الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن سنة الله -تعالى- قد مضت بأن يتباين خلقه في منازلهم، ويتفاوتوا في مراتبهم، ومن ذلك: تباين الزمان؛ فتختلف الأزمنة وتباين، كما تختلف الأمكنة وتباين، فمعلومٌ تفضيل مكة على سائر الأمكنة، كما فُضل رمضان على شهور الأزمنة، فهذه سنة الله في خلقه.. أنهم متفاوتون متباينون، وعلى قدر ذلك يحصل التقدير بالتيسير؛ فيسر لكل مرتبة ما هي أهل له من الأحكام والحقوق والواجبات.
فلما تفضلت بقعة مكة -شرفها الله تعالى- كان لها من الأحكام والحقوق والواجبات ما لم يكن لغيرها، كذلك في زمن رمضان الشريف، وقد فضلت لياليه وشرفت بليلة القدر، فجعل له من الأحكام ما يليق بمرتبتها وشرفها، فهذه سنة الله الجارية.
ويتعين على العبد في سن الله -تعالى- وعادة تقاديره أن ينظر فيها متدبرًا بعض ما لها من معان وحكم، وفي قضائه -سبحانه- تفاوُتَ منازل الخلق حتى تباينت مراتب أفراد الجنس الواحد، مشاهد عجيبة وحكم بديعة تستنبط من العبد أنواعًا من التعبد ما كان له تحصيلها بغير ذلك النظر.
فمِن ذلك أن الله -تعالى- ما فاضل بين أفراد المخلوقات عبثًا -سبحانه-، بل في ذات ذلك المفضل ما يستحق به التفضيل، وكل ذلك بتقدير الله -تعالى-.
فضَّل ليلة القدر لشرفٍ فيها وفضل مكة لشرفٍ فيها؛ فلما شُرِّفَت ذاتها ترتبت الأحكام على ذلك التشريف بما يظهره عملاً يكلف به العباد، فأحكام التفضيل أدلة على شرف ذات المفضل، فإذا وجدنا أن الشرع اعتنى بأفراد من الزمان أو المكان فذلك دليل على تفضيل ذوات تلك الأفراد على سائر أجناسها، وبتفاضل الزمان والمكان يحصل التنبيه على تفاضل الأعمال، فهما عرضا كل عمل، فلا عمل إلا في زمن هو فيه مفعول، وموضع هو به مشغول، فإذا تفاوت عرضا العمل، نبه ذلك على تفاوت الأعمال.
والأعمال بتفاوتها تنبيه على تفاوت العاملين وتفاضل أعيان المكلفين، فإن تفاوت أعمالهم لتفاوت ذواتهم، فذواتهم متباينة في تفضيل الله -تعالى- لها، وحبه إياها، بل وكل ما يترتب على تلك المحبة من التوفيق والآثار، كما في التفضيل والتشريف في الأجر والمثوبة، والدرجات في الجنة، كأن ذلك كله معلق على فهم تلك السنة الجارية، وهذه الأيام العشر المباركة التي سيقت إلى العبد بخيرها وفضلها؛ بغير سؤال منه ولا طلب؛ لهي محركة إلى مواضع ذلك النظر، منبهة إلى أمر من وراء ذلك التفاوت. فكأن العبد ينظر إلى الله -تعالى- يشاء ويصور، يريد ويقدِّر، يخلق ويختار، فكان هذا التباين كله، بين كل الخلق، بل بين أفراد جنس الخلق الواحد، بل بين عمل المرء الواحد.
فكأن تلك السنة صارت نافذته التي يرى منها قدرة الله القاهرة وحكمته الباهرة، فيشهد بذلك عزة الله -تعالى-؛ ليتعبد القلب في ذلك بما يشهده من عزته، عزة مطلقة، فهو العزيز -سبحانه- في حكمه، العزيز في تقديره، عزَّ فقدر، عزَّ فخلق فصوَّر، عزَّ فشاء ودبَّر، عزَّ فضَّل وتخيَّر؛ وأعطى كل خلقٍ بحسب ما سبق به علمه. فهو ناظر بقلبه إلى الله -سبحانه وتعالى-، وقد تفرد بعزته، فليس يشوش شهوده لوصف العزة شيء البتة، فإنه كما خلق وصور في الأرحام كيف يشاء؛ فإنه يختار ويفضِّل كيف يشاء، فهل يعارض القلب في ذلك منازع؟! وهل يحجزه عن شهود ذلك مانع؟!
