير عدد من القيادات في الدول العربية بعد عدد من الثورات في تلك البلدان .
4- كذلك استعمال الفيتو الأمريكي أمام مشروع تؤيده معظم دول العالم وفي هذا الوقت بالذات والذي تعاني منه السياسة الأمريكية بعض الهزائم في أفغانستان والتعثر في العراق يضاف إليه الاقتصاد المتردي . رفض القرار بهذه الطريقة يعطي رسالة أننا موجودون وبقوة في الساحة الدولية .
ومن الممكن تمرير القرار والاتفاق على حل وسط وهو إعطاء الفلسطينيين مقعد مراقب في الأمم المتحدة كما تطلب فرنسا وذلك لإيهام الفلسطينيين أنهم قد حققوا شيئا وفي الحقيقة انه انتصار وهمي , وبذلك يمكن الحصول على اكبر عدد من التنازلات من طرف الجانب الفلسطيني .
إن كل مفاوضات يحتاج لها أن يكون الطرفين المتفاوضين قريبي التساوي في القوة ليِملي كل طرف على الآخر ما يصب في مصلحته وهذا ما فعله الرسول صلى الله في صلح الحديبية حيث ان كفار قريش كانوا يخافون من قوة المسلمين المتنامية .
لقد صرح اليهود بضعف الطرف الفلسطيني فقالوا على موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية في احد مقالاتهم :
فضلا عن ذلك, إن الاعتراف بدولة فلسطينية في هذه الأثناء إنما هو خطوة واهية وغير مقبولة حيث تخفق السلطة الفلسطينية حاليا في تلبية متطلبات الاختبارات الشرعية الثابتة لمكانة الدولة. وبصفة خاصة لا تجتاز السلطة الفلسطينية امتحان الحكومة الفعالة: انها لا تحكم الأراضي التي نحن بصددها. وبمقتضى الاتفاقيات القائمة لا تمارس السلطة الفلسطينية درجات متفاوتة من السيطرة الاّ على مناطق صغيرة نسبيا من الضفة الغربية.
وقالوا :
من الواضح أن اعترافا سابقا لأوانه بدولة فلسطينية سيجعل عملية التفاوض والمُثل العليا الخاصة بالحل الوسط والحوار عديمة المعنى. ويجب على جميع أولئك الذين يتوقون إلى السلام الحقيقي في هذه المنطقة رفض الجهود الفلسطينية الرامية إلى العمل بصورة أحادية الجانب وإلى التخلي عن العملية التفاوضية هـ.
إن تشرذم الواقع الفلسطيني على الأرض قد افقد الفلسطينيين كثير من الأوراق للمناورة بها، بينما يلعب اليهود على عامل تضييع الوقت والتسويف للحصول على أكبر المكاسب بعد يأس الجانب الفلسطيني من الحصول على أي مكسب .
نحن هنا نحلل الواقع على الأرض وإلا ففي ديننا الحنيف الحلول الكثيرة والنافعة لمصائب الأمة بل إن علماء الأمة الإسلامية لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا بينوها في كيفية التعامل مع الكافر المحارب إن في ساحات الجهاد أو في أحكام الهدنة والصلح مما فيه غنية عن كل ألاعيب السياسة الحالية التي لن يكون فيها حلول جذرية لهموم شعبنا الفلسطيني المظلوم إذ أن اليهود لن يتنازلوا عن شيء إلا تحت سلطان السيف قال تعالى : {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً }النساء53.
وليد ملحم
مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية – صنعاء
24/9/2011