التصنيفات
مصلى المنتدى - تفسير وحفظ القران - ادعية و اذكار

التفسير المختصر – سورة الأحزاب تفسير الآيات27-33 لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، الآية الثامنة والعشرون والآيات التي بعدها تشكِّل مجموعة: محورها القدوة في الإسلام لها حساب خاص، فالأب قدوة في البيت، وخطأ الأب غير خطأ الابن، والمعلم قدوة، والطبيب في المستشفى قدوة، ومدير المستشفى قدوة، وأي إنسان يحتلّ ُمنصبًا قياديا ولو كان على مستوى الأسرة الذي هو أقل منصب قيادي، فلا بد أن تكون قدوة، والمعلم في الصف قدوة، ومدير المدرسة قدوة، فالذي يحتل منصبا قياديا له حساب خاص.

قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)﴾
[سورة الأحزاب]
لماذا قال تعالى:
﴿فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)﴾
[سورة الأحزاب]

" منكن " أي يا نساء النبي، أجرا عظيما، لأن زوجة النبي عليه الصلاة والسلام قدوة لنساء المؤمنين، ثم قال تعالى:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)﴾
(سورة الأحزاب)

فإن أرادت الله و الدار الآخرة فإن الله سيؤتيها أجرا عظيما، و إن أتت بفاحشة مبينة يُضَاعف لها العذاب ضعفين، وهذا حكم، لأن القدوة إن أحسن فله أجر إحسانه و أجر مَن اقتدى به، والقدوة إذا أساء فعليه وزر إساءته و وزر مَن قلَّده، فإذا كان الأب يُدخِّن أمام أبناءه ملء السمع والبصر، وصار ذلك مألوفا عند الولد، و قد لا يشتهي الابن أن يدخِّن، ولكن حتَّى يقلِّد والده صار يدخَّن.
فيا أيها الإخوة، المنصب القيادي ولو على مستوى أب أو معلم مدرسة عنده خمسة وخمسون طالبا، أو طبيب في مستشفى، و الأم تحتل مركزا قياديا أمام بناتها، ولو أنها مثلا قالت لزوجها: لن أخرج في غيبتك ؛ وقد خرجت على مرأى من بناتها كذبت على زوجها أمام بناتها، فتحمل وزر إساءتها ووزر ابنتها التي قلَّدت أمها في الكذب على زوجها بعد أن كبرت، فكل إنسان قيادي له حساب خاص، إن أحسن فله أجره وأجر من قلده، وإن أساء فله وِزْرهُ وِ وِزْرَ من قلَّده قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28)﴾
[سورة الأحزاب]
هناك موضوع ثانٍ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في أعلى مستويات الكمال ؛ وهو كذلك ؛ ولم تكن نساءه كذلك ما الذي يحصل ؟! أردْن الحياة الدنيا و زينتها، و المظاهر و الفخامة، و قد رُكِّب في طبيعة المرأة حبُّ المظاهر، فلو أنَّ المرأة لم تكن على شاكلة زوجها وكان زوْجها له دَعوة إلى الله عز وجل، ما الذي يَحصل ؟ يقول الناس جميعًا: لو كانت دَعْوته واقِعِيَّة لطَبَّقَها على أهل بيْتِهِ، فما دام هذا الدَّاعِيَة عاجِزًا عن تطْبيق دَعْوتِهِ على أهْل بيْتهِ، فالدَّعْوَة غير واقِعيَّة، وإن كانت واقِعِيَّةً فلماذا لا يطبِّقها على لا أهل بيته ؟ و في أحسن الظروف نقول: إنّ الدعوة غير واقعية، مثالية، فكما يقال: يا طبيب طُبَّ لنفسك، لذلك أكاد أقول إنك إذا دعوتَ إلى الله فزوجتك وبناتك و أبناءك جزء من الدعوة، فإن لم يكونوا كما تريد فقد حُطِّمتْ الدعوة، وليس ثمَّة عذرٌ، فأنت مرشد وموَجِّه تنصح الناس بكذا و كذا فإذا كانت النصيحة غير واقعية فدعْنا منها، و إن كانت واقعية فلِمَ لا تطبِّقها في بيتك ؟!، لذلك فالله عز وجل تولَّى بذاته العلية تطهير بيت أهل النبي.

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)﴾
[سورة السجدة]
و أهل البيت الزوجة و الأولاد جزء من الدعوة، فإن لم يكن البيت منسجمًا مع الدعوة صار للناس ألف استفهام واستفهام و ألف مأخذ ومأخذ و هذه الآيات تؤكِّد ذلك.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)﴾
[سورة الأحزاب]
ثم قال تعالى:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)﴾
[سورة الأحزاب]
ما المقصود بالفاحشة ؟ الحقيقة أنَّ الفاحشة وردت للزنا، لكنَّ العلماء قالوا: لا يُعقَل و لا يمكن و لا يرد على الخاطر أن تقع زوجة رسول الله في الزنا، فالعلماء لحسن ظنِّهم وفهمهم الدقيق قالوا: إنَّ الفاحشة في حقِّ نساء النبي أ نْ يزعجن النبيَّ في طلب الدنيا فقط، فلو طلبتْ منه شيئا لا يستطيعه كأنَّما أتتْ بفاحشة لِعِظَم مقام النبي عليه الصلاة والسلام، فلو أنَّ إحداهنَّ طلبت طعاما من النبي لا يملك ثمنه يُعَدُّ في حقِّها فاحشة لعِظَم مقام النبي عند الله عز وجل، فإرهاق الخلق بمطالب مادية شيء يزعجه ويعرقل الدعوة إلى الله عز وجل، و تمر ّأيام عديدة لا تُوقَد نار في بيوت النبي، لأنّ النبي كان فقيرا، وقد قال الله له:
((يا محمد أتريد أن تكون نبيًّ ملِكا أم نبيا عبدا ؟ قال: بل نبيا عبدا، أجوعُ يوما فأذكره و أشبع يوما فأشكره…"))
و دخل عليه عديُّ بن حاتم فألق له وِسادةً مَحشُوَّة ليفاً، قال: اجلس عليها، قلتُ: بل أنت، قال: بل أنت، قال: فجلستُ عليها وجلس هو على الأرض ليس في بيته وهو سيِّدُ الخلق إلا وسادة واحدة، " ومَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31)﴾
[سورة الأحزاب]
كان إذا أراد أن يصلِّيَ قيام الليل غرفتُه التي ينام فيها مع عائشة لا تتَّسع لصلاته و نوم عائشة، فلو أن الدنيا أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر جرعة ماء ! فلينظر ناظرٌ بعقله أنَّ الله أكرم محمَّدًا أم أهانه فإن قال: أهانه فقد كذب، و لئِن أكرمه فقد أهان غيره إذ أعطاه الدنيا قال تعالى:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)﴾
[سورة الأحزاب]
ث
هل لاحظْتُم ؛ في الإكرام هناك مُضاعفة وفي العقاب هناك مضاعفة و هذا ينسحبُ على كلِّ قدوة في المجتمع الإسلامي، فكل إنسان له منصب قيادي بدءًا بالأب ونهاية بأعلى منصب ؛ فهذا يُحاسَب حسابا خاصًّا ؛ إنْ أحسن فأجره وأجر من قلَّده، وإن أساء فعليه وزرُه ووزرُ من قلده، ثم قال تعالى:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)﴾
[سورة الأحزاب]
فالمرأة إذا دخلت لتشتريَ حاجة و أَلاَنَت القولَ طمع فيها هذا الرجُل وهذه قاعدة خطيرة جدًّا، ومِن أُولى آداب المرأة أنْ تقول مع الرجل الأجنبي قولاً معروفا، ذكر لي أحد الإخوة القصةَ التالية ؛ عنده محلٌّ تجاري أمام بيته، فجاءه يوما ابنه يقول له: إنَّ في بيتنا رجلا و أُمِّي تستغيث بك، فأسرع إلى بيته فرأى رجلا داخل بيته و الزوجة لابسةٌ لباسا كاملا، كيف دخل إلى البيت ؟ هذا الرجل بائع، دخلتْ عليه هذه الزوجة لتشتريَ، وبدأتْ تناقش البائع في السعر، فظنَّ أنَّ هذه المرأة تقبل أن يتَّصل بها و هي تسكن قريبا منه، فطرق بابها ودخل البيت و المرأة جاهلة، وإن أرادتْ بنقاشها في الشراء شيئا إلاَّ أن تخفِّض السعر، ولكن ألاَنَتْ القول، فيجب أن نربِّيَ نساءنا إذا كلَّمْنَ رجلا أجنبيا أن يقُلْن قولا معروفا، لأنَّ الكلمة اللَّيِّنة من المرأة تعني أنَّها ترضى الفاحشة، وهذه نقطة دقيقة قال تعالى:

﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)﴾
[سورة الأحزاب]
ثم قال تعالى:
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)﴾
[سورة الأحزاب]
فالأصل أن تقررْن في بيوتكن، فقائدُ الطائرة يقود طائرةً تحمل ستمائة راكب، غرفة القيادة هل تُعَدُّ سجنا لهذا الطيَّار، هو أخطرُ مكان، فإذا ظنَّ الطيَّار أنَّ هذه الغرفة تقييدًا لحرِّيته، ويجب أن ينطلق إلى رحاب الطائرة أودَى بحياة الركاب، كذلك هذا البيت هو مركز قيادة لهذه الأُسرة،وفي الحديث:
(( أيُّما امرأة قعدتْ على بيت أولادها فهي معي في الجنة…"))
و المرأة المؤمنة تتفرَّغ لأولادها.
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)﴾
[سورة الأحزاب]
فإذا خرجْتُنَّ لأمر قاهر فلا تبرَّجن تبرُّج الجاهلية الأولى، قال تعالى:
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23)﴾
[سورة القصص]
فحياء المرأة منعها أن تختلط بالرجال، وما خرجتْ من البيت إلا لأمر قاهر؛ لأنَّ أبانا شيخٌ كبير، قال تعالى:

﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)﴾
[سورة الأحزاب]
" يطهركم تطهيرا " لأنَّكنَّ جزء من الدعوة، فإذا كان الواحد ملتزما وزوجته متفلِّتة لا يُقبَل ذلك منه، هو مطبِّق وبناته كاسيات عاريات مائلات مميلات، معنى ذلك لستَ أبًا، فزوجتك و أولادك جزء من دعوتك إلى الله، هذا هو معنى الآيات، فدرس اليوم القدوة، والقدوة له حساب خاص، إنْ أحسن فله أجره مرَّتين، و إن أساء فله العقاب مرَّتين، والأصل في الزوجة أن تقرَّ في بيتها لتربية أولادها و" أيُّما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة.
والحمد لله رب العالمين




التصنيفات
منوعات

تفسير سورة الأحزاب

تفسيرسورة الأحزاب عدد آياتها 73 ( آية 1-35 )
وهي مدنية

{ 1 – 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }

أي: يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة، واختصه بوحيه، وفضله على سائر الخلق، اشكر نعمة ربك عليك، باستعمال تقواه، التي أنت أولى بها من غيرك، والتي يجب عليك منها، أعظم من سواك، فامتثل أوامره ونواهيه، وبلغ رسالاته، وأدِّ إلى عباده وحيه، وابذل النصيحة للخلق.
وا يصدنك عن هذا المقصود صاد، ولا يردك عنه راد، فلا تطع كل كافر، قد أظهر العداوة للّه ورسوله، ولا منافق، قد استبطن التكذيب والكفر، وأظهر ضده.

فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة، فلا تطعهم في بعض الأمور، التي تنقض التقوى، وتناقضها، ولا تتبع أهواءهم، فيضلوك عن الصواب.

{ وَ } لكن { اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } فإنه هو الهدى والرحمة، وَارْجُ بذلك ثواب ربك، فإنه بما تعملون خبير، يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم، من الخير والشر.

فإن وقع في قلبك، أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة، حصل عليك منهم ضر، أو حصل نقص في هداية الخلق، فادفع ذلك عن نفسك، واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره، وهو التوكل على اللّه، بأن تعتمد على ربك، اعتماد من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، في سلامتك من شرهم، وفي إقامة الدين، الذي أمرت به، وثق باللّه في حصول ذلك الأمر على أي: حال كان.

{ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } توكل إليه الأمور، فيقوم بها، وبما هو أصلح للعبد، وذلك لعلمه بمصالح عبده، من حيث لا يعلم العبد، وقدرته على إيصالها إليه، من حيث لا يقدر عليها العبد، وأنه أرحم بعبده من نفسه، ومن والديه، وأرأف به من كل أحد، خصوصًا خواص عبيده، الذين لم يزل يربيهم بره، ويُدِرُّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة، خصوصًا وقد أمره بإلقاء أموره إليه، وعده، فهناك لا تسأل عن كل أمر يتيسر، وصعب يسهل، وخطوب تهون، وكروب تزول، وأحوال وحوائج تقضى، وبركات تنزل، ونقم تدفع، وشرور ترفع.

وهناك ترى العبد الضعيف، الذي فوض أمره لسيده، قد قام بأمور لا تقوم بها أمة من الناس، وقد سهل اللّه [عليه] ما كان يصعب على فحول الرجال وباللّه المستعان.

{ 4 – 5 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

يعاتب تعالى [عباده] عن التكلم بما ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا لا حقيقة له من الأقوال، ولم يجعله الله تعالى كما قالوا،فإن ذلك القول منكم كذب وزور، يترتب عليه منكرات من الشرع. وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء، والإخبار بوقوع وجود، ما لم يجعله اللّه تعالى.

ولكن خص هذه الأشياء المذكورة، لوقوعها، وشدة الحاجة إلى بيانها، فقال: { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } هذا لا يوجد، فإياكم أن تقولوا عن أحد: إن له قلبين في جوفه، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية.

{ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ } بأن يقول أحدكم لزوجته: "أنت عَليَّ كظهر أمي أو كأمي" فما جعلهن اللّه { أُمَّهَاتِكُمْ } أمك من ولدتك، وصارت أعظم النساء عليك، حرمة وتحريمًا، وزوجتك أحل النساء لك، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر؟

هذا أمر لا يجوز، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا }

{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } والأدعياء، الولد الذي كان الرجل يدعيه، وهو ليس له، أو يُدْعَى إليه، بسبب تبنيه إياه، كما كان الأمر بالجاهلية، وأول الإسلام.

فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله، فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه، وأنه باطل وكذب، وكل باطل وكذب، لا يوجد في شرع اللّه، ولا يتصف به عباد اللّه.

يقول تعالى: فاللّه لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم، أو يدعون إليكم، أبناءكم، فإن أبناءكم في الحقيقة، من ولدتموهم، وكانوا منكم، وأما هؤلاء الأدعياء من غيركم، فلا جعل اللّه هذا كهذا.

{ ذَلِكُمْ } القول، الذي تقولون في الدعي: إنه ابن فلان، الذي ادعاه، أو والده فلان { قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } أي: قول لا حقيقة له ولا معنى له.

{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } أي: اليقين والصدق، فلذلك أمركم باتباعه، على قوله وشرعه، فقوله، حق، وشرعه حق، والأقوال والأفعال الباطلة، لا تنسب إليه بوجه من الوجوه، وليست من هدايته، لأنه لا يهدي إلا إلى السبيل المستقيمة، والطرق الصادقة.

وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته، فمشيئته عامة، لكل ما وجد من خير وشر.

ثم صرح لهم بترك الحالة الأولى، المتضمنة للقول الباطل فقال: { ادْعُوهُمْ } أي: الأدعياء { لِآبَائِهِمْ } الذين ولدوهم { هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } أي: أعدل، وأقوم، وأهدى.

{ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ } الحقيقين { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أي: إخوتكم في دين اللّه، ومواليكم في ذلك، فادعوهم بالأخوة الإيمانية الصادقة، والموالاة على ذلك، فترك الدعوة إلى من تبناهم حتم، لا يجوز فعلها.

وأما دعاؤهم لآبائهم، فإن علموا، دعوا إليهم، وإن لم يعلموا، اقتصر على ما يعلم منهم، وهو أخوة [الدين] والموالاة، فلا تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم، عذر في دعوتهم إلى من تبناهم، لأن المحذور لا يزول بذلك.

{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } بأن سبق على لسان أحدكم، دعوته إلى من تبناه، فهذا غير مؤاخذ به، أو علم أبوه ظاهرًا، [فدعوتموه إليه] وهو في الباطن، غير أبيه، فليس عليكم في ذلك حرج، إذا كان خطأ، { وَلَكِنْ } يؤاخذكم { بِمَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } من الكلام، بما لا يجوز. { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } غفر لكم ورحمكم، حيث لم يعاقبكم بما سلف، وسمح لكم بما أخطأتم به، ورحمكم حيث بيَّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم، فله الحمد تعالى.

{ 6 } { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }

يخبر تعالى المؤمنين، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أقرب ما للإنسا، وأولى ما له نفسه، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه عليه الصلاة والسلام، بذل لهم من النصح، والشفقة، والرأفة، ما كان به أرحم الخلق، وأرأفهم، فرسول اللّه، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم، من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على يديه وبسببه.

فلذلك، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس، مع مراد الرسول، أن يقدم مراد الرسول، وأن لا يعارض قول الرسول، بقول أحد، كائنًا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه.

وهو صلى اللّه عليه وسلم، أب للمؤني، كما في قراءة بعض الصحابة، يربيهم كما يربي الوالد أولاده.

فترتب على هذه الأبوة، أن كان نساؤه أمهاتهم، أي: في الحرمة والاحترام، والإكرام، لا في الخلوة والمحرمية، وكأن هذا مقدمة، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة، الذي كان قبل يُدْعَى: "زيد بن محمد" حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } فقطع نسبه، وانتسابه منه، فأخبر في هذه الآية، أن المؤمنين كلهم، أولاد للرسول، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه، فلا يحزن ولا يأسف.

وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين، أنهن لا يحللن لأحد من بعده، كما الله صرح بذلك: "وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا"

{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ } أي: الأقارب، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [أي]: في حكمه، فيرث بعضهم بعضًا، ويبر بعضهم بعضًا، فهم أولى من الحلف والنصرة.

والأدعياء الذين كانوا من قبل، يرثون بهذه الأسباب، دون ذوي الأرحام، فقطع تعالى، التوارث بذلك، وجعله للأقارب، لطفًا منه وحكمة، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة، لحصل من الفساد والشر، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث، شيء كثير.

{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي: سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام، في جميع الولايات، كولاية النكاح، والمال، وغير ذلك.

{ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي: ليس لهم حق مفروض، وإنما هو بإرادتكم، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا، وتعطوهم معروفًا منكم، { كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي: قد سطر، وكتب، وقدره اللّه، فلا بد من نفوذه.

{ 7 – 8 } { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا }

يخبر تعالى أنه أخذ من النبين عمومًا، ومن أولي العزم -وهم، هؤلاء الخمسة المذكورون- خصوصًا، ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد، على القيام بدين اللّه والجهاد في سبيله، وأن هذا سبيل، قد مشى الأنبياء المتقدمون، حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم، محمد صلى اللّه عليه وسلم، وأمر الناس بالاقتداء بهم.

وسيسأل اللّه الأنبياء وأتباعهم، عن هذا العهد الغليظ هل وفوا فيه، وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟ أم كفروا، فيعذبهم العذاب الأليم؟ قال تعالى: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ }

{ 9 – 11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا }

يذكر تعالى عباده المؤمنين، نعمته عليهم، ويحثهم على شكرها، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز، من فوقهم، وأهل نجد، من أسفل منهم، وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة، وذلك في وقعة الخندق.

ومالأتهم [طوائف] اليهود، الذين حوالي المدينة، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة.

وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على المدينة، فحصروا المدينة، واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة، والشدائد الشديدة، فلم يزل الحصار على المدينة، مدة طويلة، والأمر كما وصف اللّه: { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } أي: الظنون السيئة، أن اللّه لا ينصر دينه، ولا يتم كلمته.

{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } بالخوف والقلق، والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم، فظهر -وللّه الحمد- من إيمانهم، وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين.

وعندما اشتد الكرب، وتفاقمت الشدائد، صار إيمانهم عين اليقين، { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }

وهنالك تبين نفاق المنافقين، وظهر ما كانوا يضمرون قال تعالى:

{ 12 } { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا }

وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله القاصر، إلى الحالة القاصرة ويصدق ظنه.

{ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ } من المنافقين، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم، وصاروا أيضًا من المخذولين، فلا صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم، فقالت هذه الطائفة: { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون { يا أهل المدينة } فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية] فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس له في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك، مجرد الخور الطبيعي.

{ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ } أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة، وكانوا عسكروا دون الخندق، وخارج المدينة، { فَارْجِعُوا } إلى المدينة، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال، فهذه الطائفة، شر الطوائف وأضرها، وطائفة أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال اللّه فيهم: { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي: عليها الخطر، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غُيَّبٌ عنها، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك.

{ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ } أي: ما قصدهم { إِلَّا فِرَارًا } ولكن جعلوا هذا الكلام، وسيلة وعذرًا. [لهم] فهؤلاء قل إيمانهم، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن.

{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة { مِنْ أَقْطَارِهَا } أي: لو دخل الكفار إليها من نواحيها، واستولوا عليها -لا كان ذلك- { ثُمَّ } سئل هؤلاء { الْفِتْنَة } أي: الانقلاب عن دينهم، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين { لَآتَوْهَا } أي: لأعطوها مبادرين.

{ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا } أي: ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم.

والحال أنهم قد { عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذًا، بربهم؟

{ 16 } { قُلْ }

{ قُلْ } لهم، لائمًا على فرارهم، ومخبرًا أنهم لا يفيدهم ذلك شيئًا { لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعكم.

والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة، ظنها الإنسان تنجيه.

{ وَإِذَا } حين فرتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا } متاعًا، لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم، التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي.

ثم بين أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئًا إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { من اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا } أي: شرًا، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلا هو.

{ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلَا نَصِيرًا } أي ينصرهم، فيدفع عنهم المضار.

فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر.

ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ } عن الخروج، لمن [لم] يخرجوا { وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم: { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا }

وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ } أي: القتال والجهاد بأنفسهم { إِلَّا قَلِيلًا } فهم أشد الناس حرصًا على التخلف، لعدم الداعي لذلك، من الإيمان والصبر، وجود المقتضى للجبن، من النفاق، وعدم الإيمان.

{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ الْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون، من القتال.

{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة } أي: خاطبوكم، وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة.

وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحًا بما أمر به، شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحًا في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحًا بجاهه، شحيحًا بعلمه، ونصيحته ورأيه.

{ أُولَئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُوا } بسبب عدم إيمانهم، أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }

وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه، شح أنفسهم، وفقهم لبذل ما أمروا به، من بذل لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم، للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.

{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأصحابه، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم.

{ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة، ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟

فتبًا لهم، وبعدًا، فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم.

{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم، عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بنفسه فيه؟"

فَتأَسَّوْا به في هذا الأمر وغيره.

واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به.

فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة.

فالأسوة الحسنة، في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم.

وأما الأسوة بغيره، إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي ]بهم[ { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ }

وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه، واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم.

لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين فقال: { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }

{ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلَّا إِيمَانًا } في قلوبهم { وَتَسْلِيمًا } في جوارحهم، وانقيادًا لأمر اللّه.

ولما ذكر أن المنافقين، عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته.

{ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحق، فقتل في سبيل اللّه، أو مات مؤديًا لحقه، لم ينقصه شيئًُا.

{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، وفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجد.

{ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } كما بدل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلون، ولا يتغيرون، فهؤلاء، الرجال على الحقيقة، ومن عداهم، فصورهم صور رجال، وأما الصفات، فقد قصرت عن صفات الرجال.

{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم، وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى: { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } الآية.

أي: قدرنا ما قدرنا، من هذه الفتن والمحن، والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم، عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه.

{ إِنْ شَاءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم، فلم يوفقهم.

{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب، على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل، والإحسان فقال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رحيمًا } غفورًا لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان، إذا أتوا بالمتاب. { رَحِيمًا } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم، وستر عليهم ما اجترحوه.

{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين ]عليه[ جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ.

فأرسل اللّه عليهم، ريحًا عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين.

{ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة، قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته.

{ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ } أي عاونوهم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي: اليهود { مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولاً مظفورًا بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام.

{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } فلم يقوا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } مَنْ عداهم من النساء والصبيان.

{ وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضا كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنو من وطئها، فمكنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم، وأسرتموهم.

{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } لا يعجزه شيء، ومن قدرته، قدَّر لكم ما قدر.

وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة، غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم، [حين] هاجر إلى المدينة، وادعهم، وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئًا.

فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومالؤوا المشركين على قتاله.

فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم.

فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم، بخذلان من انخذل من أعدائهم، وقتل من قتلوا، وأسر من أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمرًا.

{ 28 – 29 } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }

لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة، وطلبن منه النفقة والكسوة، طلبن منه أمرًا لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في طلبهن متفقات، في مرادهن متعنتات، شَقَّ ذلك على الرسول، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا.

فأراد اللّه أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته، ويُذْهِبَ عنهن كل أمر ينقص أجرهن، فأمر رسوله أن يخيرهن فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: ليس لكن في غيرها مطلب، وصرتن ترضين لوجودها، وتغضبن لفقدها، فليس لي فيكن أرب وحاجة، وأنتن بهذه الحال.

{ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } شيئا مما عندي، من الدنيا { وَأُسَرِّحْكُنَّ } أي: أفارقكن { سَرَاحًا جَمِيلًا } من دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر، وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي.

{ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } أي: هذه الأشياء مرادكن، وغاية مقصودكن، وإذا حصل لَكُنَّ اللّه ورسوله والجنة، لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها، ويسرها وعسرها، وقنعتن من رسول اللّه بما تيسر، ولم تطلبن منه ما يشق عليه، { فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } رتب الأجر على وصفهن بالإحسان، لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات للرسول فإن مجرد ذلك، لا يكفي، بل لا يفيد شيئًا، مع عدم الإحسان، فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فاخترن اللّه ورسوله، والدار الآخرة، كلهن، ولم يتخلف منهن واحدة، رضي اللّه عنهن.

وفي هذا التخير فوائد عديدة:

منها: الاعتناء برسوله، وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.

ومنها: سلامته صلى اللّه عليه وسلم، بهذا التخير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع { مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ }

ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن، من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله، والدار الآخرة، وعن مقارنتها.

ومنها: سلامة زوجاته، رضي اللّه عنهن، عن الإثم، والتعرض لسخط اللّه ورسوله.

فحسم اللّه بهذا التخير عنهن، التسخط على الرسول، الموجب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه.

ومنها: إظهار رفعتهن، وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة، مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها.

ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار، للأمر الخيار للوصل إلى خيار درجات الجنة، وأن يَكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة.

ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملات مكملات، طيبات مطيبات { وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ }

ومنها: أن هذا التخير داع، وموجب للقناعة، التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه.

ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة، ليس فيها أحد من النساء، ولهذا قال:

تفسير الجزء الثاني والعشرون

{ 30 – 31 } { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا }

لما اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن، لو جرى منهن، ليزداد حذرهن، وشكرهن اللّه تعالى، فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة، لها العذاب ضعفين.

{ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ } أي: تطيع { لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا } قليلا أو كثيرًا، { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أي: مثل ما نعطي غيرها مرتين، { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } وهي الجنة، فقنتن للّه ورسوله، وعملن صالحًا، فعلم بذلك أجرهن.

{ 32 – 34 } { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا }

يقول تعالى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ } خطاب لهن كلهن { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } اللّه، فإنكن بذلك، تفقن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها.

فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم، فقال: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } أي: في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك، وتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع { الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي: مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح [فإن القلب الصحيح] ليس فيه شهوة لما حرم اللّه، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه، وسلامته من المرض.

بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد، يدعوه إلى الحرام، يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل، لها أحكام المقاصد. فإن الخضوع بالقول، واللين فيه، في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم، منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال، أن لا تلِينَ لهم القول.

ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله: { وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } أي: غير غليظ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع.

وتأمل كيف قال: { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } ولم يقل: { فلا تَلِنَّ بالقول } وذلك لأن المنهي عنه، القول اللين، الذي فيه خضوع المرأة للرجل، وانكسارها عنده، والخاضع، هو الذي يطمع فيه، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا، ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخ، فإن هذا، لا يطمع فيه خصمه، ولهذا مدح اللّه رسوله باللين، فقال: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } وقال لموسى وهارون: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }

ودل قوله: { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم، والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا، أنه ينبغي للعبد، إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض.

فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر، وسؤال اللّه العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به.

{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي: اقرن فيها، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ، { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه.

ولما أمرهن بالتقوى عمومًا، وبجزئيات من التقوى، نص عليها [لحاجة] النساء إليها، كذلك أمرهن بالطاعة، خصوصًا الصلاة والزكاة، اللتان يحتاجهما، ويضطر إليهما كل أحد، وهما أكبر العبادات، وأجل الطاعات، وفي الصلاة، الإخلاص للمعبود، وفي الزكاة، الإحسان إلى العبيد.

ثم أمرهن بالطاعة عمومًا، فقال: { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله، كل أمر، أُمِرَا به أمر إيجاب أو استحباب.

{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به، ونهيكن بما نهاكُنَّ عنه، { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } أي: الأذى، والشر، والخبث، يا { أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين.

أي: فاحمدوا ربكم، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي، التي أخبركم بمصلحتها، وأنها محض مصلحتكم، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة، بل لتزكى نفوسكم، ولتطهر أخلاقكم، وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم.

ولما أمرهن بالعمل، الذي هو فعل وترك، أمرهن بالعلم، وبين لهن طريقه، فقال: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } والمراد بآيات اللّه، القرآن. والحكمة، أسراره. وسنة رسوله. وأمرهن بذكره، يشمل ذكر لفظه، بتلاوته، وذكر معناه، بتدبره والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } يدرك أسرار الأمور، وخفايا الصدور، وخبايا السماوات والأرض، والأعمال التي تبين وتسر.

فلطفه وخبرته، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، ومجازاة اللّه على تلك الأعمال.