فالفضل الذي في الأيام المسوقة إليه؛ كذا كل تفاضل في الزمان أو المكان لموقظ قلبه لشهود معاني العزة، إذ إن تلك المقدرات خارجة عن قدرته قطعًا، لا تجري عليها أدنى تصرف لأحد من دون الله، فليس للعبد فيها مشيئة، ولا تدركها منه إرادة، فلا كسب له في ذلك ولا سعي، فتفضلت أيام رغم أنفه، وتباركت بقاع ولو على كره منه. فشهود تفرده -تعالى- بعزته في تصريف ذلك والاختيار فيه ميسور الفهم، قريب المنال، يكاد لا يخفى لبادي النظر والتفكر، إلا أن من وراء ذلك شهودًا آخر، هو أخفى من الأول وأجلُّ.. فإن استصحاب العبد ذلك المشهد القريب، مما لا كسب فيه ولا اختيار، يسمح بشهوده تفرد الله -تعالى- مطلقًا في كل شأن؛ جاريًا كذلك على ما له فيه كسب وسعي، أو جُعل له عليه إرادة ومشيئة، فكل ذلك يسري فيه ما سرى في غيره، ويجري عليه ما شهده فيما سواه، كله لله مقدور، وتحت مشيئته مقهور.
فيشهد عزة الله -تعالى- وقد تفرد بالتصريف والتدبير والاصطفاء، فيهب العبد ما شاء من رزق الطاعات، وكسب الصالحات؛ ليفضله بذلك ويقربه إليه، أو يمنع عنه ما شاء ويحجبه بما شاء، فيشهد قوله -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ الَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (الأنفال:24)، فلا يتقدم العبد إلا بما لربه من العزة، ولا يتأخر.
فكما تشرق الشمس وتغرب، وكما يتعاقب اليل والنهار، فهو كذلك بسعيه تحت قدرة اللهi مقهور، وكسبه لمشيئة ربه مقدور، فهو بذلك يشهد تفردًا آخر أعلى من الأول، ويجد من معاني عزة الله -تعالى- أسمى مما وجد من قبل؛ فيزداد علم القلب بالله وتقوى معرفته بمولاه، من باب اسمه العزيز -سبحانه-، فتلك المعرفة خاصة تزيده من الله -تعالى- خشية؛ إذ بيده سعيه الذي به يترقى، وبمشيئته كسبه الذي به يفضَّل.
ومثل ذلك المعنى قد يخفى في بادي النظر؛ لما يعرض من تشويش الكسب ودعوى الملك للعبد، فلا يجلو له هذا الشهود بينًا، إلا أن النظر الأول من شهود عزة الله -تعالى- فيما خرج عن قدرته وسعيه، وقيام ذلك في قلبه بازغًا؛ يسَّر له الشهود الثاني وقرَّبه، وأقامه في نظره وجلاه، ولعلك أن تجد ذلك إذا ما تدبرت قوله -جل ذكره-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ الَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر:27)،.
فتأمل كيف صار النظر في سنة الله -تعالى- بتفاوت خلقه وتفاضلهم دليلاً على شهود عزته في كل فضل ؛عطاءً ومنعًا، فتحًا وإمساكًا، رفعًا وخفضًا، فأورثت تلك المعرفة القلبَ محبة لله -تعالى- وتعلقًا، وخشية وقلقًا، ورجاءً وتملقًا.
