يروي مؤرخو السيرة النبوية الشريفة أنه في يوم الإثنين السابع عشر من ربيع الأول من السنة السابقة على هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ( وقيل في 27 رجب من نفس السنة أي : في حدود سنة 620م) طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حول الكعبة ليلا وحيدا, ثم رجع إلى بيته وأوى إلى فراشه, وعند منتصف الليل جاءه جبريل(عليه السلام) وأخبره بأن الله- تعالى- يدعوه إلى السماء.
تحرك الركب الكريم على البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, وصلى رسول الله ركعات في بيت المقدس ومعه الملائكة الكرام, ثم عرج به عبر السموات السبع حتى وصل إلى سدرة المنتهى, وهناك شاهد جنة المأوى, وراح يصعد حتى وقف بين يدي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما وسجد- صلى الله عليه وسلم- قائلا: "التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله" فرد الحق – عز وجل- قائلا : "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته", فردت الملائكة لهذه التحية الربانية قائلة: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " (صحيح مسلم). وقد جعلت هذه التحية بداية التشهد الذي يردده المسلمون في صلواتهم التي فرضها الله- تعالى- عليهم في هذا الموقف العظيم, وأوحى الله- تعالى- إلى خاتم أنبيائه ورسله ما أوحى, وكان من ذلك الصلاة المفروضة على المسلمين كما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذه الرحلة المباركة من آيات ربه الكبرى ما لم يفصح القرآن الكريم عن تفصيله, وإن ذكرت السنة النبوبة المطهرة طرفا منه.
وبعد رحلة التكريم الإلهي تلك, عاد رسول الله- صلى الله عله وسلم- إلى بيت المقدس, حيث صلى بأنبياء الله ورسله إماما, ثم عاد إلى مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا. وعندما جاء الصباح حدث النبي- صلى الله علي وسلم- بأخبار رحلته وذهب بها المشركون إلى أبي بكر بن قحافة- رضي الله عنه- فكان أول المصدقين بها ومن هنا سمي باسم "الصديق" لقوله : إن كان قال ذلك فقد صدق, إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك. ولكن المشركين ظلوا يتناقلون الخبر في سخرية وتعجب, وتحدى بعضهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصف لهم بيت المقدس, فجلاه الله- تعالى- له, وطفق يصفه لهم وصفا تفصيليا, وفي ذلك يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "لما كذبتني قريش قمت في الحجر, فجلى الله لي بيت المقدس, فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه".
وفي صبيحة ليلة الإسراء كذلك جاء جبريل- عله السلام- ليعلم رسول الله كيفية الصلاة وأوقاتها, وكان- صلى الله عليه وسلم- قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحا ومثليهما مساء كما كان يفعل إبراهيم- عليه السلام-. وفي ذلك يروي كل من الترمذي والنسائي عن جابر بن عبدالله- رضي الله عنه- قال : "جاء جبريل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- حين زالت الشمس, فقال: قم يا محمد فصل الظهر حين مالت الشمس, ثم مكث حتى إذا كان فيئ الرجل مثله جاءه للعصر فقال: قم يا محمد فصل العصر, ثم مكث حتى إذا غابت الشمس جاءه فقال: قم فصل المغرب, فقام فصلاها حين غابت الشمس سواء, ثم مكث حتى إذا غاب الشفق جاءه فقال: قم فصل العشاء, فقام فصلاها, ثم جاءه حين سطع الفجر في الصبح فقال: قم يا محمد فصل الصبح ". وقد بين هذا الحديث أول كل وقت, وله بقية اشتملت على بيان نهاية الوقت, ومن تلك البقية "أنه جاءه في اليوم التالي, وأمره بصلاة الظهر حين بلغ ظل كل شئ مثله, وأمره بصلاة العصر حين بلغ ظل كل شئ مثليه, وأمره بصلاة المغرب في وقتها الأول, وأمره بصلاة العشاء حين ذهب ثلث الليل الأول, وأمره بصلاة الصبح حين أسفر جدا, ثم قال له: ما بين هذين وقت كله.
وفي وصف رحلة الإسراء يقول ربنا- تبارك وتعالى- في محكم كتابه ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الإسراء : 1).
