الحياة الزوجية حلمُ كل فتاة وفتى، وحين يتم الزواج تتمازج الأرواح في جاذبية عجيبة، فمن خلال العشرة الطيبة والتعامل المستمر بين الزوجين، ونتيجة للحب؛ تذوب المشاعرُ، وتبعًا لهذا تنصهر كينونة الرجل والمرأة ويصبحان شخصية واحدة، فكلاهما يتطبع بالطبع نفسه، وينتهج الأسلوب نفسه.
والكثير نسمعهم يقولون: فلانة تغيرت بعد زواجها، أو فلان تغير بعد زواجه، فهل هذا التغير والانصهار يعد إيجابا أو سلباً، وكيف يحافظ كل شخص على كينونته وأسلوبه برغم حبه لمحبوبة، وهل الحب يعني الذوبان والانصهار! وهناك أزواج وزوجات كل منهم يتشبث برأيه ويحافظ على كينونته لئلا ينصهر وليحقق ذاته، ومن هنا يحصل الخصام، ولا بد من التنازل لتسير الحياة.
"الألوكة" استطلعت آراء المتخصصين في هذه القضية الأساسية في الحياة الزوجية:
أسس الحياة الزوجية:
استهل أ. إسماعيل رفندي (المستشار النفسي) ذلك بقوله: "أعتقد أن الحياة الزوجية يجب أن تبنى على أسس ثلاثة، وأن تراعى هذه الأسس قبل وبعد هذا المنعطف الخطير والمهم؛ الخطير لأن أي خلل فيه يؤدى إلى معاناة وتوريث المشاكل، ومن ثم إلى تعاسة في الحياة الزوجية، ومهم لأنَّ بناء الحياة الاجتماعية يبدأ منه، وتشارك في تكامل شخصيه الإنسان رجلا كان أو امرأة.
الأساس الأول: التفاهم: أي معرفة كل منهم عقلية الآخر، والاتفاق على أكبر قدر من النقاط المشتركة، وتحديد الأولويات، والاعتراف بالرأي الآخر في جميع مسائل الحياة.
الأساس الثاني: التعارف: وليس معنى التعارف معرفة المظاهر وأسماء وألقاب الآخر، ولكن المراد منه معرفة الذات، ومعرفة ما في أغوار أنفسهم وطبائعهم، وبأي شيء يتأثر ومدى استجابته للسلبيات والإيجابيات، ولا بد من أخذ الاحتياط؛ لأن أي انحراف نفسي يؤدى إلى ما هو أسوأ، يجب أن يدرك ويعالج بسرعة.
ثم يُضيف أ. إسماعيل رفندي قائلاً:
"الأساس الثالث: التكافؤ: والتكافؤ ليس معناه أن يكونا متساويين في التحصيل الدراسي والمستوى المعيشي والنسب، ولكن الأولى أن تكون سماتُ وأنماط الشخصية متقاربةً، تقارب الميل والطموح والتصورات وأهداف الحياة، وكيفية التعامل مع تلك المجالات, إذًا التفاهمُ يقرب الزوجين إلى الاتفاقات الحساسة, والتعارف يطمئنهم في كيفيه التعامل, والتكافؤ يخلق التقدير والاحترام، سواء كانت المسألة متعلقة بذواتهم أو مجالات حياتهم, هذا من الناحية الاجتماعية والنفسية، ولكن أرى أن نلتزم بكل دقة واهتمام أمام التأكيدات القرآنية والنبوية مثل الأخلاق والاستقامة والدين؛ لأن ضعفه يؤدى إلى الخيانة الزوجية وهضم الحقوق، وبحكم ممارستي للعلاج النفسي يوميا، ألتقي أناسًا أصبحت حياتهم الزوجية في خطر بسبب إهمالهم للأحكام الشرعية فيما بينهم.
معنى الذوبان الزوجي:
ومن ناحية أخرى يُوضح أ. عادل بن سعد الخوفي (المستشار الأسري) معنى كلمة الذوبان الزوجي بقوله: "(الذوبان الزوجي) مصطلح يطلق حين تفقد شخصية أحد الزوجين استقلاليتها، لتتلاشى أو تذوب أمام شخصية الطرف الآخر.