ومن معاني { اللطيف } الذي يسوق عبده إلى الخير، ويعصمه من الشر، بطرق خفية لا يشعر بها، ويسوق إليه من الرزق، ما لا يدريه، ويريه من الأسباب، التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك طريقا [له] إلى أعلى الدرجات، وأرفع المنازل.

{ 35 } { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }

لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وعقابهن [لو قدر عدم الامتثال] وأنه ليس مثلهن أحد من النساء، ذكر بقية النساء غيرهن.

ولما كان حكمهن والرجال واحدًا، جعل الحكم مشتركًا، فقال: { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } وهذا في الشرائع الظاهرة، إذا كانوا قائمين بها. { وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وهذا في الأمور الباطنة، من عقائد القلب وأعماله.

{ وَالْقَانِتِينَ } أي: المطيعين للّه ولرسوله { وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ } في مقالهم وفعالهم { وَالصَّادِقَاتِ } { وَالصَّابِرِينَ } على الشدائد والمصائب { وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ } في جميع أحوالهم،خصوصًا في عباداتهم، خصوصًا في صلواتهم، { وَالْخَاشِعَاتِ } { وَالْمُتَصَدِّقِينَ } فرضًا ونفلاً { وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } شمل ذلك، الفرض والنفل. { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ } عن الزنا ومقدماته، { وَالْحَافِظَاتِ } { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ [كَثِيرًا } أي:] في أكثر الأوقات، خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة، كالصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبات { وَالذَّاكِرَاتِ }

{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ } أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي، ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعد وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان.

فجازاهم على عملهم { بِالْمَغْفِرَةً } لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات. { وَأَجْرًا عَظِيمًا } لا يقدر قدره، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل اللّه أن يجعلنا منهم.




بارك الله فيك



جزاك الله خيرا



التصنيفات
منوعات

تفسير سورة الأحزاب

خليجية يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) خليجية
يا أيها النبي دُم على تقوى الله بالعمل بأوامره واجتناب محارمه, وليقتد بك المؤمنون؛ لأنهم أحوج إلى ذلك منك, ولا تطع الكافرين وأهل النفاق. إن الله كان عليمًا بكل شيء, حكيمًا في خلقه وأمره وتدبيره.
خليجية وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
واتبع ما يوحى إليك من ربك من القرآن والسنة, إن الله مطَّلِع على كل ما تعملون ومجازيكم به, لا يخفى عليه شيء من ذلك.
خليجية وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (3)
واعتمد على ربك, وفَوِّضْ جميع أمورك إليه, وحسبك به حافظًا لمن توكل عليه وأناب إليه.
خليجية مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ما جعل الله لأحد من البشر من قلبين في صدره, وما جعل زوجاتكم اللاتي تظاهرون منهن(في الحرمة) كحرمة أمهاتكم(والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي, وقد كان هذا طلاقًا في الجاهلية, فبيَّن الله أن الزوجة لا تصير أُمًّا بحال) وما جعل الله الأولاد المتَبَنَّيْنَ أبناء في الشرع, بل إن الظهار والتبني لا حقيقة لهما في التحريم الأبدي, فلا تكون الزوجة المظاهَر منها كالأم في الحرمة, ولا يثبت النسب بالتبني من قول الشخص للدَّعِيِّ: هذا ابني, فهو كلام بالفم لا حقيقة له, ولا يُعتَدُّ به, والله سبحانه يقول الحق ويبيِّن لعباده سبيله, ويرشدهم إلى طريق الرشاد.
خليجية ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
انسبوا أدعياءكم لآبائهم, هو أعدل وأقوم عند الله, فإن لم تعلموا آباءهم الحقيقيين فادعوهم إذًا بأخوَّة الدين التي تجمعكم بهم, فإنهم إخوانكم في الدين ومواليكم فيه, وليس عليكم إثم فيما وقعتم فيه من خطأ لم تتعمدوه, وإنما يؤاخذكم الله إذا تعمدتم ذلك. وكان الله غفورًا لمن أخطأ, رحيمًا لمن تاب من ذنبه.
خليجية النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
النبي محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين, وأقرب لهم من أنفسهم في أمور الدين والدنيا, وحرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أُمَّته كحرمة أمهاتهم, فلا يجوز نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده. وذوو القرابة من المسلمين بعضهم أحق بميراث بعض في حكم الله وشرعه من الإرث بالإيمان والهجرة(وكان المسلمون في أول الإسلام يتوارثون بالهجرة والإيمان دون الرحم, ثم نُسخ ذلك بآية المواريث) إلا أن تفعلوا -أيها المسلمون- إلى غير الورثة معروفًا بالنصر والبر والصلة والإحسان والوصية, كان هذا الحكم المذكور مقدَّرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ, فيجب عليكم العمل به. وفي الآية وجوب كون النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى العبد من نفسه, ووجوب كمال الانقياد له, وفيها وجوب احترام أمهات المؤمنين, زوجاته صلى الله عليه وسلم، وأن من سبَّهن فقد باء بالخسران.




خليجيةوَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
واذكر -أيها النبي- حين أخذنا من النبيين العهد المؤكد بتبليغ الرسالة, وأخذنا الميثاق منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم (وهم أولو العزم من الرسل على المشهور), وأخذنا منهم عهدًا مؤكدًا بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة, وأن يُصَدِّق بعضهم بعضًا.
خليجية لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
(أخذ الله ذلك العهد من أولئك الرسل) ليسأل المرسلين عمَّا أجابتهم به أممهم, فيجزي الله المؤمنين الجنة, وأعد للكافرين يوم القيامة عذابًا شديدًا في جهنم.
خليجية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
يا معشر المؤمنين اذكروا نعمة الله تعالى التي أنعمها عليكم في "المدينة" أيام غزوة الأحزاب -وهي غزوة الخندق-, حين اجتمع عليكم المشركون من خارج "المدينة", واليهود والمنافقون من "المدينة" وما حولها, فأحاطوا بكم, فأرسلنا على الأحزاب ريحًا شديدة اقتلعت خيامهم ورمت قدورهم, وأرسلنا ملائكة من السماء لم تروها, فوقع الرعب في قلوبهم. وكان الله بما تعملون بصيرًا, لا يخفى عليه من ذلك شيء.
خليجية إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونا (10)
اذكروا إذ جاؤوكم مِن فوقكم من أعلى الوادي من جهة المشرق, ومن أسفل منكم من بطن الوادي من جهة المغرب, وإذ شخصت الأبصار من شدة الحَيْرة والدهشة, وبلغت القلوب الحناجر من شدة الرعب, وغلب اليأس المنافقين, وكثرت الأقاويل, وتظنون بالله الظنون السيئة أنه لا ينصر دينه, ولا يعلي كلمته.
خليجية هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11)
في ذلك الموقف العصيب اختُبر إيمان المؤمنين ومُحِّص القوم, وعُرف المؤمن من المنافق, واضطربوا اضطرابًا شديدًا بالخوف والقلق; ليتبين إيمانهم ويزيد يقينهم.
خليجية وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا (12)
وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم شك, وهم ضعفاء الإيمان: ما وعدنا الله ورسوله من النصر والتمكين إلا باطلا من القول وغرورًا, فلا تصدقوه.
خليجية وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا (13)
واذكر -أيها النبي- قول طائفة من المنافقين منادين المؤمنين من أهل "المدينة": يا أهل "يثرب"(وهو الاسم القديم "للمدينة") لا إقامة لكم في معركة خاسرة, فارجعوا إلى منازلكم داخل "المدينة", ويستأذن فريق آخر من المنافقين الرسول صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى منازلهم بحجة أنها غير محصنة, فيخشون عليها, والحق أنها ليست كذلك, وما قصدوا بذلك إلا الفرار من القتال.
خليجية وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا (14)
ولو دخل جيش الأحزاب "المدينة" من جوانبها, ثم سئل هؤلاء المنافقون الشرك بالله والرجوع عن الإسلام, لأجابوا إلى ذلك مبادرين, وما تأخروا عن الشرك إلا يسيرًا.
خليجية وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا (15)
ولقد كان هؤلاء المنافقون عاهدوا الله على يد رسوله من قبل غزوة الخندق, لا يفرُّون إن شهدوا الحرب, ولا يتأخرون إذا دعوا إلى الجهاد, ولكنهم خانوا عهدهم, وسيحاسبهم الله على ذلك, ويسألهم عن ذلك العهد, وكان عهد الله مسؤولا عنه, محاسَبًا عليه.