أما المحبة فإنه لما أطلعه -تعالى- على معاني أسمائه وصفاته، فتأكد في قلبه حب صاحب تلك الأسماء الجليلة والصفات الجميلة، والتعلق لما وجد من تلك الأسماء آثارها في قلبه من التعزز به والوثوق فيه والتوكل عليه، والخشية من نفاذ مشيئته فيه وقضائه عليه بعدله، فيحوِّل عنه قلبَه، وتقضي عزته -سبحانه- بمنعه ما من قبل وهبَه. وقلق على فوات حظه منه، ومن محبته ورعايته، والرجاء لما وجد مطلق حكمه بالعطاء لا يحجزه شيء ولا يعجزه، فتولد في القلب طمع في واسع عطائه. والتملق ليتعبد بسؤاله، والتخشع بين يديه طلبًا لما عنده من الاصطفاء والتفضيل، ودفعًا لما يمكن أن تقضي به عزته فيكون.. من الإبعاد والتضليل، قضاء عزيز قاهر؛ فناسب أن يكون المتعبد به في هذا الموضع من أسمائه سبحانه: (العزيز).
ثم انظر كيف توصل القلب باسم العزيز ليتعبد لله -تعالى- باسم الغفور، لتحصل طمأنينة للقلب بعد ما تملكه الخوف والقلق من مضاء قضاء عزته -سبحانه-، فإذا به -تعالى- يدركه بلطفه ورحمته، ويذكره بعفوه ومغفرته، ومن ذلك المقام تشهد نكتة لطيفة فيما ثبت أن أكثر ما كان يقسم به -صلى الله عليه وسلم-: (لا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ) (رواه البخاري)، وكان كثير الدعاء بقوله: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِ) (رواه أحمد والترمذي، وصحه الألباني)، فهو أعرف الخلق بالحق، وأعلم الناس بالله -تعالى-، وأقوم العباد بشهود تلك المعاني من العزة المطلقة التي تستوجب خشية تامة في قلبه -عليه السلام- والله تعالى أعلم.
ومن المعاني التي يجدها العبد بالنظر في فضل تلك الأيام كذلك: الالتفات إلى سوق الله لها إليه، فإنها مسوقة إليه، وهو محمول إليها، بلا سؤال منه ولا سعي. فهل تراه سأل الله سوقها؟ هل تراه طلب من الله تفضيلها؟ بل خلقها على وفق ما أراد، ثم ساقها للعبد، وما رتب فضلها على كسب العبد، بحيث لو طاب من العبد عمله طابت به تلك الأيام، ولو حسن من العبد كسبه بوركت هذه الأزمان، بل هي فاضلة في نفسها أحسن العبد أم أساء، طاب أم خبث، فهي فاضلة تحمل الخير والبركة، فحق ذلك أن يحدث في قلب العبد نوعًا آخر من أنواع مقامات الشكر، فما أكرم الله! وما أسبغ نعمه! وما أسبق جوده!
يسوق للعبد ما يطهره ولو تركه لهلك، بل يسوقه إليه بلا سؤال منه ولا طلب، ثم يستحب فيه أنواعًا من الطاعات التي سنها له بغير سؤال منه ولا طلب، ثم يتفضل بقبولها منه؛ وهو الغني -سبحانه- عنه، بل ويطهره بها ويثيبه عليها بلا سؤال منه ولا طلب، فنعم الرب ربنا. فذلك الزمان الفضيل أيام تحمل بين ساعاتها مراتب زائدة من عبودية الشكر، فإن الله -تعالى- جعل الأزمان لغاية التذكر والشكران، فقال جل ذكره: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (الفرقان:62)، فحق تلك الأيام المخصوصة بالفضل أن يقابل العبد ذلك بمخصوص الشكر، فهو شكر من وراء شكر، شكر يستغرق من القلب كل شأنه حتى يستبد به، فالقلب يغمره حال الشكر والامتنان برؤية مزيد فضل المنان، لا يلفته عن شهود مزيد الفضل شئ، بل هو متوجه إلى ربه من كل جهاته مقرًا ومعترفًا بمنته وفضله، موقظًا في النفس همتها لتنبعث تحدث بنعمة الله -تعالى-.