ويحصل عادة بسبب:
1- أن تكون شخصية أحد الزوجين متسلِّطة متفرِّدة، وشخصية الآخر ضعيفة مهزوزة.
2- نظرة بعض المجتمعات للمرأة، وأنَّها تابعة للرجل، منفِّذة لأوامره وتوجيهاته فقط.
3- تربية القهر والحرمان التي عاشتها الزوجة قبل زواجها، أو خشيتها فِقدان أطفالها.
4- المحبة المتمكِّنة التي يحملها أحدُ الزوجين للآخر، فيُذيبُ شخصيته كسباً لمرضاة شريك حياته.
5- الفهم الخاطئ لمفهوم قوامة الرجل، فيتحول إلى شخصية مستبدَّة، تُطالِبُ بالطاعة المطلقة.
6- رغبة أحد الزوجين تجاوزَ الخلافات المتكررة، خشيةَ الانفصال، أو تأزُّم الحياة الزوجية.
ثم يؤكد أ. عادل الخوفي سلبية هذا الذوبان بقوله: "ومظاهر هذا الذوبان سلبية جدا في حياة الزوج أو الزوجة، فعنده تُسلب الآراء والقناعات والأفكار والأهداف، ويطفو الكبت والإحباط، فالرأي ما يراه الطرف القوي، والحكم حكمه، والأمر أمره، ويبقى الضعيف ريشة في مهب الريح، فمهما كان من حكم على مجريات الأحداث، أو رأي هنا أو هناك، فإنه يبقى حبيس الفكر، مُنِعت عنه مقومات الحياة، والنهاية موت بطيء في الشخصية، واعتماد مطلق على الآخر، وتبلُّد وعدم مبالاة.
إن العلاقة بين الزوجين يجب أن تكون علاقة مسئولية من طرفين لا من طرف واحد، علاقة شريكين مسئولين عن تحقيق أهداف الزواج التي شرعها الله تعالى، ومنها تحقيق أجواء المودة والرحمة التي هي سر نجاح البيت المسلم، من خلال الكلمة الطيبة، والنصيحة الدافئة، والقدوة الحسنة، والأدوار المتكاملة.
ومن هنا نحتاج أن نحفظ لكل زوج شخصيَّته التي ارتضيناها حين ارتضيناه زوجاً، نحتاج إلى علاقة مبنيَّة على التكامل لا التصادم، فمعيار التكامل يعني أن يستفيد كل طرف من المهارات والصفات الإيجابية لدى الطرف الآخر، ويرى أن نجاح شريك حياته نجاح له، ومن هنا يسعى إلى تحفيزه، ومساعدته، وتهيئة الأجواء الإيجابية لتنمية هذه المهارات، وتوظيف هذه الصفات في بناء شخصياتهما، وتربية أولادهما".
الأسرة الناجحة:
ثم يُضيف أ. الخوفي قائلاً: "إننا لا نُلزم، كما لا نعارض التكافؤ، ولا حتى التطابق التام، إلا أن المتأمل في حياة الأسر الناجحة منذ صدر التاريخ، يجد أن احتفاظ كل طرف بشخصيته، ما دامت إيجابية، مطلب لنجاح الأسرة، واستقرار أحوالها، وتربية أبنائها التربية الصالحة.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال التالي:
1- أن يَتَعَرَّف كل زوج خصائصَ شريك حياته، ويعمل على استثمارها لتوثيق علاقتهما، وتربية أولادهما.
2- العمل على التحاق الزوجين بدورات أسرية ومهارية متخصِّصة؛ لإكسابهما ثقافة وقدرات عملية.
3- تعزيز كل زوج لأفكار ومرئيات شريك حياته، مع فتح قنوات حوار إيجابي بينهما.
4- الاحترام والتقدير الخالص المتبادل بين الزوجين، وخصوصاً أمام الأسرة أو الأولاد.
5- استحضار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في أسلوب تعامله مع أزواجه رضي الله عنهن.
6- تهذيب نزعة التسلط والاستقواء لدى الزوجين ليحل مكانها خصال المودة والتعاون.