خليجية قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا (16)
قل -أيها النبي- لهؤلاء المنافقين: لن ينفعكم الفرار من المعركة خوفًا من الموت أو القتل; فإن ذلك لا يؤخر آجالكم, وإن فررتم فلن تتمتعوا في هذه الدنيا إلا بقدر أعماركم المحدودة, وهو زمن يسير جدًا بالنسبة إلى الآخرة.
خليجية قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (17)
قل -أيها النبي- لهم: مَن ذا الذي يمنعكم من الله, أو يجيركم مِن عذابه, إن أراد بكم سوءًا, أو أراد بكم رحمة, فإنه المعطي المانع الضارُّ النافع؟ ولا يجد هؤلاء المنافقون لهم من دون الله وليًّا يواليهم, ولا نصيرًا ينصرهم.
خليجية قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا (18)
إن الله يعلم المثبطين عن الجهاد في سبيل الله, والقائلين لإخوانهم: تعالوا وانضموا إلينا, واتركوا محمدًا, فلا تشهدوا معه قتالا؛ فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه, وهم مع تخذيلهم هذا لا يأتون القتال إلا نادرًا؛ رياء وسمعة وخوف الفضيحة.
خليجية أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
بُخَلاء عليكم -أيها المؤمنون- بالمال والنفس والجهد والمودة لما في نفوسهم من العداوة والحقد؛ حبًا في الحياة وكراهة للموت, فإذا حضر القتال خافوا الهلاك ورأيتهم ينظرون إليك, تدور أعينهم لذهاب عقولهم؛ خوفًا من القتل وفرارًا منه كدوران عين مَن حضره الموت, فإذا انتهت الحرب وذهب الرعب رموكم بألسنة حداد مؤذية, وتراهم عند قسمة الغنائم بخلاء وحسدة, أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم, فأذهب الله ثواب أعمالهم, وكان ذلك على الله يسيرًا.
خليجية يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا (20)
يظن المنافقون أن الأحزاب الذين هزمهم الله تعالى شر هزيمة لم يذهبوا؛ ذلك من شدة الخوف والجبن, ولو عاد الأحزاب إلى "المدينة" لتمنَّى أولئك المنافقون أنهم كانوا غائبين عن "المدينة" بين أعراب البادية, يستخبرون عن أخباركم ويسألون عن أنبائكم, ولو كانوا فيكم ما قاتلوا معكم إلا قليلا لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم.
خليجية لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
لقد كان لكم -أيها المؤمنون- في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله قدوة حسنة تتأسون بها, فالزموا سنته, فإنما يسلكها ويتأسى بها مَن كان يرجو الله واليوم الآخر, وأكثرَ مِن ذكر الله واستغفاره, وشكره في كل حال.
خليجية وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
ولمَّا شاهد المؤمنون الأحزاب الذين تحزَّبوا حول "المدينة" وأحاطوا بها, تذكروا أن موعد النصر قد قرب, فقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله, من الابتلاء والمحنة والنصر, فأنجز الله وعده, وصدق رسوله فيما بشَّر به, وما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا بالله وتسليمًا لقضائه وانقيادًا لأمره.




خليجية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (23) خليجية
من المؤمنين رجال أوفوا بعهودهم مع الله تعالى, وصبروا على البأساء والضراء وحين البأس: فمنهم من وَفَّى بنذره، فاستشهد في سبيل الله، أو مات على الصدق والوفاء, ومنهم مَن ينتظر إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة, وما غيَّروا عهد الله, ولا نقضوه ولا بدَّلوه, كما غيَّر المنافقون.
خليجية لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) خليجية
ليثيب الله أهل الصدق بسبب صدقهم وبلائهم وهم المؤمنون, ويعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم, بأن لا يوفقهم للتوبة النصوح قبل الموت, فيموتوا على الكفر, فيستوجبوا النار, أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة والإنابة, إن الله كان غفورًا لذنوب المسرفين على أنفسهم إذا تابوا, رحيمًا بهم; حيث وفقهم للتوبة النصوح.
خليجية وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) خليجية
وردَّ الله أحزاب الكفر عن "المدينة" خائبين خاسرين مغتاظين, لم ينالوا خيرًا في الدنيا ولا في الآخرة، وكفى الله المؤمنين القتال بما أيدهم به من الأسباب. وكان الله قويًا لا يُغالَب ولا يُقْهَر, عزيزًا في ملكه وسلطانه.
خليجية وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) خليجية
وأنزل الله يهود بني قريظة من حصونهم; لإعانتهم الأحزاب في قتال المسلمين, وألقى في قلوبهم الخوف فهُزموا, تقتلون منهم فريقًا, وتأسرون فريقًا آخر.
خليجية وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) خليجية
وملَّككم الله -أيها المؤمنون- أرضهم ومساكنهم وأموالهم المنقولة كالحليِّ والسلاح والمواشي, وغير المنقولة كالمزارع والبيوت والحصون المنيعة, وأورثكم أرضًا لم تتمكنوا مِن وطئها من قبل؛ لمنعتها وعزتها عند أهلها. وكان الله على كل شيء قديرًا, لا يعجزه شيء.
خليجية يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا (28) خليجية
يا أيها النبي قل لأزواجك اللاتي اجتمعن عليك, يطلبن منك زيادة النفقة: إن كنتنَّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فأقبِلْنَ أمتعكنَّ شيئًا مما عندي من الدنيا, وأفارقكنَّ دون ضرر أو إيذاء.
خليجية وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) خليجية
وإن كنتن تردْنَ رضا الله ورضا رسوله وما أعدَّ الله لكُنَّ في الدار الآخرة, فاصبرْنَ على ما أنتُنَّ عليه, وأطعن الله ورسوله, فإن الله أعد للمحسنات منكنَّ ثوابًا عظيمًا. (وقد اخترن الله ورسوله, وما أعدَّ الله لهن في الدار الآخرة).
خليجية يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) خليجية
يا نساء النبي مَن يأت منكن بمعصية ظاهرة يُضاعَف لها العذاب مرتين. فلما كانت مكانتهن رفيعة ناسب أن يجعل الله الذنب الواقع منهن عقوبته مغلظة؛ صيانة لجنابهن وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك العقاب على الله يسيرًا.