وذلك الشكر المخصوص في مقابل مزيد الفضل لا يسلم من العبد حتى ينتظم من وراء أشكر الخلق -صلى الله عليه وسلم- مقتديًا بحاله المشرف -عليه الصلاة والسلام- ومقاربَه.
فإنه لما أنعم الله عليه بوافر النعم، وأكرمه بجزيل الكرم؛ قام لله شاكرًا، باطنًا وظاهرًا، بل قيام شكر باطنه أقام منه ظاهره حتى تورمت، بل تفطرت قدماه، ثم نبه على ذلك بقوله -عليه السلام-: (أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.) (متفق عليه).
فأفضل الأحوال حال نبينا -صلى الله عليه وسلم- في السر والعلانية، في الظاهر والباطن؛ قيامًا بحق شكر تلك النعم الجزيلة، وهذه المواهب الجليلة التي وهبه الله -تعالى-.
وفي ذلك انتقال لمعنى ثالث من نتائج النظر في تلك الأيام، وهو أن عنوان ذلك الزمان الفاضل الذي أتاك بغير سؤال منك ولا طلب: عنوانه: "الانقطاع لله عن كل ما سواه"؛ ذلك أن لكل زمان فاضل عنوانًا، فعنوان زمان رمضان هو الامتثال بحبس النفس عما تشتهيه مما أبيح لها، فينشأ بذلك انقباض لحظوظها، وانكماش لدائرة الجائز لها فتبتعد عما لا يجوز، فانحسار المباح يكشف عن حرم جديد يكون بينه وبين الحرام، وهذا هو عين التقوى، وهي مقصود زمان رمضان وغاية عبوديته.
أما عنوان ذلك الزمان الشريف الآتي إليك في أيام ذي الحجة: فهو الانقطاع والتبتل والتجرد، بحيث ينقطع للهi وينقطع عن كل ما سواه، وحق ذلك أن يكون على ظاهر العبد وباطنه، فيتلبس ظاهر العبد بالأعمال المشرفة، من وظائف الخدمة بطاعة الله -تعالى-، ويتلبس باطن العبد بالتجرد لله -تعالى- إخلاصًا وحبًا وقصدًا، فظاهره منشغل مستخدم في وظيفة من وظائف الخدمة والطاعة، وجوارحه مستأجرة في الأعمال الصالحات. وكذلك باطنه منشغل، قد استغرق قلبَه في تحقق التجرد والإخلاص والقصد لله، لا يتعلق بغيره، ولا ينظر إلى ما سواه، كل شيء سوى الله قد اضمحل، بل تلاشى ولا يجد له أثرًا بعد عين، ذهب عن قلبه وراح، يرجو ألا يعود.
فإن كان لابد أن يعود، فحق تلك الأيام ألا يعود فيها، فلا يشوب فيها حقَّ التجرد والإخلاص والقصد والتوجه والمحبة والتعلق بالله -تعالى- شيء فيتحقق ذلك الانقطاع وقد تلبس باطنه بحسن التجرد والقصد ويتحقق ذلك الانقطاع وقد انشغل ظاهره بالوظائف. فلا تجد في تلك الأيام من العبد لحظات قد فرغت فيها جارحة عن انشغال بوظيفة من وظائف الخدمة والطاعات، بل جوارحه مستأجرة مستغرقة، لا يكاد العبد يرى من نفسه فراغًا في لحظات تلك الأيام، بل عاداته لابد أن تتبدل في تلك الأيام، فما منه بدٌ تركه، وزهد فيه، فحق تلك الأيام ألا تجعل زمانا لفضول العادات. فإن لم يكن منه بد؛ من أمور المعاش، استحدث لها في القلب نيات لم تكن فيما سوي تلك الأيام، نيات ترتحل بها تلك العادات إلى مواقع العبادات، بل عاداته تختلف في ظاهرها، تختلف صورها، فإن خرج لقضاء حاجاته، خرج بوجه آخر غير ذلك الوجه الذي يخرج به في غير تلك الأيام، خرج منبسطًا، باذلاً معروفه، قد أوقف على المسلمين كريم خلقه، علم أن تلك الأيام أيام انقطاع وظائف؛ فبخل وشح بتلك الحظات التي يقضي فيها حاجات لابد له منها في تلك الأيام، شح بتلك الحظات ألا تكون موظفة ومستغرقة كذلك في البر والطاعات، فكلماته اليوم تختلف عن سابق الكلمات، فمن سمع كلماته قال هذه كلمات تختلف، ومن رأى وجهه، قال نرى وجهًا غير الذي كنا نراه، ونسمع صوتًا غير الذي كنا نسمع، فهذا من آثار انقطاع العبد مع الله.