7- البعد عن المعاصي، وتطوير الذات، وتنمية القدرات، والثقة بالنفس: أسباب لقوة الشخصية.
يقول علماء النبات: (في الغالب إذا زرعنا نباتين بالقرب من بعضهما، فإن جذورهما تتداخل، وتُحَسِّن من حالة التربة، فينمو النباتان بصورة أفضل)، فالناتج -من اتفاق الزوجين، وتعاونهما، واستثمار مهارات كل منهما- أفضلُ بكثير من ناتج فرد لوحده، فالعلاقة الإيجابية المبنية على الاحترام بينهما، عنصر من عناصر النجاح، ويكون ذلك بأن يُثَمِّنُ كل واحد منهما الفروق الفردية للطرف الآخر، ويحترمها، ويتَّخذها نقطة قوة، تُعين في سداد نقاط الضعف لديه.
لا أن تكون علاقتهما ببعض جافَّة متوتِّرة، تعتمد على الأوامر والنواهي وحسب، فإن هذا الفهم مخالف للشارع الحكيم، ويساعد على هدم الحياة الزوجية لا بنائها، وفي تعاستها وشقائها، لا سعادتها وهنائها.
الذوبان القسري:
ويسترسل أ. عادل الخوفي موضحاً بقوله: "هذا (الذوبان الزوجي)، بصورته الغالبة في المجتمع، سلبي، يساعد على تجنيب شريك الحياة، وتحطيم شخصيته، وخلخلة ثقته بنفسه، وعدم الاستفادة من القدرات التي حباه الله إياها، ومن ثم حرمان الأسرة من شخصية كان الأولى بها أن تكون فاعلة مؤثرة، وفيه حرمان المجتمع من إيجابية إحدى لَبِناته، فكيف لأم أن تربي أبناءها وهي مسلوبة الرأي، مقهورة الحس، ليس لها في مملكتها حول ولا قوة!! وكيف لأب أن يقود أسرة، وقد قُيِّدَتْ يداه، فلا سمع له ولا طاعة!
ثم إنَّ في هذا (الذوبان القسري) حرمانًا من التميز والإبداع في العلاقات الزوجية، وفيه مخالفة لمنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتعامل مع زوجاته رضوان الله عليهن معاملةً فيها غاية الاحترام لرغباتهن، وإحساسهن، وشخصياتهن المستقلة، وتقدير رؤاهن وعقولهن، فقد كان يستشيرهن في أشد الأمور حساسية، ويقبل منهن، ومن ذلك استشارته صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها، في صلح الحديبية عندما أمر أصحابه بنحر الهدي وحلق الرأس فلم يستجيبوا، فدخل مهموماً حزيناً على أم سلمة في خيمتها، فقالت له: اخرج يا رسول الله، فاحلق وانحر، فحلق ونحر؛ فإذا بأصحابه كلهم يقومون قومة رجل واحد فيحلقون وينحرون، وكذا استشارته لخديجة رضوان الله عليها حين نزل عليه الوحي، واستجابتها معه صلى الله عليه وسلم.
(أم سعد، وأم مهند) فتاتان في العقد الثالث من العمر، عايشْتُ أحداث حياتهما عن قرب، تزوجتا منذ ثلاث سنوات، وكلتاهما ذاقت طعم (الذوبان الزوجي).
إلا أن الأولى (أم سعد) كانت أكثر بؤساً وشقاءً، فلم يدم زواجها أكثر من ثلاثين شهراً، إذ إنَّها طلبت إنهاء هذه العلاقة، بعد أن تَجرَّعت كأس الهموم والأحزان؛ تقول عن نفسها:
تزوَّجتُ رغبةً في إعفاف نفسي، ولكي أجد في زوجي شريكاً لحياتي، ومعيناً على استكمال نجاحاتي التي بدأتها في مقاعد دراستي، ولبناء أسرة مطمئنة ناجحة طالما حلمتُ بتحقيقها؛ ومع الأسف، لم أجد في زوجي ما كنتُ أحلم به، ولم تَشفع لي كفوف الراحة والخدمة التي أحطت زوجي بها، ولا توسلاتي وجلساتي التي حاولتُ من خلالها أن أوصل صوتي إليه، فلم يكن يرى الزوجة شريكة لحياته، فهو الآمر الناهي، وعليها السمع والطاعة، وليس لي حين النقاش والحوار إلا الألفاظ المقيتة، والكلمات العنيفة.