خليجية وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) خليجية
ومن تطع منكن الله ورسوله, وتعمل بما أمر الله به, نُعْطها ثواب عملها مثلَي ثواب عمل غيرها من سائر النساء, وأعددنا لها رزقًا كريمًا, وهو الجنة.
خليجيةيَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا (32) خليجية
يا نساء النبيِّ -محمد- لستنَّ في الفضل والمنزلة كغيركنَّ من النساء, إن عملتن بطاعة الله وابتعدتن عن معاصيه، فلا تتحدثن مع الأجانب بصوت لَيِّن يُطمع الذي في قلبه فجور ومرض في الشهوة الحرام، وهذا أدب واجب على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر, وقُلن قولا بعيدًا عن الريبة, لا تنكره الشريعة.
خليجية وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) خليجية
والْزَمْنَ بيوتكن, ولا تخرجن منها إلا لحاجة, ولا تُظهرن محاسنكن, كما كان يفعل نساء الجاهلية الأولى في الأزمنة السابقة على الإسلام, وهو خطاب للنساء المؤمنات في كل عصر. وأدِّين – يا نساء النبي- الصلاة كاملة في أوقاتها, وأعطين الزكاة كما شرع الله, وأطعن الله ورسوله في أمرهما ونهيهما, إنما أوصاكن الله بهذا؛ ليزكيكنَّ, ويبعد عنكنَّ الأذى والسوء والشر يا أهل بيت النبي -ومنهم زوجاته وذريته عليه الصلاة والسلام-, ويطهِّر نفوسكم غاية الطهارة.
خليجية وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) خليجية
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واعملن به, واقدُرْنه حقَّ قَدْره, فهو من نِعَم الله عليكن, إن الله كان لطيفًا بكنَّ؛ إذ جعلكنَّ في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والسنة, خبيرًا بكنَّ إذ اختاركنَّ لرسوله أزواجًا.
خليجية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) خليجية
إن المنقادين لأوامر الله والمنقادات, والمصَدِّقين والمصدِّقات والمطيعين لله ورسوله والمطيعات, والصادقين في أقوالهم والصادقات, والصابرين عن الشهوات وعلى الطاعات وعلى المكاره والصابرات, والخائفين من الله والخائفات, والمتصدقين بالفرض والنَّفْل والمتصدقات, والصائمين في الفرض والنَّفْل والصائمات, والحافظين فروجهم عن الزنى ومقدماته, وعن كشف العورات والحافظات, والذاكرين الله كثيرًا بقلوبهم وألسنتهم والذاكرات, أعدَّ الله لهؤلاء مغفرة لذنوبهم وثوابًا عظيمًا, وهو الجنة.




التصنيفات
منوعات

تفسير لسورة الأحزاب

تفسير سورة الأحزاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات 1 ـ 3

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا)

ينادى الله تعالى رسوله ويقول :

يا أيها النبى من تقوى الله أن لاتسمع للكافرين ولا تستشيرهم فالله أحق باتباعه لأنه أعلم بكل الأمور باطنها وظاهرها وحكيم فى أقواله وأفعاله

عليك باتباع ما جاءك فى القرآن وأوحى إليك به من ربك فالله لا تخفى عليه خافية من أعمالكم

وتوكل على الله فى جميع أمورك ويكفيك الله وكيلا وحسيبا

الآيات 4 ، 5

(جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ *ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )

كما أن لا يمكن أن يكون للرجل قلبين فى جوف جسده

فإنه لا يمكن أن تصير الزوجة أما لزوجها حتى يقول لها أنت علىّ كظهر أمى كما علمنا فى سورة المجادلة آية 2 من قبل

وأيضا لا يمكن أن يصير الدعى للرجل الذى تبناه إبنا له

فهذا قول بأفواهكم فقط وليس من الحق فى شئ

فالله هو الذى يقضى بالعدل ويقول الحق ويهدى إلى الصراط المستقيم .

انسبوا الأبناء إلى آبائهم الحقيقية فهذا هو العدل عند الله

فإن لم تعلموا من يكون آباءهم فهم إخوانكم فى الدين ومواليكم

وذلك عوضا لهم عن ما فاتهم من النسب

ومن فعل ذلك من قبل أن تنزل آيات الله فلا حرج عليه فقد رفع الله عن الأمة الخطأ ولكن الإثم على من تعمد الباطل ومخالفة الشرع

وهى نزلت فى شأن زيد بن حارثة وسوف تشرح بالتفصيل فى الآية 40 من السورة

الآية 6

(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا)

( النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) : يعلم الله حرص النبى على مصلحة المؤمنين وشفقته عليه ووصفه بأنه أولى بهم من أنفسهم

( وأزواجه أمهاتهم ) : وزوجات الرسول أمهات للمؤمنين توقيرا واحتراما وإكراما وتتلقى منهن الموعظة ولكن هذا فى القدر فلا تجوز الخلوة بهن

( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله ) : وكما أن ذوى الأرحام أولى ببعض فى حكم الله فإن …

( من المؤمنين والمهاجرين ) : فالأقارب من المؤمنين المهاجرين والأنصار أولى ببعض فى التوارث بسبب ما كان بين المهاجرين والأنصار من مؤاخاة ورحمة حتى بدون النسب

( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) : فإذا ذهب الميراث يبقى البر والصلة والإحسان والنصر والوصية بين المهاجرين والأنصار

( كان ذلك فى الكتاب مسطورا ) : هذا فى حكم الله مكتوبا فى اللوح المحفوظ ومقدر لا يبدل




الآيات 14 ـ 17

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولا *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لّا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلا *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)

هؤلاء الذين يدعون أن بيوتهم عورة ويخافون عليها فلو دخل الأعداء عليهم من كل جانب حول المدينة وكل قطر من أقطارها وطلبوا منهم الكفر لكفروا سريعا ولا يتمسكون بإيمانهم مع أول فتنة

لقد عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يهربوا من قتال والله سيسألهم عن هذا العهد

فرارهم هذا لن يؤخر عنهم الموت أو القتل ولن يتمتعوا بعد فرارهم هذا إلا قليل

قل لهم يا محمد من الذى يمنعكم من الله لو أراد بكم السوء أو أراد لكم رحمة فليس لكم من الله مانع ولا عاصم ولا مجير

الآيات 18 ـ 19

(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلا *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)

هؤلاء المعوقين لغيرهم عن دخول الحرب للقتال الذين يقولون لأصحابهم وعشيرتهم تعالوا لما نحن فيه من خير بعيدا عن القتال فهم لا يلقون من الشدة إلا القليل

بخلاء عليكم بالمودة والرحمة إذا جاءهم الخوف تراهم كأنهم يموتون من شدة الخوف والجزع من القتال

وإذا كان الأمن تكلموا بفصاحة عالية ونسبوا لأنفسهم الشجاعة والنجدة واستقبلوكم ( سلقوكم ) بنفس شحيحة تطلب الغنائم وفى القتال هم أجبن من خلق الله

هؤلاء ليسوا بمؤمنين وأبطل الله عملهم وهذا سهلا هينا على الله .

الآية 20

(يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلا)

ومن صفات جبنهم أنهم يظنون أن الأحزاب لم يذهبوا ، وأنهم قريبون منهم يهاجموهم فى أى لحظة

ولو أتى الأحزاب يودون أنهم لا يكونون حاضرين معكم فى المدينة ويكونون فى البادية يسألون عن أخباركم مع عدوكم

ولو كانوا معكم لم يقاتلوا معكم إلا قليلا لجبنهم وخوفهم




الآيات 21 ، 22

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا *وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)

أمر الله بالتأسى برسوله الكريم فى الأقوال والأفعال والأحوال وصبره فى يوم الأحزاب ومجاهدته وانتظاره الفرج من الله

وقال الله أن من يتأسى برسوله فهو مؤمن مصدق بوعود الله وله الجزاء والعاقبة يوم القيامة

المؤمنون قالوا عكس ما قاله الكافرون ، لقد قالوا هذا وعد الله ورسوله وما وعدنا إلا حقا من الأختبار الذى يعقبه النصر وجاهدوا حتى نصرهم الله

وهذه المحنة زادتهم إيمانا بالله ورسوله وانقادوا لطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم

الآيات 23 ، 24

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا *لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)

وكما أن المنافقين نقضوا عهدهم ، فإن المؤمنين استمروا على عهدهم مع الله ورسوله

ومنهم من انتهى أجله على عهده ففاز ومنهم من ينتظر نصر الله وعلى عهده معه

ولم يبدلوا هذا العهد حتى قتلوا

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طلحة ممن قضى نحبه "

نحبه : نذره

وسيجزى الله المؤمنين الجنة لصدقهم ، وللمنافقين العذاب الأليم ولو شاء الله فإنه يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله هو الغفور الرحيم لمن يرى أنه يستحق المغفرة

الآية 25

(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)

وهكذا أنزل الله على الكافرين الجنود من الملائكة وأرسل الريح ليهزم الكافرين والأحزاب وردهم خائبين بما يحملون من أوزار وآثام

وأعز المؤمنين وكفاهم القتال وأعادهم إلى بيوتهم بغير قتال

والله منع بعد ذلك المشركين من غزو المسلمين وإنما كان المسلمون هم الذين يغزونهم فى بلادهم .

