الطريق إلى التيجان بحفظ الأبناء للقرآن ..!
تظل التربية الصالحة للأبناء هي التجارة الرابحة، والعمل الصالح الذي لا ينقطع أجره عن العبد بعد أن انقطع عمله من الدنيا، بسبب دعاء ولده الصالح، ولعل العبد يجد نفسه في الجنة قد ارتفعت درجاته عما كانت أول أمره فيسأل الله – تعالى -: بم ذلك يا رب؟ فيقول: بدعاء ولدك الصالح لك".
ومن الأرباح التي نجنيها من تربية الأبناء على الصلاح والهدى، مواقف عزة وكرامة وملابس وتيجان نفيسة خير من أرفع ملوك الدنيا قدراً وغنى، تشرئب لها أعناق الخلق يوم القيامة، ولكنها ليست لأحد إلا لمن حفظ ولده القرآن الكريم.!
فقد روى الحاكم من رواية بريدة قوله: " من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به، أُلبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثل الشمس، ويكسى والداه حليتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن"، وأخرج أبو داود عن سهل بن معاذ- رضي الله عنه- أن رسول الله قال: " من قرأ القرآن وعمل به ألبس الله والديه تاجاً يوم القيامة، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس. "
وفي هذه البشارة الرائعة يقول الإمام الشاطبي في قصيدته المسماة ب: حرز الأماني ووجه التهاني- وهي في القراءات السبع-:
فيا أيها القاري بـه متمسكـاًمُجلاً له في كل حـالٍ مبجـلاً
هنيئاً مريئاً والـداك عليهمـاملابس أنوار من التاج والحلي
فما ظنكم بالنجل عند جزائه؟أولئك أهل الله والصفوة المَلا
لقد فهم الصحابة – رضوان الله عليهم- هذين الحديثين حق الفهم، وطبقاهما خير تطبيق، فانطلقوا يعلمون أبناءهم القرآن أحسن تعليم، فعن مصعب بن سعد بن أبى وقاص- رضي الله عنهما- عن أبيه قال: قال رسول الله: " خياركم من تعلم القرآن وعلّمه"، قال: " وأخذ بيدي فأقعدني مقعدي هذا أُقرِىء" رواه أبو يعلى 2/136.
وروى الطبراني عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم، وأخرج الحاكم عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: " سلوني عن سورة النساء فإني قرأت وأنا صغير".
وعلى هذا النهج القويم سار التابعون ومن تبعهم بإحسان، فقد جاء مقدمة كتاب المعلمين لابن سحنون: أن القاضي الورِع عيسى بن مسكين كان يُقرِإ بناته وحفيداته.. قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه وبنات أخيه ليعلمهن القرآن والعلم، وكذلك كان يفعل من قبله فاتح صقلية (أسد بن الفرات) بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. بل تعداه إلى اهتمام الأطفال- أنفسهم- بحفظ القرآن وفهمه، فلقد روي عن الفرزدق- وهو غلام- أن أباه قد أخذه إلى مجلس الإمام علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وقال له: يا أمير المؤمنين اسمع من ابني فإنه شاعر مضر، فقال علي- رضي الله عنه-: علمه القرآن، فعاد الأب بابنه، ولما وصل إلى الدار، دخل الغلام المسجد وربط نفسه بسارية المسجد وآلى لا يفك نفسه حتى يحفظ القرآن، وعبثاً حاول أهله إقناعه وهو في عافية من ذلك، وظل الفرزدق الصبي مصراً على تقييد نفسه حتى حفظ كتاب الله كله، وكان يفك نفسه للوضوء والصلاة فقط وتأتيه أمه بطعامه إلى السارية في المسجد. "
ولكن متى نبدأ؟!
سؤال لابد أن يطرح نفسه، وهو متى يبدأ الطفل في تعليم القرآن؟!
ويجيبنا عن هذا السؤال الخطيب البغدادي في كتابه" الكفاية في علم الرواية"، حيث يقول: قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: رأيت صبياً بن أربع سنين قد حمل إلى المأمون، قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي.. وقال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأصبهاني: " حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحُملت إلى أبى بكر المقرئ لأسمع ولي أربع سنين… وقال أبو عاصم: لا بأس أن يتعلم الصبي الحديث والقرآن وهو في هذه السن ونحوه"
والحكمة في التبكير بتعليم الطفل القرآن الكريم- كما ذكر الحافظ السيوطي-: " تعليم الصبيا القرآن أصل من أصول الإسلام، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها، وسوادها بأكدار المعصية والضلال".
وأكّد ابن خلدون هذا المعنى، بل جعله الأساس الذي ينبني عليه تعلم الصبي لسائر العلوم: " تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات. "
ومما سبق يتضح لنا أعزائي المربين والمربيات- أنه لا صلاح لديننا، ولا نجاح لأبنائنا ولا عزّ لأمتنا، ولا فلاح أو فوز في آخرتنا إلا بعودة صادقة إلى كتاب ربنا، نحفظه نحن وأبناؤنا حفظاً لا يتطرق إليه نسيان، ونفهمه فهماً لا يخالطه لبس، ونطبقه في حياتنا تطبيقاً لا يعتريه تقصير أو إهمال، لعلنا نفوز نحن وأبناؤنا يوم القيامة برضا الله – تعالى -وما أعده لحفظة كتابه العاملين به ووالديهم من حسن الجزاء والتيجان والحُلي.