وكانت خياراتي: إما أن تتلاشى أهدافي وأحلامي، وأذوب في حياتي الزوجية لأتحوَّل إلى ظل سلبي لزوجي، لا حول لي ولا قوة، فأموت غماً وحزنا، أو (الطلاق)، فاخترت الثاني، بعد استخارة واستشارة.
وأما الثانية (أم مهند) فقد ذاقت أيضاً (الذوبان الزوجي)، ولكن بمذاق آخر، فهي تسأل الله أن يديم عليها هذا الذوبان على خير، تقول:
تزوَّجتُ من أبي مهند بعد أن سألتُ عنه، أعجبتني فيه صفات لم أجدها في نفسي، لم أكن خالية من المهارات والصفات الحسنة، لكنه أَسَرَنِي بدماثة أخلاقه، ومراقبته لربه، وحرصه المستمر على تثقيف نفسه، وتطوير قدراته، وبفضل الله، تعاهدنا منذ أول أيام زواجنا على أن نكون شيئاً واحداً، أهدافنا، وإحساساتنا، ومشاعرنا، ننصهرُ لنكوِّن شيئاً واحداً شعاره التكامل، والحب، والتعاون، أستفيد من تجاربه وخبراته، ويستفيد من مهاراتي وقدراتي، ولله الحمد والمنة، فقد كان لنا ما نرجوه، ونرجو أن يُتِمَّ الله علينا فضله وستره وتوفيقه.
إننا أمام (ذوبان قسري)، شَقِي أصحابه، إذ إنه اعتمد التضاد والتصادم و(الأنا) البغيضة معياراً في التعامل، و(ذوبان اختياري)، سَعِدَ أصحابه، لوجود مساحة رَيَّانة من الود والتفاهم وتلاقي المشاعر، والفرق بينهما كبير.
سلبيات الذوبان الزوجي:
وتوضح أ. سحر علي المصري (مديرة جمعية مودة للإرشاد الأسري في طرابلس) معنى الذوبان الزوجي بقولها: "(الذوبان الزوجي) تعبير دقيق عن حالة قد يعيشها عدد من الأزواج أو الزوجات، ولها آثار سلبية على الحياة الزوجية واستقرارها، والذوبان الزوجي هو ذوبان أحد الزوجين في الآخر وبذلك يتم إلغاؤه وتجنيبه وعدم السماح له بالمشاركة الفعلية في اتّخاذ القرارات أو حتى إبداء الرأي، فيتحوَّل بذلك إلى (أداة) تتحرك وَفقَ رغبة الشريك دون أدنى تعبير أو إثبات للوجود، والذوبان يكون للرجل كما يكون للمرأة.
ثم تُضيف أ. سحر المصري قائلة: "وعلى الرغم من فداحة هذا الأمر في كلتا الحالتين إلا أن ذوبان الرجل في المرأة مرفوض أكثر ولا يمكن تقبّله، ويجعل الرجل محط استهزاء وسخرية، فلا يستسيغ المرء رؤية رجل ضعيف خاضع للزوجة أو لغيرها، فصورة الرجل التي تشكّلت في أذهان الناس أنه قوي قادر على حماية العائلة واتخاذ القرارات، فتشويه صورة الرجل بالذوبان تقلل هذه المعاني للرجولة.
وقد فرَّق المهتمون بأمور الأسرة بين الذوبان "الكلّي" والذوبان "الجزئي"؛ فذمّوا الذوبان الكلي، إلا أنهم وجدوا أنه في بعض الأحيان لا بد أن يمارس أحد الطرفين الذوبان "الجزئي" للحفاظ على الأسرة، وعادة ما تلجأ الزوجة إلى هذا الأسلوب لتجنّب الاصطدام مع الزوج خاصة إن كان غير متفهِّم ولا يراعي الحوار والتقدير والشورى الواجب احترامهم كأسس للعلاقة الزوجية.