والله بحوله وقوته رد الأحزاب والمنافقين خائبين .

الآيات 26 ، 27

(وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا *وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)

وكان يهود بنوا قريظة قد ناصروا الأحزاب وجعلوهم ينقضوا عهدهم مع المسلمين ، وبعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل وهو يغتسل فى بيت أم سلمة وقال له انهض إن الله أمرنى إلى بنوا قريظة أن أزلزل عليهم

فأمر الرسول الناس بالمسير إليهم وكانت على أميال من المدينة وذلك بعد صلاة الظهر وقال لهم " لا يصلين أحد منكم العصر إلا فى بنى قريظة " فادركتهم الصلاة فبعضهم صلى خوفا من دخول المغرب والبعض انتظر لتنفيذ أمر الرسول حتى وصلوا إليها وتبعهم الرسول وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة وجيئ بسعد بن معاذ ليحكم فيهم فقال " إنى أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم

فأمر رسول الله بحفر أخاديد فى الأرض وجئ بهم فيها مكتفين وضربت رقابهم وكانوا ثمانمائة وسبى الصغار مع النساء والأموال

وأنزل الله الآية

فقال أن من عاونوا المشركين من بنوا قريظة وهم أهل كتاب كان الله معينكم أيها المسلمون أن تنزلوهم من حصونهم ( صياصيهم ) وقذف فى قلوبهم الخوف كما فعلوا مع المسلمين وكان الجزاء من جنس العمل وجعل الله المسلمين يأسرون فريقا منهم ويقتلون فريقا آخر

وجعل لكم أرضهم وأموالهم

وأرض خيبر ومكة جعلها لكم

والله قادر على كل شئ لا يمانعه أحد .




الآيات 28 ، 29

(*يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا *وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا)

سألت زوجات الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم النفقة ورغد العيش

أمر من الله للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخير زوجاته بين رغد العيش وزينة الدنيا وبين الله والجنة والصبر على ما عند رسوله من ضيق العيش

ومن تريد الدنيا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسرحها لتتزوج غيره ويعطيها متاعها

ويعد الله من تريد الله ورسوله بالجنة والجزاء العظيم فى الآخرة

فاخترن الله ورسوله.

الآيات 30 ـ 31

(يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا)

ويعظ الله نساء النبى اللاتى اخترن الله ورسوله والدار الآخرة بأن من تأت بفاحشة واضحة ( النشوز وسوء الخلق ) فإن ذنبها يكون عظيم مغلظا لمكانتهن الرفيعة فيضاعف لها العذاب صعفين فى الدنيا والآخرة

وهذا سهل على الله هينا .

وكذلك من تطع الله ورسوله ينعم الله عليها بالجنة وأجرها يضاعف فى أعلى الدرجات

وأعد لها الله منزلا كريما فى الجنة

الآيات 32 ـ 34

(يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا *وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا *وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)

يعلم الله نساء النبى صلى الله عليه وسلم وتبعا لهن نساء الأمة آداب عليهن اتباعها

فقال من التقوى لله أن لا تخضعن بلحن القول مع الرجال فيطمع فيكن من لا تقوى عنده

وإن تحدثتن فعليكن بالكلام الذى ليس فيه ميوعة ولا ترقيق فلا تتحدث بالكيفية التى تكلم بها زوجها

وعليكن بالقرار فى بيوتكن وعدم الخروج إلا لقضاء الحوائج وللصلاة ولو أن الصلاة فى بيوتكن أفضل

وإذا خرجتن فلا تتبرجن كما كانت تتبرج المرأة فى الجاهلية ( لأن فى الجاهلية كانت لهن مشية وتكسر وتغنج )

وللحجاب شروط ( فضفاض ، لا يشف ، يغطى الجسد كله ، غير مزين بزينة ـ وليس زينة فى ذاته ، ولا يشبه لباس الكافرات ، غير معطر ، ليس فيه خيلاء ، ولا يميز شخصية مرتديه )

قال النبى صلى الله عليه وسلم " إن المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان "

وقال " صلاة المرأة فى مخدعها أفضل من صلاتها فى بيتها ، وصلاتها فى بيتها أفضل من صلاتها فى حجرتها "

ثم يأمر سبحانه زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة والزكاة والإحسان لأن الله يريد أن يطهر زوجات الرسول وأهل بيته ويطهر المسلمات والله بلطفه يعلم نفوسكن وخبير بما ينفعكن لتتلون القرآن وتعلمن نساء المسلمات وتكن قدوة لهن فيقمن بما تفعلن

ما هو تبرج الجاهلية الأولى ؟

قال بن كثير فيه

هى الفترة بين نوح وادريس وكانت ألف سنة واختلف العلماء فى تحديد الفترة

كان بطنين من ولد آدم أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل

أهل السهل كانت النساء جميلات والرجال دميمة

وأهل الجبل كانت الرجال جميلة والنساء دميمة

أتى إبليس بغلام دميم من أهل السهل وكان يخدمه وأتى إبليس بمزمار وزمر به بأجمل ما يسمع فاجتمع الناس له واتخذوا عيدا يجتمع النساء والرجال كل سنة وتتبرج النساء للرجال وتتزين لهن الرجال

نزل لهم رجلا من أهل الجبل وهجم عليهم فى عيدهم فرأى النساء الجميلات فأتى بأصحابه ونزلوا إليهم وظهرت الفاحشة بينهن

وهذا قول الله ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )

ومضمونه هو اختلاط المرأة بالرجل وبطريقة سافرة




الآية 35

(*إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا *)

قالت أم سلمة للنبى صلى الله عليه وسلم : مالنا لا نذكر فى القرآن كما يُذكر الرجال ؟

فسمعت الرسول وهو على المنبر يقول : " يا أيها الناس إن الله تعالى يقول : ( إن المسلمين والمسلمات ……. ) إلى آخر الآية .

الإسلام : آداء الفرائض الخمسة وهى الصلاة والصوم والزكاة والحج والشهادتين

الإيمان : هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر واليوم الآخر

القنوت : الطاعة فى سكون

الصدق : الصدق فى الأقوال والأفعال وهو علامة الإيمان والكذب علامة النفاق

الصبر : على المصائب والإبتلاءات والصبر على الطاعات وعلى العلم

والثبات عند الصدمة الأولى

الخشوع : السكون والطمأنينة والهدوء والتواضع والخوف من الله

المتصدقين : الإحسان إلى الناس بالمال والمساعدة بالجهد والعون

الصوم : الإخلاص مع الله فى الصوم وتدريب النفس على كسر الشهوات

الحافظين فروجهم والحافظات : عن المحارم والمآثم

الذكر : ذكر الله باللسان والقلب والجوارح

1 ـ باللسان : وهو بالتحميد والتكبير والتسبيح والتمجيد

2 ـ بالقلب : وذلك بالتفكير فى آيات الله وصفاته وأسرار المخلوقات

3 ـ بالجوارح : وهو الطاعات والبعد عن المنهيات

أعد الله لمن تحلى بهذه الصفات من ذكر أو أنثى المغفرة لذنوبهم والجنة وحسن الثواب