وأكمل ما يكون من الأعمال لقيام تلك الحال في تلك الأيام المباركة هي أعمال الحج، فالحج يحقق معنى التجرد عن كل ما سوى الله، فالحج ينزع عن العبد كل ما يعرض لأمر تجرده وانقطاعه، مما شغله قبل في سابق الأزمان، مما نازع في قلبه من قبل تجريد التعلق بالله، حتى إن ظاهره ليدل على مراده وغاية سعيه، فترى ذلك الانخلاع حتى أنه ينزع عن نفسه ثيابه، ينزع عن نفسه زينة الدنيا، يخلع رق الدنيا، لا يريد أن يكون بعد ذلك اليوم عبداً لشيءٍ منها، فقد علم أن للخميصة عبيدًا، فلا يريد أن يتعلق قلبه بشيءٍ من تلك الدنيا، يخلع وينزع ، ولولا العورة لحج بيت الله عاريًا!
فهو لا يريد من الدنيا متاعًا إلا ما يبلغه، فمتاعه في الحج بلاغ يتبلغ به، يشح بنفسه، يشح بوقته أن يضيع في غير ما ذكرنا من الانشغال بوظائف الطاعات.
فهذا التجرد في ظاهره والانخلاع عن زينة الدنيا وعن أسبابها، لهو الدليل على ما حقه أن يكون في باطنه وقلبه من الانخلاع من أسباب الدنيا، من نزع ما يتعلق به القلب، أن ينزع من نفسه ما تعلقت به من تلك الأسباب والدعاوى، من المِلك والكسب والحسب والجاه والمال والولد، فهو الآن في عملية استخلاص، فكأن نفسه تخلُص مما قد شابها، فإذا تم له الانقطاع ظاهرًا وباطنًا فقد استنقذ نفسه بتخليصها، وحقه أن يرجع من حجه كيوم ولدته أمه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) (متفق عليه)،
حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فإذا فات العبدَ الحج، لم يفته ما فيه من الغايات، فإن فات العبد أكمل أحوال ذلك الزمان؛ وهو أن يتلبس بالانقطاع لله ظاهرًا وباطنًا عن كل ما سواه قاصدًا بيته الحرام متجردًا لله -تعالى- عن كل أسباب الدنيا = فإنه لا يفوته تحقيق غاية ذلك، فغاية ذلك تنصرف إلى كل ما دون الحج من وظائف الخدمة والأعمال الصالحات، فما زال من العمل الذي لا يمكن أن يفوته الكثير، العمل الذي به يحقق تلك الغاية ولو في مرتبة أدنى من مرتبة الحج، فإذا ما صلى استصحب ذلك المعنى فانشغلت جوارحه بالانقطاع لله عن كل ما سواه، فأحسن الصلاة وأتم أركانها واجباتها واعتنى بمستحباتها وسنها، خرجت منه صورة الصلاة على ما يرضى به الله، اقتداءً بما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم اعتنى في صلاته بأن يحقق الانقطاع والتجرد فيما طلب.
فتلك صلاة تختلف عن كل صلاة. هي صلاة صارت بدلاً عن الحج إلى بيت الله الحرام في تلك الأيام، صلاة يجرد فيها باطنه، يتخلص فيها قلبه من كل شائبة، ومن كل تعلق، ومن كل تفكر وتدبر إلا فيما يتلوا من كلام الله، إلا في إحسان ما تَعبده الله -تعالى-. فإذا صام فصومه غير الصوم الذي مضى وراح.