وقد نجد بعض النساء اللواتي تربّين على أن الرجل هو السيد الآمر يتقبّلن فكرة الذوبان الكلي ويجدنه طبيعياً ودليلَ عافيةٍ للأسرة، وتبقى المشكلة مع النساء اللواتي استقللن وتعبن على تثقيف أنفسهنّ، فهؤلاء لا يمكنهنّ تصور وجودهنّ زوجات يتحركنَ كدمى في يد الرجل، وفئة أُخرى يدفعها الحب والعشرة الطيبة بينها وبين الزوج إلى قبول الذوبان الجزئي نتيجة مكنون العواطف تجاه الشريك.
أسباب الذوبان الزوجي:
ثم تُوضح أ. سحر المصري الأسباب المؤدية إلى الذوبان الزوجي بقولها:
• المواريث الخاطئة المكتسبة في مفاهيم الطاعة والقوامة والرجولة.
• القصور في فهم عوامل استقرار الأسرة.
• تقليد الآباء والأمهات في مسار الحياة الزوجية.
وأسباب خاصة بالشخص المذاب:
• الشخصية الضعيفة غير القادرة على اتخاذ القرارات.
• ضعف الثقة بالنفس والشعور بالدونية.
• الحب الكبير المؤدي للخضوع التام.
وأسباب خاصة بالشخص المذيب:
• محاولة إخفاء النقص في الشخصية بالسيطرة.
• الشعور باللذة والارتياح نتيجة إحكام الأمور في قبضة اليد.
• الغيرة من إمكانيات الطرف الآخر والخوف من التسلط.
• الخوف من بروز وتفوق الطرف الآخر.
مظاهر الذوبان الزوجي:
ثم تُضيف أ. سحر المصري قائلةً: "أما عن مظاهر الذوبان الزوجي فمنها:
• إلغاء الطرف الآخر.
• تجاهل آرائه ووجوده وعدم اعتباره.
• عدم استشارته في أي أمر حتى لو كان يخصّه.
• عدم إشراكه في أمور البيت والأولاد.
• عدم تشجيعه على تطوير نفسه ولا دعمه معنوياً.
وأما نتائج الذوبان الزوجي:
• كبت مزمن.
• طلاق صامت، فعلي أو عاطفي.
• إحباط ويأس.
• تبلّد وسلبية.
• فقدان الأمان.
وتُشدد أ. سحر المصري على خطورة الذوبان الزوجي بقولها: "الذوبان الزوجي بلا شك أمر خطير في الزواج؛ إذ إن الزواج في الأصل شركة حياة بين الزوج والزوجة، وليس شركة بيت فقط، فالزوج والزوجة يكملان بعضهما ويتعاونان على خدمة هذه العائلة، ولكلٍّ مسؤولياته التي يرعاها وحاجاته التي يجب توفيرها وإلا اهتزّت أعمدة الاستقرار في العائلة وانتهت إما إلى طلاق فعلي وإما إلى طلاق صامت.
فهذه "المؤسّسة" التي يديرها الزوجان لا يمكن أن تزدهر وتستمر "رابحةً" إلا إن توفّرت مقوّماتُ النجاح لها، وأساسُها شعورُ الزوجين أنها شركة فعلية بينهما ليشعرا بوجودهما وأهميتهما فيها، وقد قال الحبيب عليه الصلاة والسلام: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
مقومات نجاح الشراكة:
ثم تبين أ. سحر المصري مقومات نجاح الشراكة بقولها: "وتلخّص مقومات نجاح الشراكة في الآتي:
• صياغة دستور مشترك يحدِّد وظائف وأعمال كلٍّ منهما بشكل واضح.
• التعاون في حل المشكلات الأُسرية.
• التشاور في كل أمور العائلة وأدق التفاصيل فيها.
• أخذ الرأي حتى في الأمور اليومية.
• الاتفاق على كيفية تربية الأولاد والولادة وغيرها من الأمور.
• التقريب في وجهات النظر في حال الخلاف.
• وضع دستور في بداية الحياة الزوجية عن كيفية التعامل بينهما.
• المشاركة في وضع الأهداف الاستراتيجية للعائلة.