والإسراء واقعة تاريخية لم ينكرها كفار قريش, وإن تعجبوا من كيفية وقوعها. فقد روى القاضي عياض في كتابه المعنون "الشفا بتعريف حقوق المصطفى " أن حادثة (الإسراء والمعراج) كانت قبل هجرته الشريفة بسنة, وأنه لما رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من رحلته المعجزة أخبر قومه بذلك في مجلس حضره من صناديد قريش كل من المطعم بن عدي, وعمرو بن هشام, والوليد بن المغيرة, فقال – صلى الله عليه وسلم- "إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد, وصليت به الغداة, وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس, فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم, وموسى, وعيسى, وصليت بهم وكلمتهم. فقال عمرو بن هشام مستهزئا : صفهم لي , فقال- صلى الله عليه وسلم- أما عيسى ففوق الربعة, ودون الطول, عريض الصدر, ظاهر الدم, جعد أشعر تعلوه صهبة (أي بياض بحمرة), كأنه عروة بن مسعود الثقفي. وأما موسى فضخم آدم طوال, كأنه من رجال شنوءة, متراكب الأسنان مقلص الشفة, خارج اللثة, عابس, وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي خلقا وخلقا. فقالوا يا محمد! فصف لنا بيت المقدس, قال- صلى الله عليه وسلم- : دخلت ليلا وخرجت منه ليلا, فأتاه جبريل بصورته في جناحه, فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصفه لهم قائلا: باب منه كذا في موضع كذا, وباب منه كذا في موضع كذا. ثم سألوه عن عيرهم (أي قوافل إبلهم ), فقال لهم- صلوات الله وسلامه عليه- : أتيت على عير بني فلان بالروحاء, قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها, فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد, وإذا بقدح ماء فشربت منه, فاسألوهم عن ذلك قالوا: هذه والإله آية. وأضاف- صلى الله عليه وسلم- قوله : ثم انتهيت إلى عير بني فلان, فنفرت مني الإبل, وبرك منها جمل أحمر, عليه جوالق (وهو العدل الذي يوضع فيه المتاع) مخطط ببياض, لا أدري أكسر البعير أم لا, فاسألوهم عن ذلك, قالوا : هذه والإله آية. وأضاف- صلوات ربي وسلامه عليه- قائلا : ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالتنعيم, يقدمها جمل أورق (أي لونه أبيض وفيه سواد), وها هي تطلع عليكم من الثنية, فقال الوليد بن المغيرة : ساحر؛ فانطلقوا فنظروا, فوجدوا الأمر كما قال- صلى الله عليه وسلم- وبدلا من أن يصدقوه رموه بالسحر – شرفه الله عن ذلك – مضيفين إلى بهتانهم هذا قولهم الباطل: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال. وتسارعوا إلى أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- قائلين: هل لك إلى صاحبك, يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس, فقال أبو بكر : أو قال ذلك ؟ قالوا نعم , قال: لئن كان قال ذلك فقد صدق, قالوا : أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال أبو بكر : نعم, إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. ولذلك لقب أبو بكر بلقب الصديق". (المستدرك للحاكم).
وهذا الحديث الصحيح هو وثيقة تاريخية على وقوع حادثة الإسراء , أما حادثة المعراج فقد أكدتها الآيات (1-18) في مطلع سورة "النجم" , وهي من خوارق المعجزات التي أخبرنا بها الله- سبحانه وتعالى- في محكم كتابه وهو خير الشاهدين وفي ذلك يقول :
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى *) (النجم: 1- 18)
وتعتبر رحلة الإسراء والمعراج أعظم معجزة حدثت في تاريخ البشرية كلها. فلم يسبق لنبي من الأنبياء ولا لرسول من الرسل أن طوي له المكان وأوقف له الزمان كما حدث مع خاتم الأنبياء والمرسلين ( صلى الله عليه وسلم ), كما لم يسبق لنبي من الأنبياء أن عرج به إلى سدرة المنتهى عبر السموات السبع وشرف بالمثول بين يدي الحضرة الإلهية وتلقى من التكريم ما لقيه. وكان في هذه الرحلة المباركة من معاني وحدانية الإله الخالق, ووحدة رسالة السماء والأخوة بين الأنبياء ما تجلى في الربط بين الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك, وما تجسد في إمامته لجميع الأنبياء والمرسلين ( صلوات ربي وسلامه عليه وعليهم أجمعين ). كذلك أكدت هذه الإمامة أن رسالته الخاتمة قد نسخت ما قبلها من رسالات, وأصبحت نور الله في الأرض وهدايته لجميع الخلق, فصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.