وإذا تصدق فصدقةً أخرى يتحقق بها غاية الحج، وإذا ما ذكر الله ذكره منقطعًا، منقطعًا باطنه مخلصاً بنفسه من شائبة التعلق بكل ما سوى الله.
فهو يحقق بالأعمال وإن صغرت في عين فاعلها غاية الحج الأكبر -غاية الوقوف بعرفة – غاية الطواف – غاية السعي بين الصفا والمروة – غاية رمي الجمرات – غاية نحر الهدي – غاية فعل الصلوات في تلك البقاع المباركات، فتلك الأعمال المشرفات العظيمات لها غايات محمودات، وإن فات الأعمال؛ لم تفت العبدَ تلك الغايات والأحوال، فلابد أن يستصحبها فيما دون ذلك مما أقدره الله عليه من الأفعال.
ولقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- على أتم الأحوال في كل الأزمنة والأمكنة، متحققًا في حاله المشرفة ما أمره به ربه فقال: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) (المزمل:8)، وقال -جل ذكره-: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163)، فهو أتم الأحوال وأرقى المقامات منقطعًا لله طوال حياته.
فتلك الأيام المسوقة إلى العبد لهي مُعينة له أن يترقى ليُداني مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما أعجزه طوال العام؛ فلا يعجزه تلك الأيام، فإنه يعان فيها على أن يحقق الانقطاع التام ظاهًرً وباطنًا لله؛ ليكون على حال تقارب حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
في كل الأزمنة، وفي شتى الأمكنة حتى آخر لحظات الحياة، فهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أعجز حاله كل العباد، ما يستطيع أحد أن يأتي منقطعًا لله كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرحمكم الله، وأعانكم الله، وساق إليكم تلك الأيام التي يعان العبد فيها على الاقتداء والاهتداء بتلك الحال المشرفة التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من التبتل والانقطاع لله، وأن يقاربها بما فيها من أحوال مشرفة ظاهرًا وباطنًا.
فالمقصود والمفترض الآن أن يختلف الحال عما كان، أن يختلف حال العبد فيما يستقبل من تلك الأيام التي سيقت إليه عما يكون في غيرها، أيام تحمل إليه ويحمل إليها، بل ويحمل فيها على أعمال؛ ليحقق غاية كان النبي -صلى الله عليه وسلم- محققها على الكمال في كل حال؛ ليحقق في تلك الأيام غاية من أجلها كان تشريع الحج الأكبر، فإن فات العبد حج بيت الله لم يفته أن يحقق تلك الغاية -والله تعالى أعلم-.
فائدة:
يقول -صلى الله عليه وسلم-: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى الَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ). فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ الَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصحه الألباني).
فمما تقدم نفهم ذلك الإشكال الذي قد يعرض لبعض الناس: كيف يفضل العمل الصالح في تلك الأيام الجهاد في سبيل الله فإنه يفضل كل صور الجهاد إلا صورة، فالذي تفضل به العمل الصالح في تلك الأيام على كل عمل صالح ولو كان جهادًا في سبيل الله في غيرها من الأيام ما ذكرنا من المعاني والغايات أن حق تلك الأيام أن تستخرج من العبد همةً ونشاطًا بتحقيق الانقطاع فهو منشغل بعنوان تلك الأيام بغاية هذا الزمان، الانقطاع ظاهرًا وباطنًا لله.
فقدم ما فيها من عمل تحقق فيه التجرد لله -تعالى- عن عمل آخر في غير تلك الأيام مما قد يشوبه ما ينقص به ذلك العمل؛ إلا صورة عمل واحد، وهي صورة رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء فإن الحاج وهو أتم أحوال الأعمال في تلك الأيام قد خرج بنفسه وماله فإذا رجع فقد رجع بشيء، فإن رجع المجاهد بشيء مثله لم يفضل عليه بل فضل الحاج عليه لتحقيق غاية الانقطاع في تلك الأيام، فإن رجع الحاج إلى أهله فإنه لا يفضُل من لم يرجع بشيء، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) والله أعلم.