• الحرص على احترام أفكار الطرف الآخر والاهتمام بوجهة نظره.
وفي استيضاح وُزِّع على عيّنةٍ عشوائية تشمل مائتي زوج ومائتي زوجة تبيَّن أن هناك أولويات مشتركة بينهما في الحياة الزوجية ولعلّ أهمها كان: الاحترام المتبادل الشامل، وعدم الاحترام لا يتمثَّل فقط في الضرب والشتم والسباب، بل إن مجرد التجاهل وعدم أخذ الرأي والمشاركة في القرار وتسفيه الأعمال والأقوال هو أشد مظاهر فقدان الاحترام الذي يؤذي معنوياً إلى درجة كبيرة ويحدِث تباعداً بين الزوجين فتنتفي رُوح المودّة والرحمة والسكينة التي هي ركائز الزواج الأساسية كما جاء في القرآن الكريم؛ قال الله جل وعلا: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
يقول الدكتور مأمون مبيض: "إن المشاركة في السلطة ليس خسارة لأحد الطرفين، وإنما دعم وقوة للمجموع. وقد أصبح الأصل في العلاقة الزوجية التكافؤ والصداقة والاحترام، وعلى كل طرف، ليس فقط تجنب ما يزعج الآخر، وإنما أن يسعى أيضاً للقيام بما ينفع الشريك الآخر، إنهما معاً على أرض واحدة، كشريكين مسئولين متعاونين في اتجاه واحد".
ويضيف: "وعلينا أن نضع نصب أعيننا أن الزوج ليس ندًا أو عدواً أو منافساً يجب أن نواجهه ونتحداه، وأن الحياة الزوجية ليست معركة علينا أن نخوض غمارها وننتصر فيها. ولا بد لنا أن نقف عند نقطة هامة وجوهرية، ونعي أنه ليس المهم من بيده سلطة اتخاذ القرار بقدر ما هو مهم أن يكون القرار المتخذ والمعمول به قراراً سليماً وفي صالح الحياة الزوجية".
الطاعة والقوامة:
ثم تضيف أ. سحر المصري فتقول: "جعل الله جل وعلا للأسرة رئيساً واحداً وأعطاه القوامة؛ فقال عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].. ولكن هذه القوامة ليست تسلطاً ولا دكتاتورية ولا تحقيرًا وإنما تهذيب ورعاية..
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: "أي: قوَّامون عليهن بإلزامهنّ حقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه، وكفهنّ عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوَّامون عليهنّ أيضاً، بالإنفاق عليهنّ، والكسوة، والمسكن".
ويفيض سيد قطب رحمه الله تعالى في هذه النقطة فيقول: "ينبغي أن نقول: إنَّ هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في البيت ولا في المجتمع الإنساني، ولا إلغاء وضعها المدني. وإنَّما هي وظيفة داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها، ووجود القَيِّم في مؤسسةٍ ما لا يلغي وجودَ ولا شخصيةَ ولا حقوقَ الشركاء فيها، والعاملين في وظائفها، فقد حدَّد الإسلام في مواضع أخرى صفة قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية وصيانة وحماية، وتكاليف في نفسه وماله، وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله".
وفي المقابل فإنّ طاعة المرأة لزوجها واجب عليها، وقد قال الحبيب عليه الصلاة والسلام: "إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت"، فإنما هو جنّتها ونارها، ولكن هذه الطاعة التي يجب أن تكون في معروف ليست تقليدًا أعمى وعدم لشخصية المرأة، وإنّما فرضها الله تعالى على المرأة لضمان استقرار الأسرة ولمصلحة جميع أفرادها، فحين تطيع المرأة زوجها ويستشعر زوجها منها هذه الطاعة النابعة من قلبٍ راضٍ ومُحِب، فهذا سيورِث الأسرة من السعادة والاستقرار ما يقرِّب بين أفرادها.
نقطة على حرف:
ثم تختتم حديثها أ. سحر المصري قائلةً: "مهما عظُمَ إدراك ووعي وانشغال الرجل فلن يصل إلى ما وصل إليه الحبيب صلى الله عليه وسلّم، فلا يحتجنَّ أحدٌ من الرجال أنه من العظمة بمكان يؤهّله لإلغاء زوجته، بل إني أراها منقصة فيه أن لا يعرف كيف يحتوي زوجته ويحترم آراءها وأطروحاتها حتى لو لم تكن بالمستوى المطلوب.
فهذا الحبيب عليه الصلاة والسلام وقد كان مشغولاً بإدارة أمّة بأسرها ونشر تعاليم الدين في مجتمع جاهلي إلا أنه لم يتوانَ عن أخذ مشورة نسائه ومشاركتهنّ الآراء والمسؤولية، ليس فقط في أمور البيت، بل فيما يخصّ أمور الأمّة جمعاء! فكان يفضي إلى أهله بما يستره عن غيرهن وفي أمور العامّة وخاصة أمنا عائشة رضي الله تعالى عنها إذ كانت موطن سرّه.
وأضرب في هذا السياق أمثلة لو تأملها الأزواج لعرفوا عظمة هذا الإسلام الذي رفع من قيمة المرأة وجعلها شريكة للرجل وليست تبعاً له وترجم هذه المعانيَ الراقيةَ على أفضل وجهٍ سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم لنقتدي به.
فهذه أمّنا خديجة يلتجئ إليها الحبيب ويشركها فيما أهمّه حين نزل عليه الوحي فخشي على نفسه، فآزرته وزمّلته، وهذه أمّ سلمة يدخل عليها الحبيب عليه الصلاة والسلام ويطلب مساعدتها يوم الحديبية فتشير عليه بحكمتها أن يخرج لينحر ويحلق فيتبعه أصحابه وهكذا كان وفرَّجت أزمة الحبيب عليه الصلاة والسلام الذي أعطى صورة مشرقة عن احترام وتقدير رأي الزوجة، وقد استشار زوجاته أيضاً في أمر تسريحهنّ أو بقائهنّ معه.
همسة إلى الرجل:
وتهمس أ. سحر المصري همسة لكل رجل فتقول: "إنّ الدين القويم هو أحقّ بالاتّباع من العادات، فادرس معاني القوامة والسلطة ورئاسة الأسرة من منطلقٍ شرعيّ وليس من مفاهيم ورثتها عن أهلك، فالمرأة –خاصة إن كانت متعلمة ومثقفة– تستحق المشاركة في القرار، ولكَ في الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة وهو يقول: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وقال أيضاً: "استوصوا بالنساء خيراً".. فاتّبِع!
وأُخرى إلى المرأة:
ثم تُردف أ. سحر المصري بهمسة إلى المرأة فتقول: "قد تشعرين أن زوجك لا يتمتّع بمقوِّمات تؤهِّله ليكون قوّاماً عليكِ، فإيّاكِ أن تُشعريه بذلك، واستخدمي ذكاءكِ لتديري دفّة القيادة من دون إهانة ولا سيطرة ولا سخرية؛ حاوريه واطرحي ما ترغبين بطريقة ذكية دون الإكثار من النصح، وادفعيه إلى أن يأخذ برأيك دون إصرار منك، تقربي منه وتتبّعي حسناته وأبدي له الإعجاب والاحترام، اتّقي الله جلّ وعلا فيه، وادعيه سبحانه أن يعينكِ على إمساك زمام الأمور بحكمة ووعي، أمّا إن كان أهلاً للقوامة ولكنّ "الكبرياء!" تمنعك من الخضوع له فراجعي نفسك قبل أن تغرق السفينة وهيهات أن ينفع الندم!
ثم تضيف أ. سحر قائلةً: "إنّ هذه الرابطة الزوجية قد عبَّر عنها القرآن الكريم بلفظ "الميثاق الغليظ" لأهميتها في استقرار النفوس والقلوب، وأرسى الإسلام لها قواعد وضمانات، وتوسّعَ في تبيان الأسس التي على الزوجين أن يلتزما بها للوصول إلى لبنة متينة في مجتمعٍ إسلامي مستقر ينشده الجميع ويتوق إليه، وما علينا إلا الاتباع لنصل إلى الاستقرار والسعادة".